خرجتُ من سوريا محتفظًا بعلاقةٍ ودية مع مساجدها. كانت المساجد حتى وقت خروجي، أواسط آب 2012، قد ارتبطت بصيحاتِ الناس التي عجزت عن شقّ طريقها في الشوارع والساحات، بينما كانت هي ملاذًا لآلاف الأصوات التي تريد امتلاك حقّ الصراخ.
تلك العلاقة الودودة توطّدت وأخذت مساحاتٍ أوسع بعد الوصول إلى أوروبا، حيثُ يغذّي الفقدُ حنينًا لا منطقيًّا، خفيَّ المُبرِّرات.
وصلتُ إلى السويد ليلَ الثاني والعشرين من شهر نيسان (أبريل) 2013. أي قبلَ أربعة أيامٍ بالضبط من رفعِ الأذان عبرَ مكبراتِ الصوت لأول مرة في تاريخ السويد. في يوم الجمعة، السادس والعشرين من الشهر ذاته، ارتفعَ الأذانُ عبر مكبّرات الصوتِ المثبّتة في أعلى مئذنة مسجد (بوت شيركا – botkyrka) على أطراف العاصمة ستوكهولم. كانت السلطات المحلّية وقتها قد سمحت بارتفاع الأذان عبر مكبرات الصوت، وفق شروطٍ محددة، من بينها ألا تتجاوز المدة الثلاث دقائق وخمس وأربعين ثانية. وألّا تتجاوز شدّة الصوت الـ 60 ديسيبل!
أمرٌ لم يدم طويلًا، حيثُ أنّ ارتفاع الأذان في المسجد الذي بُني في منطقةٍ تعتبرُ حاضنًا انتخابيًا مُهمًا لأحزابِ اليمين، واليمين المتطرف، أثارَ جدلًا بين السكّانِ المحلّيين الذين قاموا بعدّة حركاتٍ احتجاجية أمام المسجد وفي محيطه، قبل أن يتعرّض المسجدُ للحرق في ظروفٍ غامضة بعد ذلك بحوالي السنة، وتتوالى الحرائق في عدة جوامع مع نهايات العام 2014 وبدايات العام 2015.
وبالعموم، فإنّ سماعَ الأذانِ في المدن الأوروبية لا يتركُ الانطباعَ الذي يتركُهُ سماعُهُ في المدن ذات الغالبية المسلمة. يقول صديقٌ يعيشُ في غرناطة: إنّ الأذانَ في جامع غرناطة الكبير يستبطنُ ملْمحًا من ملامحِ الانخراطِ ضمن خطابٍ إسلاموي يوتوبيّ عن المدينة، التي عاشت تحت الحُكمِ الإسلاميّ زمنًا. باتَ غابرًا جدّاً الآن!
عشتُ سبعَ سنواتٍ دون أدنى شعورٍ بتواجدِ دورِ العبادة. فهي، وإن كانت مُتاحةً للمؤمنين على اختلافِ أديانهم ومذاهبهم وطوائفهم، ممنوعة من أن تكونَ مؤثرةً على من هم خارجها.
وعليه، فإنّ اقتصار الجوامع على من في داخلِها في أوروبا، جعلني خاسرًا حسابيًا: لا أصلي، ولا حظّ لي حتى في سماعِ الأذان!
تتعاظمُ قيمة الأشياء حين نفقدها. لقد أكل الغبارُ هذه الحكمة وحان وقت الاستفادةِ منها!
حُسنُ أصوات مؤذّني إسطنبول، واختلاف المقامات التي يؤدى عليها الأذان حسب أوقات الصلاة، حيث لكل أذان مقام- جعل العلاقة مع مآذن المدينة لطيفةً وودودة. ليس فقط في المساجد التي باتت معالم سياحية مثل جامع محمد الفاتح أو سليمان القانوني (أو بتلك التي كانت معالم سياحية مثل آيا صوفيا!) إنما في القسم الآسيوي أيضًا، الأناضولو، كما يسميه الأتراك رسميًا.
ولئن كانت هذه العلاقةُ مع دورِ العبادة، بالنسبةِ لمنفيٍّ سوري كان لهُ الحظّ في الوصولِ إلى أوروبا، حيث البلاد التي لا تكتفي بفصلِ الدينِ عن الدولة، بل تذهبُ إلى فصلهِ عن التأثيرِ في الحياة العامّة، علاقةً تحملُ في ثناياها شبهةً استشراقيّةً، فإنّ تلك الهواجس، وذلك الشعورُ الغامضُ بالرّاحة إزاء تواجدي في مكانٍ لا يَعتبرُ الأصوات الخارجة من دورِ العبادةِ «عورة»، كانت مثارَ استغرابٍ لدى كثيرٍ من الأصدقاء، السوريين وغير السوريين، ممن وجدوا في إسطنبول ملاذاً آمنًا لهم بعيدًا عن عسفِ أنظمتهم التسلّطية، وقوى الأمر الواقع التي تتحكّمُ بالمفاصلِ العامة في الأماكن التي جاؤوا منها.
