صبيحة التاسع والعشرين من كانون الثاني (يناير) 2013، استيقظ سكان القسم الشرقي من مدينة حلب على خبر وجود جثة في نهر قويق، لم يكن غريقاً كما تَبادَرَ إلى ذهنهم في البداية، بل كان الأول من مئات الجثث التي تم التقاطها خلال شهر ونصف الشهر من مجرى النهر، جميعهم قُتلوا بطريقة متشابهة قبل أن تُرمى جثامينهم في المياه كرسالة للأحياء الثائرة في المدينة.
على سرير النهر توزّعت الجثث الملتقطة بأساليب بدائية، متفسخّة، مشوهة الوجوه، مكبلة الأيدي والأفواه، معصوبة العينين، ليرتبط اسم قويق بمجزرته، وتتحول المياه إلى لعنة لم يُحاسَب حتى اللحظة مرتكبوها ولم تنل حقها كجريمة، علّ غرقاه يحظون ببعض الراحة في قبورهم الجماعية، وتهدأ مياه النهر من جديد.
عندما كنتُ نهراً
ليس قويق نهراً مرتبطاً بذاكرة الحلبيين كما ترتبط ذاكرة الناس بأنهار مثل الفرات ودجلة والنيل، ويغيب اسمه في الأغاني والشعر والموروث الشعبي، إلا ما ندر. تغلب على ذكره السخرية وعبارات التهكم، وارتباطه بالجفاف والرائحة الكريهة والمياه العادمة من الصرف الصحي ودباغات الجلود.
مرّ النهر بمراحل إلى أن تراجع تصنيفه إلى نهر من أنهار الأحواض المغلقة منذ أواخر عشرينيات القرن العشرين، بعد أن حولت الحكومة التركية مجراه إلى داخل أراضيها لتحرم سكان حلب وأريافها الاستفادة من مياهه، وبعد أن جفت الينابيع الثلاثة (عين التل والعين المباركة والعين البيضاء) التي تغذي مجراه.
قبل ذلك التاريخ، كان قويق نهراً يفيض شتاء، وتتدفق مياهه في الأراضي السورية التي يمر فيها بطول مئة وعشرة كيلومترات قبل مصبه في منطقة أو سبخة «المتخ»، ماراً ببساتين حلب التي تحولت فيما بعد حول مجراه إلى مناطق مكتظة بالسكان. وكان سكان حلب يعتمدون على قويق في مياه الشرب والري، ومثلت البساتين متنزهاً لهم، كذلك مكاناً لاصطياد السمك. أما في الصيف فكان منسوب النهر ينخفض إلى درجات كبيرة، وصفها الشاعر الصنوبري قديماً بأن مياهه لا تغطي قوائم بعوضة، وهو ما استدعى حلولاً لجرّ المياه إليه، كما أورد الغزي في كتابه نهر الذهب عن قيام سيف الدين أرغون الدودار بشق قناة من نهر الساجور (أحد روافد الفرات) شمال حلب إلى قويق، وذلك لضمان تدفقه. استمرت القناة لنحو مئتي عام، حتى زوال دولة المماليك وقيام الدولة العثمانية التي أهملت القناة وصيانتها لتزول تدريجياً.
واختلف المؤرخون في أسباب تسمية النهر، بينهم من نسبوه إلى اسم من شقّ مجراه؛ الشيخ الزاهد محمد بن عبد الله… قويق، أو شخص يدعى قويق آغا التركي اعتنى بالنهر ورصف مساحة من أرضه بالبلاط الحجري، وبين من أطلق عليه قويق نسبة إلى صوت الضفادع المنتشرة بكثرة حول سريره، أو نسبة إلى شجر الحور حول ضفتيه، والحور في اللغة التركية (قواق).
مياه قويق أول الأسلحة العثمانية لمعاقبة حلب
ضربت تركيا عرض الحائط باتفاق فرانكلين –بويون الذي أقر في العشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) 1921، ويقضي بتوزيع مياه نهر قويق بين الجانبين السوري والتركي وفق نسب محددة، وفي العام 1925 حولت تركيا مجرى النهر الذي ينبع من مكان بالقرب من مركز ولاية غازي عنتاب إلى الأراضي التركية بالكامل.
كما أنشأت السدود على ممره الذي يبلغ نحو ستة عشر كيلو متراً في تركيا، مقابل نحو مئة وعشر كيلو مترات في سوريا، ليصبح تصريف النهر نحو ثلاثة أعشار المتر المكعب في الثانية، بعد أن كان لا يقل عن سبعمائة وخمسين لتراً في الثانية، وبذلك تحول إلى وادٍ سَيلي.
