فيما يشبه فترة ذوبان جليد قصيرة ما بين فترتي إغلاق رئيسيتين في برلين، المدينة التي عاودت بعض مساحاتها العامة أنشطتها بشكل جزئي، كان بالإمكان حضور معرض في مكان آخر للمصوِّرَين السوريين غيفارا نمر وعلاء حسن ضمن مساحة فنية في حي فيدينغ. رغم تخفيف قواعد الحجر جزئياً في المدينة، بقي كوفيد-19 يظلل أية فعالية فنية وثقافية تُعقَد في فترة الوباء، حيث تُراعى إجراءات التباعد، وتُوفَّر نسخة مسجّلة للحوار مع الفنانين الذي جرى تقييد عدد حاضريه. تصميم المساحة نفّذه المهندس العماري الألماني أرنو براندلوبر Arno Brandlhuber، وهو يُظهر عناصر من أسلوب العمارة الخمومية (الوحشية) التي ميّزت أعماله، بمادة بناء ظاهرة للعيان وما يوّفره إحساس المادة الخام كأساس طيّع لاحتواء مختلف أفكار المعارض الفنية. كان هذا التصميم أحد الأسباب التي دفعت منظمة كوكلتشر Coculture الثقافية غير الربحية المستضيفة للمعرض إلى اختيار هذه المساحة، والتي تمثل بذاتها أحد مشاريع المنظمة، وجزءاً من سياستها القائمة على خلق عدة مشاريع رديفة ترفد بعضها بعضاً لدفع أعمال المنظمة قدماً وتفسح المجال لاستمرارها.

«بدأنا العمل رسمياً في نهاية عام 2018. طيلة تلك السنة اشتغلنا وفق ما يتيحه لنا الظرف القائم من منزل وحيد يجتمع فيه حوالي عشرة أشخاص، كل منهم على لابتوب»، يقول خالد بركة، مؤسس منظمة كوكلتشر.

«كنا في هذه الفترة نبحث عن المساحة المناسبة، فوقع اختيارنا على هذا المبنى. أسلوب البناء المعتمد على التقشف وإظهار مواد البناء الخام كان مناسباً لتصوراتنا وعَكَسَ رؤيتنا كمؤسسة، إذ تحقق الشرط الفني النوعي الذي لم نُرِد التنازل عن سويته، والذي ينعكس على الأعمال التي ستُعرض. نسعى لتقديم منتج ثقافي وفني بشكل جدي، ودون ارتباط بالشق الإغاثي الذي يرافق بعض الأنشطة الفنية السورية هنا، أو الذي يتوقعه البعض على الأقل لدى حضور معارض ذات صلة بسوريا. لم يكن الأمر سهلاً تماماً، ولا سيما بالنظر للأجرة المرتفعة للمساحة. ومع ذلك كان علينا أن نأتي بحلول ابتكارية لينجح الأمر وأن نخلق نظاماً يسمح لنا باستثمار هذه المساحة. أسسنا كياناً جديداً باسم 8Corners وهو يمثل الجانب التجاري من المساحة ويتولى تأجيرها لمؤسسات أخرى، بما يمكننا من الاستمرار في تنظيم فعاليات فنية في المساحة».

يضيف بركة: «خلال العام الأول، لم نتوصل إلى تغطية تكاليف المساحة بعد، ومن ثم جاء كوفيد-19 وعطل الأنشطة، ولكننا لا نزال نعتبر أن النموذج مناسب لخططنا وسنتابع العمل عليه. كل ما في الأمر أن الظروف لم تكن في صالحنا تلك الفترة. نحن بحاجة إلى مساحة فيزيائية تكون بمثابة مشروع أوفلاين رديف للمشاريع الأخرى الأونلاين، ومن هنا أتت ضرورة أن تكون المساحة مشروعاً قائماً بذاته وأحد المحركات المتعددة لدفع عمل المنظمة، إلى جانب المشاريع الأخرى مثل مشروع فهرس الثقافة السورية Syria Cultural Index والبينالي السوري. كما نحاول ألا نكون وحدنا من يتحكم بالمواضيع المطروحة، فبند التنظيم المجتمعي (community curation) أساسي بالنسبة إلينا، لذلك نسعى لتوفير هذه المساحة أمام فنانين يريدون عرض مواضيع خاصة بهم ضمن شروط إبقاءها مساحة آمنة».