فالمساجدُ بالنسبةِ لسوريٍّ خرجَ منتصف 2012، لا تشبهُ المساجدَ بالنسبةِ لسوريٍّ آخر تأخَّرَ خروجُهُ من سوريا إلى ما بعد العام 2014 مثلًا. إذ يصعبُ الفصلُ بين الدين، ودور العبادة، بالنسبة لأولئكَ الذينَ شهِدوا تصدّرَ القوى الدينية (الراديكالية منها والمُعتدلة) المشهدَ السوريّ العام، وانحسار الدّور المدنيّ للثورة السورية، تزامنًا مع تزايدِ العنف والعنف المضاد.
لم أشهد تلك المرحلة في سوريا. ولا في أيّ مكانٍ آخر. خرجتُ قبل أن أتمنّى الخروج، في المرحلةِ التي كنتُ أتمنّى فيها البقاء. الأمنيةُ التي لو تحققت، لكنتُ -غالبًا- في صفّ الأصدقاء الذين خرجوا بعدي وقد شهِدوا ما شهِدوه، أُشاركُهم النُّفور.
كان خلاصي الفرديّ هاجسَ عائلتي أكثر مما كان هاجسي. فمُغادرتي كانت تعني بالنسبةِ لهم بالًا هادئًا. بينما كان طريقُ الإيابِ، الذي يمرّ بالمجيءُ إلى تركيا، وتقليص المسافة الفاصلة بيننا هاجسي أكثر مما كان هاجسهم. على الرغم من إدراكي أنني في إسطنبول، ولستُ في سوريا، وإدراكيَ الآخر أنني هذه المرّة منفيٌّ ولستُ لاجئًا.
انتهى اللجوء ومشاعرهُ منذُ اللحظةِ التي أقلعت فيها الطائرة المتوجهة من مطار كوبنهاغن، في العاصمة الدانماركية، إلى إسطنبول يوم السادس من آب 2020. قُبيل أيامٍ على دخولي سنتي التاسعة خارجَ البلد. ثمّة تباينٌ لا يخفى بين شعورَي اللجوء والنَّفي. عشتُ في السويد لاجئًا مدة سبع سنواتٍ ونصف، حتى حصلتُ على أوراقٍ رسميّةٍ تُتيحُ لي اختيار المكان الذي أريدُ أن أكون منفيًا على أرضه. فالأوراقُ لا تعني استبدالَ الأوطان، ولا تخلقُ انتماءاتٍ وجدانيّة مختلفة عن تلكَ التي تسببتْ بلجوئهم. ولربّما اقتصرت على منحِ اللاجئِ ميزةَ أن يصبحَ منفيًا! وقد قررتُ الاستفادةَ من ميزةِ اختيارِ المنفى هذه بدايةً من إسطنبول.
إسطنبول
لعلَّ أكثرَ ما يُمكنُ أن يلفتَ انتباهَ الزائر هنا، غير الأذان الدائم الذي يبعثُ على الرّاحة عند أمثالي، تلكَ الكميّة الهائلة من القماش التي بُذِلتْ في صناعةِ الأعلام التركيّة. أينما يمّمَ الزائرُ وجههُ، وكيف ما تلفّتَ يُمكنُ أن يلاحظَ وجود الأعلام التركية. بعضُها حملَ التصميم المستطيل الكلاسيكيّ لأعلام الدول. وبعضٌ آخر ليس بالهيّنِ، صُمِّمَ بشكلٍ يُذكّرُ براياتِ الإمبراطوريّاتِ القديمة: يُعلّقُ بشكلٍ طوليٍّ، مستقيمٌ أفقيًا ضلعُهُ العُلوي، بينما قُصَّ من أسفلهِ ليأخذَ شكلَ مثلّثَين حادّينِ تفصلُ بينهما مسافة فارغة. شيء يُشبهُ الأعلامَ التي وسمتْ فترةَ الفتوحات الإسلامية. ويُشبهُ أيضًا تلكَ التي سُوِّقت لنا في الدراما السورية التي تناولت فترة الاحتلال العثمانيّ.