استمرت تبعات هذا التحول حتى بداية القرن الحالي، وتحوَّلَ قويق من نهر إلى مصرف للمياه العادمة، يغص بالضفادع وحشرات حبة السنة (اللاشمانيا)، وتمنع رائحته الكريهة السكّان من المرور بجانبه. لم يكن لقويق ضفاف أيضاً، ولا يذكر في أجيال متعاقبة من ذاكرة الحلبيين كنهر للسباحة والتنزه، بل كان الاقتراب منه في عمر المراهقة لأبناء جيلي مثاراً لسخط الأمهات وعقوباتهم. كذلك تمت تغطية ممره داخل مدينة حلب، ليبقى سرير النهر يمر عبر أنفاق تحت المدينة، باستثناء أمتار قليلة في الحديقة العامة وسط حلب، قبل أن يكشف من جديد بعد الخروج من المدينة عند منطقة بستان القصر ليكمل طريقه في أرياف حلب الجنوبية.
في الذاكرة الحلبية توصيفات للنهر ترتبط بالذاكرة القريبة، إذ كان يطلق على الأشخاص تهكماً لفظ «ريحتك قويق»، وتبدلت الكلمة مع الزمن لتصبح «قليط» كدليل على عدم الاعتناء بالمظهر، وأيضاً كانت تستخدم لوصف للأخلاق السيئة والتشبيهات. وتحولت بساتين النهر، بفعل منع تركيا لمياهه من التدفق، إلى مبان سكنية، مثل بستان الباشا وبستان الزهرة وبستان كل آب وغيرها، بينما تهدمت جسوره وتحول مكانها إلى مطاعم أو مساجد أو ساحات، كجسر الصيرفي (مطعم لاغونا)، وجسر المعزة (جامع التوحيد)، الجسر الكبير (ساحة سعد الله الجابري)، جسر الناعورة (أمام المتحف حالياً)، جسر الزلاحف (قرب المشارقة).
قويق يستعير يد الفرات
بطول خمسة وخمسين كيلومتراً، بدئ بتنفيذ قناة جرّ من نهر الفرات إلى قويق في العام 2004، لتنتهي أعمالها في العام 2008، وتدخل مدينة حلب عبر شلّال بالقرب من مخيم حندرات، وتمر في المدينة بمسافة ثمانية عشر كيلو متراً إلى منطقة الشيخ سعيد، حيث بنيت هناك محطة لمعالجة المياه.
القناة شبه المنحرفة المكسوة بالإسمنت المسلح، بكلفة مليارين ومئة مليون ليرة سورية، ضمنت تدفقاً بنحو تسعين متراً مكعباً في الثانية من محطة البابيري التي تستمد مياهها من بحيرة الأسد، لتروي آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية، نحو (197 ألف هكتاراً)، إضافة لاستصلاح نحو خمسة وستين ألف هكتار في ريف حلب الجنوبي.
أعيد كشف سرير النهر داخل المدينة، وأُنشِئت حوله المتنزهات والمطاعم، ورمم المجرى الذي يمر وسط المدينة ليغدو مكاناً يؤمه الحلبيون، خاصة في المنطقة الممتدة على طول (شارع الفيلات) وصولاً إلى الحديقة العامة.
قويق والثورة السورية
أوقف نظام الأسد تدفق مياه نهر قويق مجدداً في العام 2012، ليعيد للنهر سيرته الأولى، ويحرم سكان المناطق الثائرة في أرياف حلب الشرقية والجنوبية الاستفادة من مياهه في ري مزروعاتهم، ما تسبب بجفاف كبير في هذه المناطق، وفقدان محاصيل استراتيجية كانوا قد اعتمدوا على مياه النهر في زراعتها كالقطن والخضار الصيفية، كذلك القمح المروي.
وتحولت الأراضي الزراعية، في معظمها، إلى الزراعة البعلية، وهجر قسم من السكان حقولهم للبحث عن مصدر رزق جديد، كذلك عاد النهر إلى مصب للمياه العادمة والصرف الصحي ومخلفات المعامل من جديد.
نهر الشهداء
كانت الأيام الوحيدة التي سمح فيها النظام بإعادة تدفق مياه قويق في نهاية كانون الثاني من العام 2013، ليرتبط هذا التاريخ بما يصفه السكان بـ«المجزرة الأكبر» في تاريخ الثورة في حلب.
يخبرنا الناشط الإعلامي أحمد عرابي أن وقع هذه المجزرة كان أقسى من القصف والتفجيرات التي تشهدها المدينة: «كانت مجزرة بدم بارد.. تحول النهر بعدها إلى شيء مرعب».
