كثّفت الوفود الروسية زيارتها إلى محافظة السويداء خلال السنوات الثلاث الماضية، وراحت تداوم على زيارة المضافات ولقاء الزعماء التقليديين فيها، وذلك بشكل رئيسي من أجل طرح ملف التسويات الذي لم تُنجزه روسيا بالقدر الذي تتمناه. تنظر العين الروسية بدقة إلى كافة التفاصيل في المحافظة، وتسعى للحضور بشكل مباشر في جميع الفرص السانحة، التي كان آخرها بداية شهر شباط (فبراير) الفائت، عندما زار وفد روسي شيخ العقل حكمت الهجري في بلدة قنوات، في زيارة داعمة له بعد إهانته من قبل رئيس شعبة المخابرات العسكرية في الجنوب السوري.

بدأت القصة عندما اعتقل النظام أحد أبناء السويداء في محافظة حمص، أثناء سعيه للخروج إلى لبنان عبر أحد طريق التهريب، ثم ردت عائلة المعتقل بخطف عدد من جنود النظام في محاولة لمبادلته بهم. تَدَخَّل الشيخ  حكمت الهجري، وطالبَ أفرادَ عائلة الفتى المعتقل بالإفراج عن المخطوفين لديهم ليتم اطلاق سراح ولدهم بالمقابل. وافقت العائلة، لكن النظام رفض تحرير الفتى، وتعرَّضَ الشيخ الهجري لإهانة كلامية أثناء اتصاله مع لؤي العلي رئيس شعبة المخابرات العسكرية في الجنوب، مما أثار موجة غضب وتضامن عامة في المحافظة مع مشيخة العقل.

بدأ النظام العمل على تهدئة الموقف، فأطلق سراح المعتقل. وفي اليوم التالي أعلنت صفحة باسم بلدة قنوات على فيسبوك، معروفة بأنها تعبّر عن الأوساط المقربة من الشيخ الهجري، أنَّ الأخير تلقى اتصالاً من بشار الأسد، الذي أمر برفع يد لؤي العلي عن السويداء، وهو ما تم تفسيره على أنه اعتذار من الشيخ. وقد حاول الجانب الروسي الاستثمار في المشكلة من خلال زيارة قام بها وفد عسكري روسي، حيث قَدَّمَت هذه الزيارة دعماً معنوياً للشيخ.

وكان الحضور الروسي في السويداء قد بدأ منذ عام 2016، عندما تم إطلاق اتفاقٍ أشرفت عليه روسيا بشكل مباشر، يهدف إلى تسوية أوضاع 930 مطلوباً معظمهم ملاحقون لأسباب جنائية، مقابل تجنيدهم في كتائب البعث. وبدا وقتها أن الإشراف الروسي المباشر على تلك التسوية يحمل رسالة على مستويَين: المستوى الأول هو دعم صورة النظام التي كانت قد بدأت بالاهتزاز بشكل واضح، وخصوصاً بعد اغتيال الشيخ وحيد البلعوس مؤسس حركة رجال الكرامة في الرابع من أيلول (سبتمبر) عام 2015. والثاني هو تحجيم دور المليشيات العسكرية المدعومة إيرانياً، مثل الدفاع الوطني وجمعية البستان التي تجند المقاتلين في السويداء.

ثم في حزيران (يونيو) من عام 2018، كان أول احتكاك بين روسيا والزعماء التقليديين والرموز الدينية. وقتها كان المطلب الروسي في أحد الاجتماعات هو إعادة السويداء إلى القبضة الأمنية للنظام مثلها مثل باقي المحافظات التي سيطرت عليها قوات النظام، كما قال الجانب الروسي إن هنالك منظمات إرهابية في السويداء من بينها حركة رجال الكرامة. رفض الحضور وجهة النظر الروسية، وحذروا الجانب الروسي من أي مواجهة مع الحركة قد يؤدي إلى صراع داخلي غير محسوب النتائج.

