تقترب الثورة السورية هذه الأيام من طيّ عامها العاشر، وهي أعوام مرّ فيها على السوريين كل ما يمكن أن يمر على شعب لا تسير الأقدار في صالحه، وينتقل من سيناريو إلى أسوأ مع تتابع الأيام. التفاتةٌ سريعة إلى الوراء تكشف لنا حجم الأذية الهائلة التي تعرض لها ملايين السوريين أفراداً وجماعات. كثير من المآسي تدخل في خانة الأمور التي قُضي أمرها بانتظار تبدّل الظروف. لقد تهدّم البيت، أو احتُلّـت القرية، أو قُتِلَ فلان في الغارة، أو تبدلت خرائط السيطرة: هذه أمور لا نستطيع حيالها سوى الحوقلة ونفض اليدين. إلا أنه ثمة عدد من القضايا التي لا تحتمل التسليم والإقرار بمصيرها المرسوم، فالنقطة لم توضع آخر السطر، والعيون ما زالت شاخصة إلى ما وراء الستارة.
قضية المعتقلين والمخطوفين والمغيبين قسراً هي إحدى القضايا التي يسعى المعنيون بها إلى إحيائها بكافة السبل، عازمين على عدم المساومة على حق المعتقلين في الحرية، وحق ذوي المغيبين قسراً في معرفة مصائرهم. ثمة أسئلة مُلحّة تخص ذوي المعتقلين والمفقودين والمغيبين قسراً، وهي أسئلة لا يمكن لأي مبادرة حلّ مستقبلية في سوريا تأجيل الإجابة عليها أو تهميشها ووضعها على الرفّ أملاً بالوصول إلى تسوية.
هذا ما نص عليه ميثاق حقيقة وعدالة، الذي كان نتيجة تضافر خمس جهات معنية بالمعتقلين والمفقودين والمغيبين هي: رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا ورابطة عائلات قيصر وعائلات من أجل الحرية وتحالف أسر الأشخاص المختطفين لدى تنظيم الدولة الإسلامية داعش (مسار) ومبادرة تعافي. تم إطلاق الميثاق في العاشر من شباط (فبراير) الجاري، واشتمل على عدد من المطالب التي يؤمل أن تُشكِّلَ حجر أساس في أي مبادرة مستقبلية تخص العدالة الانتقالية في سوريا، على أن يكون ضحايا الاعتقال والإخفاء القسري وذووهم أصحاب الكلمة الأخيرة في هذا الشأن.
تضم التشكيلات الخمس التي أطلقت الميثاق «الناجين/ات، وأهالي ضحايا الإخفاء القسري والاعتقال التعسفي والانتهاكات التي رافقت أو نتجت عن الإخفاء القسري والإعدام خارج نطاق القانون والتعذيب والانتهاكات الجنسية»، وفق ما ورد. ويطالب الميثاق بـ«الإفراج الفوري عن المعتقلين/ات والكشف عن مصير المختفين/ات والمغيبين/ات قسراً، والوقف الفوري للتعذيب والجرائم الجنسية، وإلغاء المحاكم الميدانية والاستثنائية، وتسليم رفات المتوفين بسبب الاعتقال والإخفاء القسري، والتغيير في المؤسسات الأمنية والقضائية، واعتراف أي حكومة مستقبلية بالحقيقة وإنشاء آليات لتخليد الذكرى حفاظاً على السردية التاريخية، وتعويض الضحايا وجبر الضرر، وتشكيل آلية محاسبة وضمان عدم إفلات المجرمين من العقاب».
تم الإعلان عن إطلاق الميثاق عبر ويبنار تم بثّه مباشرة على فيسبوك، شارك فيه ممثلون وممثلات عن المنظمات الخمس التي أطلقت الميثاق، من خلال حوار سيّرته الصحفية اللبنانية ديانا مقلّد، وشاركت فيه ماري كاوريدا، المستشارة في شؤون سيادة القانون في الخارجية الهولندية، ورام بندهاري، ممثل الشبكة العالمية للناجين والضحايا.
ضمن توصياته بشأن السلام ومستقبل سوريا، يشير الميثاق إلى رفضه التعامل مع المعتقلين/ات كأسرى حرب، وإلى ضرورة تضمين دستور سوريا المستقبلي لبنود تضمن حرية وكرامة السوريين/ات، وتُجرِّمُ الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري والتعذيب والمحاكمة خارج القضاء. لافتاً إلى أن إعادة الإعمار وعودة النازحين واللاجئين أمورٌ لن تتحقق دون الوقف الفوري لكافة أعمال الاعتقال والتعذيب والإخفاء القسري.