«كنا خائفين… كلنا»، «رجال وأطفال ونساء… شهداء على طول النهر الذي ارتفع منسوب مياهه فجأة ليحمل ما أُريدَ لنا أن نفهمه عن مصير من يثور على النظام».
كانت الجثث متفسخة ومشوهة الوجوه، يروي «أبو جعفر طبابة»، وهو خبير الأدلة الجنائية الذي وثَّقَ الحادثة. كانت الجثث تمر في سرير النهر مخترقة أحياء مدينة حلب عند خط التماس مع قوات النظام، وبالقرب من جامع حذيفة القريب من سوق الهال بأعداد كبيرة، الصدمة والفاجعة أفقدت الجميع صوابه، «لم نكن مهيئين لما يحدث» يقول أبو جعفر، وهو ما وسم عملنا بـ «العشوائية وردات الفعل، يرافقه ألم… ألم كبير».
كان سكان المنطقة يحاولون انتشال الجثث كيفما اتفق، وبالطرق كافة، أسياخ من الحديد وعصي خشبية وأغصان أشجار وكل ما هو متاح، و«حين وصلنا إلى المكان كانت جثث تملأ طريق النهر، ليتم نقلها إلى مدرسة اليرموك ووضعها هناك للتعرف عليها من قبل الأهالي قبل عملية الدفن».
يقول أبو جعفر إن طريقة القتل كانت واحدة، معظم الشهداء كانوا مكبلي الأيدي نحو الخلف، مكممي الأفواه بقطع قماشية، حفاة الأقدام، مُطمشي الأعين بلاصق سميك، ومصابين بطلق ناري من الخلف في رؤوسهم ما تسبب بتشويهها، وحال أحياناً دون القدرة على التعرف عليها. تظهر على أجسادهم علامات التعذيب بأدوات حادة، حروق بالسجائر وأجهزة الصعق الكهربائي وغيرها من وسائل الحرق. بعضهم كان قد مرّ على وفاته أيامٌ عديدة، آخرون كان موتهم سريعاً ومباشراً لم تمض على وفاتهم ساعات، وساهمت المياه في تفسخ أجسادهم.
وثقت الطبابة نحو مئتين وأربعين شهيداً، خلال ما يقارب الشهر، أخذت صورهم ومنحوا أرقاماً قبل دفنهم من قبل ذويهم أو في مقبرة جماعية في حديقة القباقيب، ووضعت صورهم في صالة الطبابة الشرعية التي أنشئت وقتها في حي السكري ليتمكن الأهالي من التعرّف عليهم.
تدفق الأهالي إلى النهر، كانوا يبحثون عن أبنائهم المفقودين، بعضهم كانوا عمالاً أو موظفين يعبرون إلى مناطق النظام، منهم من مرّ على فقدانه يوم واحد. آخرون كان النظام قد اعتقلهم منذ مدة، بحسب رواية الأهالي التي تطابقت مع التوصيفات الجنائية والطبية، بحسب المحامي يوسف حوران.
يروي حوران أن المحامين الأحرار استعانوا بالطب الشرعي إضافة للخبير بالأدلة الجنائية أبو جعفر، بالإضافة إلى مختصين بالمشاريع المائية وخبراء عسكريين لتكوين فهم كامل عن المجزرة. وهو يؤكد أن اليومين الأولين حملا أكبر الأعداد من الشهداء، بينما استمر وصول الجثامين لنحو خمسة وأربعين يوماً، بينهم ستة قاصرين تتراوح أعمارهم بين 11 و17 سنة، وخمسة نساء، إضافة إلى مسنين تزيد أعمارهم عن سبعين عاماً، جميعهم من المدنيين. بعض هذه الجثث عبرت النهر وصولاً إلى قرى في ريف حلب الجنوبي مع ارتفاع منسوب مياه نهر قويق الذي حملهم بعيداً لكيلومترات عدة.
كما يؤكد وجود علامات من التعذيب والتنكيل الذي وصفه بـ «الوحشي» على أجسادهم، وطريقة «تصفيتهم» بأسلحة متنوعة (مسدس – بامبكشن – بلطة – خيوط معدنية خيطت بها أفواههم)، وأن هذه الجثث تمت تصفيتها ورميها من حديقة بستان القصر عند نقاط التماس لتسهيل وصولهم إلى مناطق سيطرة المعارضة.
يخبرنا حوران أنه تم توثيق جميع الأشخاص الذين قضوا في مجزرة النهر، جنائياً وطبّياً، إضافة لوصف لباسهم وعلاماتهم المميزة، ومطابقة هذه التوثيقات مع روايات الأهالي والشهود، لتقديمها للمحاكم في الوقت المناسب ومحاسبة مرتكبي المجزرة. كما يخبرنا حوران أن قسماً من الضحايا، بحسب رواية ذويهم، كانوا من المعتقلين لدى الأجهزة الأمنية في مناطق النظام (الأمن العسكري والمخابرات الجوية)، إضافة لأشخاص أخذوا على الحواجز بحسب رواية الشهود.