تُخيفُني كثرةُ الأعلامِ في المكان. ليسَ لأنّ «الشبيحةَ» كانوا قد استخدموا الأعلامَ، التي لطالما وقفنا باستعدادٍ لتحيّتها، لضرب المتظاهرينَ بعصيّها خلال المظاهرات المناوئة للنظام في سوريا، ولكنْ لذلك الشعورِ بأنّ الدولةَ تُريدُ إثباتَ قوّتِها، وطموحِها (غيرِ الخافي أصلًا) في تزعّمِ العالم الإسلاميّ من خلال الأعلام والرّايات. ولكن لِمن؟ لِمن تُريدُ الدولة إثبات تركيّتها، وأين؟ في إسطنبول؟!
لم يكن «رُهابُ الدولةِ القويّة» هذا بالنسبة لي هو الشعور الوحيد الذي تُخلِّفهُ رؤية الأعلام والرايات هنا. إذ أنني في كلّ مرةٍ ألمحُ فيها علمًا تركيًّا، تُستَنفرُ لديّ حاسّة جديدة غير البصر، وهي السمع. أسمعُ صوتًا يصرخُ: «كلّو إلا الخازوق يا سيدي!». يشتدُّ الصوتُ في أذنيّ، ويتحوّلُ شيئًا فشيئًا إلى الموسيقى التي رافقت صوتَ الوطنيينَ الماضينَ إلى الإعدام في مسلسل «إخوة التُّراب – 1996» وهم يردّدون أبياتَ رفيقِهم الشاعرِ الشهيد عُمر حمد:
نحــنُ أبنــــاءُ الأُلى … سادوا مجداً وعُلا
نســلُ قحطانَ الأبيْ … جــدّ كلِّ العـــربِ
عُمر حمَد الذي كانَ واحدًا ممن أعدمتهُم الدولةُ العثمانية في ساحةِ البرجِ في بيروت، تزامنًا مع إعدامٍ سياسيين ومناضلين آخرينَ في اليوم نفسه في دمشق، بعد انحيازِهم للحلفاء، وإثر اكتشافِ وثائقَ تُثبتُ طلبَ هؤلاء من الفرنسيين والإنجليز التخلّص من الدولةِ العثمانية، إما بالانضمام إلى الثورة العربيّةِ الكُبرى، أو باحتلالٍ فرنسيٍّ للبنان (استجلاب التدخّل الخارجي يعني!) أننسى أنّ يوم السادس من أيار هو عيدُ الشهداء؟ هؤلاء هم شهداءُ ذلك اليوم.
ثمّة ذاكرةٌ ثقيلةٌ ومُرتبكة تَستيقظُ لمجرّدِ الوجودِ في تركيّا. لم تكن الأنظمةُ العربيةُ ذاتِ الطابعِ القوميّ وحدها سبب ثقلِ هذه الذاكرة، وهي التي تحاملت عامدةً على الحقبة العثمانية، وتغاضتْ عن اختلافِ حساسيّةِ التعاطي الشعبيّ مع تلك الحقبة، إذ لم يعتبر كثيرون من سكّان المنطقةِ العربيّة العثمانيين محتلّين نظرًا للرابطةِ الدينيةِ المُخفِّفة لوطأةِ تلك المرحلة، والتي اشتركَ فيها مُسلمو الدول العربيةِ مع العثمانيين المسلمين، مثلما عبّرَ عنها المفكّر الفلسطينيّ الراحل أنيس صايغ في كتابهِ الهاشميون وقضية فلسطين: «إن وشيجة الدين أقوى الوشائج التي ربطت الجماهير العربية بالدولة العثمانية، فأخلصوا لها واشتركوا في حروبها ضد التكتلات الصليبية التي واجهتها، وكان ولاؤهم لها والتصاقهم بها إذا تعرضت الدولة لهزيمة عسكرية من دولة أوروبية، وكان الدين يعمل في تلك العصور في تقرير الأوضاع السياسية والحربية لشعوب الولايات العربية».
لكنّ حقبةَ الإمبراطورية العثمانيّة حملتْ ظُلمًا فظًّا وقعَ على الناس أيضًا. ذلك بصرفِ النّظرِ عمّا إذا كانت الأنظمةُ المذكورة أعلاه قد تحاملتْ أم لم تفعل. ثمّة ظلمٌ لا يختلفُ كثيرًا في جوهرهِ عمّا عانتهُ العامّةُ في مراحل لاحقة؛ حيثُ اقتصارُ المشاركة في الحياة السياسية على الانتفاضات ضدّ الوُلاةِ أو مأموريهم المحلّيين، بعيدًا عن ثنائيّة الغزو والفتْح التي وسَمتْ الخلافات حولَ تلك الحقبة. الأتراكُ أنفسهم يعترفون بتوالي السلاطين الفاسدين في مراحل متعددة من حياة الإمبراطورية. ناهيكَ طبعًا عن الطريقة التي عاملَ فيها العثمانيونَ خصومهم السياسيين، والتي وصلت إلى وضعِ رؤوسِ بعضهم على فوّهات المدافع، وتعليق أجسادِ البعض على أبواب المساجد، كحالِ الإمام عبدالله الأول بن سعود الكبير، آخر أئمّة الدولة السعودية الأولى، والذي أُسِرَ واقتيدَ إلى الآستانة بعد حصارٍ دامَ ستّة أشهر للدرعية، عاصمة حكمه، ثمّ أُعدم في العام 1818م.