السيدة مريم الحلاق، من رابطة عائلات قيصر، قالت في كلمتها أثناء إعلان الميثاق، إن «عشرات آلاف الشبان السوريين مختفون قسراً في سجون عفنة تحت الأرض، ويموت كثير منهم يومياً… معظم الأسر السورية لديها معتقل أو أكثر في انتظار كشف مصيرهم والإفراج عنهم.. لقد طال انتظارنا كأصحاب الألم، وكان لا بد لنا أن نبادر وأن نضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته». لافتة إلى أن الميثاق «هو خطة عمل من أجل المعتقلين والمخفيين والمخطوفين، ولا بد من العمل الجماعي والتضامن». مطالبة جميع الفاعلين بتبنّي هذا الميثاق والعمل على أساسه.
الكارثة أكبر مما نتخيل
دياب سرية، من رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا، قال في حديث للجمهورية إن «ضحايا الاعتقال والإخفاء القسري وذويهم هم الأشخاص المعنيون بهذه القضايا، ويجب أن يكونوا جزءاً أساسياً من أي حل أو مبادرة تخص مستقبل سوريا». مضيفاً أن الكارثة «أكبر مما نتخيل، ونحتاج عملاً طويلاً وشاقاً، قد يمتدّ لسنوات، لمعرفة حجمها الحقيقي. ويجب للشروع بذلك أن يتم الاعتراف بكل مطالب الميثاق، وتبنيها من الفاعلين في الشأن السوري من دول ومنظمات وهيئات سياسية ومدنية».
هذا الميثاق هو نقطة انطلاق يتلوها الكثير من العمل، بحسب سرية، وهناك حتى الآن تجاوب أولي إيجابي مع الميثاق ومطالبه، إذ تبنته عدة منظمات وهيئات، بينها المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان. ويشير سرية إلى أن «التشيكلات التي أطلقت هذا الميثاق ستعمل على أن يكون بمثابة حجر أساس أو سقفٍ أدنى ومنطلقٍ للمطالب لا يتم التنازل عنه، فالمعتقلون والمختفون ليسوا ورقة للتفاوض ولا يمكن المساومة على مصائرهم». لافتاً إلى أنه «يجب على كافة الجهود أن تتضافر، محلياً ودولياً، ذلك أن حملات المناصر العابرة لا تكفي، ويجب العمل الدائم والحثيث على هذا الملف الشائك».
الميثاق خطوة أولى
خليل الحاج صالح، من تحالف أسر الأشخاص المختطفين لدى تنظيم الدولة الإسلامية داعش (مسار)، أوضح من جهته في حديث للجمهورية أن الميثاق هو «خطوة أولى سيتلوها عدة مراحل من العمل الهادف إلى دفع المنظمات والهيئات الحقوقية والجهات الدولية إلى تبني هذا الميثاق، واعتماده كإطار عمل لمستقبل سوريا». مضيفاً أن الميثاق يسعى إلى ترسيخ هذه البنود والمطالب كأمور «فوق تفاوضية، وعصية على المساومة، ذلك أن القائمين عليه هم أصحاب الحق في القضية وهم من يمثلونها، وعلى المفاوضين والمنخرطين بالعملية السياسية إدراك ذلك والعمل في ضوئه». وأكد الحاج صالح على أن الميثاق «هو خطوة انطلاق ومحدد للرؤية»، مشيراً إلى أن «الآلية الدولية أبدت تجاوباً مبدئياً مُشجِّعاً مع الميثاق»، مطالباً جميع السوريين، أفراداً وتنظيمات، بتبنيه وتبني مطالبه.
تتبلور في هذا الميثاق رؤية الناجين/ات والضحايا وعائلات المعتقلين والمختفين قسراً، وهو خطوة هامة على طريق إبقاء أصحاب الشأن في صلب أي عملية سياسية تطال آثارها حقوقهم وحقوق ذويهم، ذلك أن حضور منظور الضحايا أمرٌ جوهريٌ في بناء أي قضية عادلة، كما أن كل فاعلية سياسية لا تضع منظورهم في صلبها ستبقى قاصرة، وهذا بالتحديد ما يُكسِبُ إطلاق هذا الميثاق وتبنيه أهمية استثنائية اليوم.