أرقام لموت متشابه
يخبرنا أبو نديم الخطاط، أحد الناشطين الثوريين في مدينة حلب والحاضر في المجزرة، إنه تم دفن نحو ثلاثين شهيداً لم يتعرف عليهم ذويهم في مقبرة جماعية، بينما دفن ذوو الضحايا شهداءهم بعد التعرف عليهم.
يروي أبو نديم أن المشهد كان «عصيباً جداً»، أمهات وآباء يحاولون التعرف على أبنائهم بين جثث مسجاة داخل مدرسة، أحياناً من لباسهم الذي يعلق في ذاكرة الأمهات لغيّابهم، من علامة مميزة أو فارقة، وشم، وحمة بعد أن غابت الملامح عن كثير من وجوه الضحايا لما تركته الطلقات النارية من تشويه في الوجوه، كذلك المياه وآثار التعذيب.
هنالك شهداء لم يستطع أحد التعرف عليهم، بعضهم كانت ملامحهم غائبة كلياً، أو ربما كانوا من مناطق خارج أحياء حلب المحررة في ذلك الوقت.
قصص كثيرة رواها الأهالي عن ذويهم، لعمال مياومة خرجوا صباحاً إلى أعمالهم وعادوا جثثاً على مياه نهر، معلمون وموظفون خرجوا لتقاضي رواتبهم، مرضى للعلاج.
يخبرنا المحامي يوسف حوران أن الهدف كان إثارة الفتنة وإلصاق التهمة بالفصائل في المناطق المحررة كمسؤولين عن المجزرة، كل ذلك لن ينفع، فالأدلة التي جمعها يوسف ورفاقه كفيلة بإثبات التهم والمسؤولية على قوات النظام، بحسب قوله.
تَعلَقُ صور شهداء مجزرة قويق في ذاكرة الحلبيين، يحاولون جاهدين التخلص منها في مناماتهم، دون جدوى، يقولون إن قويق يئن أيضاً بما حُمّله، دون أن ينصف الوقت، حتى الآن، شهداء المجزرة ونهرها.
قويق… إيراني
مع سيطرة قوات الأسد مدعومة بالميليشيات الإيرانية على مدينة حلب، وريفها الجنوبي في مراحل متعاقبة، كان آخرها بداية العام الماضي، بالاستيلاء على بلدة العيس وما حولها، بات لإيران اليد الطولى على طول نهر قويق ومصبّه.
وعززت هذه الميليشيات تواجدها في الريف الجنوبي، خاصة في منطقة جبل عزّان، متخذة من سد شغيدلة (خان طومان) قاعدة عسكرية لها. وبحسب تقرير لمركز حرمون للدراسات، بعنوان «القواعد العسكرية الإيرانية وبدايات تدخلها الأمني والعسكري في سوريا»، فإن هذه القاعدة تُدار من قبل الحرس الثوري الإيراني وتضم ميليشيات من حزب الله والنُجباء العراقية ولواء فاطميون الأفغاني ولواء القدس.
ويوضح تقرير لمركز الشرق للبحوث، في تحليله عن خريطة نشرتها وزارة الدفاع الروسية لتوزع القواعد الإيرانية، إن هذه القوات تتخذ من قرية شغيدلة مقابل منطقة الحاضر نقطة عسكرية لها، وتسيطر بذلك على مجرى نهر قويق، كذلك على السدّ الذي توقفت أعمال البناء فيه منذ العام 2011، واتخذته إيران كأحد أهم مناطق وجودها في الشمال السوري.
كذلك تسيطر الميليشيات الإيرانية والسورية التابعة لها على الأحياء الشرقية في مدينة حلب، ومنها المناطق التي يمر بها نهر قويق.
شكل قويق سلاح حرب وورقة ضغط طوال أكثر من مئة عام، واستخدم في الصراع على المناطق بين تركيا وفرنسا، كذلك في الخلاف السوري التركي، ليدخل عهداً من الإهمال منذ الاستقلال مروراً بعهد الأسد الأب، وصولاً إلى استخدامه في عهد الأسد الابن وسيلة لتهجير المزارعين الذين يسكنون في مناطق المعارضة وتجفيف أراضيهم، وتحمّل مياهه عبء مئات الشهداء، قبل أن تحتله الميليشيات الإيرانية، ليغدو قدره أن يبقى في ذاكرة الحلبيين «قويق»، دون أن يحمل اسم النهر يوماً.