بدأ الروس يتفهمون حساسية المجتمع المحلي في السويداء، وعادوا بعد شهر إلى دار الطائفة، وقال وفدُهم آنذاك إنه أتى في مهمة رسمية من الحكومة الروسية لإجراء حلول سريعة بهدف تسوية أوضاع عناصر الفصائل المحلية المطلوبين أمنياً. وكان العرض الروسي يتضمن أن تتحول الفصائل المحلية إلى كتائب رديفة لجيش النظام بإشراف روسي عليها، لكن الوفد الروسي لم يستطع إقناع أبناء السويداء بالإقبال على تسوية أوضاعهم أمنياً، أو حل مشكلة الخدمة العسكرية.

لم تمضِ أسابيع على اجتماع الروس ذاك مع الزعامات التقليدية، حتى شنّ تنظيم الدولة الإسلامية هجوماً على عشرة قرى في السويداء في 25 تموز (يوليو) من عام 2018، راح ضحيته 250 من أبناء السويداء، إضافة إلى خطف 36 شخصاً بينهم أطفال ونساء.

عادت روسيا إلى المشهد من خلال إرسال 150 عنصراً من الفيلق الخامس في درعا للقتال ضد داعش في بادية السويداء، كما أعلنت عن قيامها بغارات جوية لاستهداف فلول التنظيم، ثم أتبعت ذلك بتعيين عماد العقباني، من أبناء السويداء، كمنسق للفيلق داخل المحافظة، ليتحول بعدها إلى منسق العلاقات الروسية في المحافظة، الذي يدير علاقة روسيا مع المجتمع المحلي خارج الصيغة الرسمية للنظام.

وقد دخلت روسيا في شهر آب (أغسطس) من العام نفسه بشكل رسمي في محادثات التفاوض لإطلاق سراح المخطوفين لدى داعش، بحسب ما أعلن وقتها شيخ العقل يوسف جربوع لوكالة الأنباء الفرنسية. وكانت الخطوة الروسية الأولى في هذا الملف لقاء زعامات اجتماعية ودينية في السويداء، وطالب الوفد الروسي وقتها بحضور قائد حركة الكرامة الشيخ يحيى الحجار، الذي امتنع عن حضور أي اجتماع قبل اطلاق سراح المخطوفات والأطفال المخطوفين، مما دفع الوفد إلى زيارته في منزله، طالباً منه السماح بنقل تجمعات من البدو من بادية السويداء إلى درعا. رفض الشيخ وقتها النقاش بأي تفاصيل قبل خروج المختطفات، وكان هذا أول لقاء بين ممثلين عن روسيا وممثلين عن الفصائل المحلية المسلّحة.

الزيارة الروسية الثانية للفصائل المحلية في السويداء كانت في تشرين الأول (أكتوبر) من العام 2018، بعد قيام أحد الفصائل بقطع الطرق عن مدينة السويداء احتجاجاً على المماطلة في ملف المخطوفين. بعد ذلك زار وفد روسي قيادة الفصيل في بلدة قنوات، في محاولة للتعرّف على الفصيل عن قرب، وبدأ الجانب الروسي يأخذ دور المسيطر على الأوضاع، وتخلّى عن فكرة إعادة السويداء بشكل قسري إلى حكم النظام بالطريقة التي كان يطرحها منذ بداية عام 2016.

استفادت روسيا من تدويل قضية المختطفات في السويداء، واستقبلت وفوداً من لبنان وفلسطين المحتلة، ولعبت دور الراعي في هذا الملف، حتى أن بوغدانوف قال في هذا السياق إن روسيا تعمل على حماية الأقليات في سوريا وخصوصاً الدروز.

زادت روسيا من رصيد قوتها بعدما استطاعت إدارة المفاوضات لإطلاق سراح المختطفات عند تنظيم الدولة، فدفعت النظام إلى إطلاق سراح 60 معتقلة لديه من تنظيم الدولة، كذلك أفرجت قوات سوريا الديمقراطية عن عدد من الأسرى لديها، إضافة إلى دفع مبلغ 27 مليون دولار للتنظيم، مقابل عودة المختطفات، في حين استطاعت إجبار الفصائل على السماح بنقل عشائر من بدو السويداء إلى ريف درعا، وهو ما كانت تصر عليه روسيا وترفضه الفصائل بحجة أن هذه العشائر تحتوي في صفوفها خلايا من تنظيم الدولة.