لا تحتاجُ الإمبراطوريّات للبحثِ عن مثالبِها ومظالمها، فالظلمُ قائمٌ لا بدّ، وهو أحد شروطِ الحُكمِ في حالتِها.
قبلَ أكثرَ من مئةٍ وعشرينَ سنة، في نهايات القرنِ التاسعِ عشر، اقتيدَ جدُّ جدّي، إسماعيل هنيدي، مع عائلتِهِ إلى تركيّا، نفيًا عن بلادِه. كنتُ أعرفُ ذلك منذُ طفولتي، حيثُ أنني عاصرتُ حفيدتهُ، عمّة والدي، والتي توفيتْ في العام 1994، وقبل ذلك لم تكن سيرةُ تركيّا تنقطعُ عن لسانِها، فرغمَ أنّ الزمن تركَ آثارَهُ على سمعها، وضعُفَ بصرُها، لكنّ ذاكرتها ظلّت متوقّدةً دائمًا، ولم يحُل سقوطُ أسنانها دونَ أن تتذكر «اطَّنبول»، سواءٌ لفَظَتْ السين، أم لا. يبدو الأمرُ بديهيًا حينَ نعرفُ أنّها مُنحت اسمًا لازمها زهاء قرنٍ كامل، يُنعشُ ذاكرتها: تركيّة. نظرًا لولادتها في تركيا. لكنّ ما عرفتُهُ بعدَ وصولي إلى إسطنبول ومحاولة البحث في تلكَ المرحلة، أنّ جدّ جدّي لم يكن وحيدًا، بل واحدًا من بينِ شخصيّاتٍ أخرى من الجبل لاقت المصيرَ ذاتَهُ. كان العثمانيونَ يسعونَ وراء الشبّاب لتجنيدِهم في صفوف الجيش. المرويّةُ الشفهيّةُ المُتداولة في العائلة تقولُ إنّ العثمانيين وصلوا إلى قريتنا بغيةَ سَوقِ شبابِها إلى «الجنديّة» مُتوعّدين الذين يخفونهم بأشدّ قصاص. ولمّا وصلَ الخبرُ إلى إسماعيل استشارَ وحيدهُ «محمّد» في الأمر، فما كان من الأخيرِ إلا أن رفضَ فكرة تسليمِ الشبابِ إلى العثمانيين رغمَ ما قد يلحقُ بوالدهِ والعائلة من أذى جرّاء تحدّي السلطات العثمانية، قائلًا: «بـِ يَمَني، ولا باليَمنْ». الجملةُ التي سمعتُها مرارًا وتكرارًا في طفولتي على لسانِ جدّي وأبي ولم أفهم معناها، فُسِّرَت في يَفاعتي على نحوٍ لافتٍ، فقد أرادَ الشاب القول إنّ إلحاقَ الأذى بهِ وبعائلتهِ أهون من تعميمهِ وإلحاقهِ بكلّ بيوتِ القريةِ، التي ستخسرُ شبابها في معاركَ لا ناقةَ لهم فيها ولا جمل.
وبالفعل، اقتيدت العائلةُ كلُّها إلى تركيّا مع أُسَرٍ أخرى من الجبل، وعاشَ الجميعُ في مخيّمات أضنه لسنوات، قبلَ أن تتمّ تسويةُ أوضاعهم إثرَ ضغطِ بعضِ زعماء وثوّار الجبل على العثمانيين من أجلِ إعادةِ المنفيين إلى بيوتِهم.
قرابة مئة وثلاثينَ سنة فصلت بينَ تواجدي في تركيا كواحدة من محطات المنفى، وبين تواجدِ أسلافي فيها. ثمّة فروقٌ كثيرة بينَ التواجدين تجعلُ من أسبابِ استعادةِ الذاكرة بعيدةً عن نيّة التماهي، فالذي جاءَ بالأسلافِ إلى هذه الأرض كان موقفهم الذي انحازَ إلى الجماعة على حساب الأفراد، بينما كان خروجي من سوريا خلاصًا فرديًا يائسًا ومُنسحبًا من مسؤولية البقاء مع الجماعة ومُلاقاة المصير الذي ستلاقيه مهما كان.