بين الأطروحات الثلاث التي ناقشها المؤرخ الفرنسي، فرانسوا فوريه، لتفسير الثورة الفرنسية كلحظة تأسيسية للتقليد الثوري، تحظى أطروحة أوغست كوشان، المُنظِّر الكاثوليكي المحافظ والمعادي للثورة، بأهمية خاصة. فهو يعتبر أن ما يميز الثورة الفرنسية أنها لحظة قطيعة مع اللغة والمخيلة التي يُنظَر من خلالها إلى العالم. قامت الثورة الفرنسية على مخيلة سياسية مختلفة بشكل جذري عما سبق؛ رؤية يعقوبية للعالم مستمدة من فلسفة التنوير، انتشرت بفضل جمعيات تبنّتها وعملت على تعميمها ونشْرها في المجتمع. تُحيل هذه الرؤية إلى التساوي التام بين الأفراد، الأحرار من التقاليد والمرتبة الاجتماعية، والذين يتولون إدارة شؤونهم بأنفسهم. هنا نجد التصورات السياسية الحديثة جميعها: المساواة والسيادة الشعبية والديمقراطية والحرية والجمهورية، جميعها قائمة على تخيُّل جديد وجذري للعالم.
ما يجعل التمرد أو الانتفاضة ثورة هو هذه المخيلة الجذرية الجديدة.
كذلك تعرّف حنه آرنت الثورة بوصفها بداية جديدة وتأسيساً جديداً يُحيل إلى الحرية، وهذه مقولة تجريدية تُحيل إلى المفهوم التجريدي نفسه وهو الفرد. تتعين الحرية هنا بالإحالة إلى المشاركة في الحياة السياسية، فالفرد مواطن، والمشاركة تُحيل إلى «المجال العام» كظاهرة حديثة ومكان لمناقشة الأمور السياسية والاجتماعية والتداول بصددها. التاريخ مليء بالتمردات والعصيانات، لكن الثورة ظاهرة حديثة، تعود إلى الثورة الفرنسية أو الأمريكية أو ربما الهولندية بوصفها بداية التقليد الثوري. ما يجمع هذه الثورات الأولى – على تباينها – أنها أسست لبداية جديدة انطلاقاً من هذا التصور التأسيسي لأفراد متساوين وأحرار يحوزون السيادة فيما يتعلق بإدارة حياتهم.
يمكن تعريف التقليد الثوري أنه يقوم على هذا التصور الذي تأسَّس مع الثورات، والذي حرص الثوريون دوماً على الإحالة إليه وتقديم معنى لأفعالهم بواسطته. إنه تقليد من القيم والمعاني والرموز التي فكر الثوريون من خلالها وفهموا ما يقومون به بالإحالة إليها. إحالات البلاشفة إلى الثورة الفرنسية لا تنتهي، وقد سبقهم ماركس وإنجلز وثوار 1848.
هل يمكننا الحديث عن تقليد ثوري عربي بعد مُضيّ عقد على الانتفاضات العربية؟ يمكن تفكيك هذا التساؤل إلى سؤالين: الأول هو، هل تندرج الانتفاضات العربية في هذا التقليد الثوري الكوني؟ والثاني، هل أسست الانتفاضات العربية لتقليد ثوري خاص بها؟ لعل عشر سنوات ليست فترة كافية للإجابة، لكن يمكننا تقديم ملاحظات أولية.
بالطبع، كانت هناك إحالات دائمة ومستمرة إلى التقليد الثوري، كالحرية و«الشعب يريد إسقاط النظام» وتأكيد الشرعية الشعبية والمواطنة وغيرها، وجميعها تنتظم في لغة هذا التقليد. لكن هذه اللحظات بقيت محدودة في مسيرة الانتفاضات العربية، واقتصرت على البدايات (ميدان التحرير والتجمهرات الأولى)، قبل أن تتضاءل هذه اللحظات وتضمحل. الجمهور العريض الذي دخل إلى الساحة العامة، التي فُتحت عنوة وبأثر الانتفاضة، كان ذا مزاج محافِظ ورجعي بشكل كبير، ودور الإسلاميين في الانتفاضات ونجاحاتها واستمرارها، كما في هزائمها اللاحقة، كان حاسماً، ولا يمكن التقليل منه. المزاج العام للمنتفِضين – ولو عمّمنا قليلاً – كان يعادي فكرة الحرية، التأسيسية للمجال العام نفسه، بل وكان أكثر تشدداً في التأكيد على المكانة والانتماءات والتراتبيات بشتى أنواعها، والانغراس في التقاليد والعادات. لقد فتحت الانتفاضات العربية مجالاً عاماً بالقوة، ليدخله جمهور يُحيل إلى مخيلة سياسية معادية – أو لنقل متوجسة – من المجال العام نفسه؛ من الحرية التي يشترطها المجال العام.
هذا هو لب مفارقة الانتفاضات العربية، فقد انتفض المقهورون، لكن دون وعد بالحرية يلازم انتفاضتهم. لماذا؟ هنا أيضاً يمكننا تقديم تفسيرات أولية.
أولاً أن التنوير والتحديث والتقدم – قيم التقليد الثوري – كانت في السياق العربي أيديولوجيا الأنظمة المستبدة، والتي استخدمتها لتبرير سيطرتها وسطوتها؛ أيديولوجيا الدولة في مواجهة مجتمعاتها وشعوبها. فالدولة العربية قدمت نفسها كرافعة للتحديث والتقدم في فترة السلطويات الشعبوية، وصارت اليوم – كما في مصر – هي الناطق باسم الإصلاح الديني.
ثانياً أن الثورات الأوربية أتت بعد حقبة من تراكم الإنتاج والمعرفة، فيما أتت الانتفاضات العربية تتويجاً لمسيرة نكوص وانحدار في المجالات كافة، وهنا يمكن النظر إلى مؤسسات مثل التعليم، أو حتى بيروقراطية الدولة نفسها، ومقارنة أدائها بما كان عليه قبل عقود.
ربما علينا أيضاً التوقف عند ثنائية الريف والمدينة. يمكن التفكير فيما إذا كانت هناك حقاً مدينة عربية (بما يحمله مفهوم «المدينة» من معيارية، مع تذكر أن كلمة «السياسة» في اللغات الأوروبية مشتقة من المدينة).
أخيراً، لدينا الانقسامات الطائفية والإثنية في المشرق من جهة، ومسألة إسلامية-سنّيّة حادة منذ القرن التاسع عشر، وزوال العالم الذي كان يعطي معنى للّغة الدينية والشريعة. فالعالم الذي قدم المحتوى الخاص بالشريعة وتصوراتها (بما فيها مسائل السياسة الشرعية) زال من الوجود، فيما انغرست لغته في تصور قائم على التقاليد والتراتبية الصلبة بين أفراد مقيدين في حدود جماعاتهم الدينية.
المفارقة التي طرحتها الثورات العربية هي أنها، ورغم كونها تمرد مقهورين ضد دول مستبدة ومتوحشة، لم تظهر بمثابة بداية تقليد ثوري مؤسَّس على الحرية يُمكِّنه من تأسيس أو توسيع المجال العام. على العكس، استعانت الانتفاضات بمنظومة مختلفة من القيم والمعاني المتوجِّسة من الحرية في أفضل الأحوال، ما يجعلها أقرب إلى التمردات الساخطة منها إلى الانضواء تحت تقليد ثوري.