لم يعترف النظام بوجود صفقة تبادل مع التنظيم، بل قال إنه تم الإفراج المخطوفين من خلال عملية أمنية. استثمرت روسيا أيضاً في هذه الرواية، حيث أعلنت أن العملية النوعية التي أطلق النظام المخطوفين بنتيجتها كانت بمساندة الجيش الروسي.

المحطة البارزة التالية في الحضور الروسي كانت في 27 آذار (مارس) 2020، عندما بدأ الفيلق الخامس في درعا، التابع لروسيا، بعملية عسكرية على محيط بلدة القريا غربي السويداء، لمنع النفوذ الإيراني من الاقتراب من بصرى الشام والحد من عمليات الخطف بحسب ما أعلن الفيلق. وراح ضحية العملية 15 مقاتل من السويداء، واستطاع الفيلق السيطرة على أجزاء من أراضي بلدة القريا، ما أثار غضباً شعبياً ضد روسيا. حمّلت حركة رجال الكرامة الجانب الروسي المسؤولية، واتهمته بمحاولة إشعال نار الفتنة بين السويداء ودرعا.

لم تجرؤ مشيخة العقل على الوقوف بشكل صريح في وجه الفيلق الخامس المدعوم روسياً،  فقامت بإرسال برقية إلى القصر الجمهوري طالبة انتشار جيش النظام بين محافظتي درعا والسويداء، وإجبار الفيلق الخامس على الانسحاب من الأراضي التي احتلها.

وقد وصلت أصداء الحدث إلى فلسطين، حيث بدأ الرئيس الروحي للطائفة الدرزية هناك موفق طريف، المقرّب من حركة رجال الكرامة، باجتماعات دورية مع السفير الروسي في إسرائيل للانسحاب من الأراضي التي سيطر عليها الفيلق. وتلقّى الشيخ طريف وعوداً بإجبار مسلحي الفيلق الخامس على الانسحاب إلى مواقعهم في مدينة بصرى الشام جنوب شرق درعا، لكن لم يحصل ذلك.

استغلّت إيران حالة التوتر والمواجهات عن طريق ميليشيا الدفاع الوطني، حيث قامت بتوزيع السلاح على الأهالي بهدف حماية أنفسهم، وتزامن ذلك مع عدد من الهجمات التي تعرَّضَ لها مقاتلوا الفيلق الخامس من قبل مسلحين من أهالي القريا. بعدها قدَّمَ الجانب الروسي وعوداً لمشيخة العقل بالضغط على الفيلق للانسحاب، وأثمرت هذه الضغوط عن السماح للمزارعين في منطقة تقدّم الفيلق بالذهاب إلى أراضيهم، شريطة عدم حملهم أي سلاح، وبمرافقة روسية.

آخر هجمات المقاتلين من أهالي السويداء باتجاه الأراضي التي سيطر عليها الفيلق كانت في 29 أيلول الماضي، وقتل فيها 17 مقاتلاً منهم. عادت روسيا للعب دور المفاوض هذه المرة عن طريق الأمير لؤي الأطرش في قرية عرى، الذي تم تفويضه من أهالي القتلى بموجب وثيقة عرفت باسم أولياء الدم.

أفضت المفاوضات إلى انسحاب الفيلق الخامس، وتسيير دوريات مشتركة للفيلق وفصائل محلية، شريطة عدم تواجد أي نقاط عسكرية للدفاع الوطني. تلى هذا الانسحاب زيارة  وفد روسي إلى دار الأمير لؤي الأطرش في عرى.

عاد ممثلو روسيا مرة أخرى إلى مضافة الأمير لؤي الأطرش في قرية عرى جنوب السويداء، وعقدوا اجتماعاً بحضور رئيس فرع أمن الدولة  العميد سالم الحوش،  إضافة إلى مسؤول الأمن العسكري في السويداء العميد أيمن محمد. وقد حاول الجانب الروسي إعادة طرح ملف تسوية وضع المطلوبين أمنياً أو للخدمة الإلزامية، وعرض تسوية للفارين من الخدمة على أن تكون خدمتهم في الفيلق الأول في كل من السويداء ودرعا والقنيطرة، دون إرسالهم إلى الجبهات المشتعلة.

تزامنَ طرح التسوية مع زيارة الوفود الروسية لأحد الفصائل المحلية في السويداء، وترافقَ ذلك مع لغط عن نية الجانب الروسي تشكيل جسم عسكري في السويداء يتبع له مباشرة، مما أثار حفيظة مشيخة العقل، التي خاطبت في كانون الأول الماضي السفارة الروسية في دمشق، وذلك للاستفسار عن حقيقة الشائعات المتداولة حول نية روسيا تشكيل قوات محلية داخل السويداء ضمن ما يعرف بالفيلق الخامس، فيما نفت السفارة الروسية وجود أي نية لروسيا في هذا الاتجاه.

نهاية العام الماضي، وخلال مؤتمر عودة اللاجئين وإعادة الإعمار الذي عُقد في 28 كانون الأول (ديسمبر) في دمشق، أعلن مركز المصالحة الروسي عن اقتراب عمل لجنة المصالحة التابعة له في محافظة السويداء. وبالفعل، تم تأسيس مركز للمصالحة في السويداء بإشراف روسي، وبدأ عمله بداية شهر شباط (فبراير) الحالي، وهو يضم لجنة مشتركة من أفرع المخابرات السورية الرئيسية بإشراف روسي، يستقبل الذين يريدون القيام بتسويات يومي الأحد والخميس في مبنى المحافظة في السويداء ضمن عدد من الشروط، أولها التعهد بعدم الاشتراك في أي مظاهرات، ولا التحريض عليها.

بعد مضي شهر واحد، استطاع المركز استقطاب 250 شخصاً للقيام بتسوية أوضاعهم، وذلك من أصل 22 ألف مطلوباً للخدمة الإلزامية ومئات المطلوبين أمنياً، ليبقى ملف التسويات عالقاً، وتبقى المهمة الروسية في السويداء بعيدة جداً عن الإنجاز.

ولم تكتف روسيا بالعمل على التسويات، ومفاوضة الزعماء التقليديين بهدف إنهاء الحالة الفصائلية وعودة «هيبة الدولة» بشكل كامل، بل استغلّت الوضع الاقتصادي السيء والفقر الذي يعاني منه السكان، وبدأت منذ حزيران (يونيو) من العام الماضي بحملات تجنيد مكثفة للقتال في ليبيا، أو حتى داخل سوريا بإشراف الروس مباشرة. العديد من الشبان الذين كانوا يرفضون الخدمة في جيش النظام، أجبرتهم الحاجة الاقتصادية على التجنّد لحساب روسيا، عن طريق شركات أمنية خاصة وبرواتب تصل إلى 1000 دولار شهرياً، بينما يعادل راتب الجندي في الخدمة الإلزامية في الجيش نحو 20 دولار شهرياً بحسب سعر صرف اليوم. لم تعلّق مشيخة العقل في السويداء على  ظاهرة التجنيد للقتال في ليبيا، في حين دعت رئاسة مشيخة العقل في فلسطين إلى وقف عمليات التجنيد، وملاحقة جميع المسؤولين عنها.

نجحت روسيا خلال العامين الماضيين في إجراء العديد من اتفاقات التسوية في أنحاء سوريا، في مناطق تمكّنت قوات النظام من استعادة السيطرة عليها، لكن الفارق في وضع السويداء هو أن الآلة العسكرية لم تدمّرها، وأنها لم تشهد مذابح كبرى مثل مناطق أخرى، وأن نسيجها الاجتماعي لم يتعرّض للتمزيق عبر القتل واسع النطاق والتهجير القسري خلال السنوات السابقة، وهذا ما يجعل المهمة الروسية أصعب، في منطقة لا يسيطر عليها النظام تماماً، ولم تخرج عن سيطرته تماماً في أي وقت.