من فهرس افتراضي إلى العمل المؤسساتي

تعود بدايات الفكرة والسؤال الإشكالي خلف تأسيس منظمة كوكلتشر إلى عام 2015، كما يقول مؤسسها خالد بركة، وهو العام الذي شهد قدوم العديد من الفنانين السوريين إلى ألمانيا. «بحكم أنني موجود في ألمانيا منذ 2008، كنت أُسأل أحيانا عن فنانين سوريين لصالح معرض أو اقتناء أعمل، وكنت أتواصل حينها مع فنانين سوريين ممن أعرفهم مسبقاً وأعرف نتاجهم، ولكنني أردت أن تصل هذه الفرص إلى دائرة أوسع من دائرة من أعرفهم شخصياً، خصوصاً أنني خارج البلاد منذ زمن طويل وهناك الكثير ممن لم أكن قد عرفتهم بعد. فأنشأت ما يشبه فهرساً افتراضياً باستخدام أداة Google Forms تُمكّن كل شخص من رفع المعلومات الخاصة به: الاسم ومعلومات التواصل ومكان الإقامة وما إلى ذلك. كانت خطوة بهذه البساطة في حينها وتعتمد على أن يقوم كل فنان بمشاركة المستند مع معارفه.

«تطورت الفكرة فيما بعد من هذه الصيغة إلى فهرس افتراضي، حرصت على مشاركته مع كل الفاعلين في الشأن الثقافي ممن أعرفهم عبر السوشل ميديا. بعد أن وجدت أن الفكرة لاقت قبولاً لدى من شاركتهم بها، قررنا التوجه نحو عمل مؤسساتي أكثر، وهكذا سجلنا في برلين منظمة غير ربحية باسم Syria Cultural Index أو فهرس الثقافة السورية، وهي تعمل على مشروع واحد بالاسم نفسه يتمثل في منصة افتراضية تسعى لحصر وتعزيز وتشبيك المنتجين الثقافيين السوريين في أي مكان كانوا حول العالم. كانت الفكرة تتمحور حول خلق ما يشبه مشهد ثقافي في الفضاء الإلكتروني، كبديل عن المشهد الثقافي الذي تفتَّتَ بين أنحاء العالم. خسرنا فرصة أن يكون لدينا مشهد ثقافي محلي سوري، وبدأ إنتاجنا يذوب في المجتمعات الجديدة التي نتواجد بها. في الوقت نفسه، كنت أفكر كيف يمكننا أن نتشبث بالهوية الثقافية كبديل عن الهوية السياسية الي باتت شبه مفقودة. شعرت أن الهوية الثقافية قد تشكل فضاءً جامعاً، وحاولت أن أركز على هذا الجانب بشكل خاص عبر المنصة الإلكترونية. تطورت الفكرة باتجاه تحويل المنصة إلى قاعدة بيانات إبداعية، تتضمن حسابات للفنانين المشاركين يحمّلون عليها بياناتهم ونماذج من أعمالهم. وسوى فائدة الأرشفة والتشبيك التي توفرها قاعدة كهذه، يمكنها أيضاً أن تتحول إلى أداة تحليلية، فبالإمكان مثلاً لدى تطبيق فلاتر بحث معينة البحث عن أعمال فنية سورية بين عامي 2011 و2015، وقد يظهر للباحث عناصر مشتركة بين أعمال هذه الفترة مما يفيد موضوع البحث الذي يعمل عليه».

مع مرور الوقت وتطوير رؤية المنظمة، ومع بعض العوائق التي واجهت عملها، ومنها قصة باتت مألوفة في السياق السوري من تحويلات مالية من المانحين تعذَّرَ وصولها بسبب ورود اسم «سوريا» في اسم المشروع أو المنظمة، دفع ذلك المؤسسين للتفكير بنظام آخر خارج نطاق المشروع الواحد يضمن استمرارية أعمالها، ومن ثم العمل على توسيع نطاق المنظمة لتعمل على نموذج «إيكو سيستم» مكوَّن من عدة مشاريع تغذي وتكمل بعضها بعضاً. ومن هنا جاء اسم «كوكلتشر»، الذي يعبر – بحسب بركة – عن مجتمعَين يختلطان معاً، وعن الهوية الثالثة التي هي بمثابة ثقافة مشتركة جديدة.

«سألت نفسي: ما هو جوهر كوكلتشر؟ كمنظمة موجودة في ألمانيا وذات طابع سوري، كانت مفاهيم تفكيك الكولونيالية طاغية على هذه الأفكار. إن توجهنا خارج السردية الغربية، بالإمكان أن نلاقي احتياجاتنا ومن منظورنا الخاص. لستَ مضطراً حينها أن تُملي عليكَ مؤسسة بيضاء ما إن كان بإمكانك أن تنظّم معرضاً عن هذا الموضوع أو ذاك، أو إن كان هذا الموضوع ذا أهمية أم لا. بل كانت الفكرة أن تكون الرسالة صادرة من المجتمع وإلى المجتمع. ونحن كفنانين لسنا مضطرين لانتظار مبادرات تُنشأ من أجلنا. لِمَ لا نعمل على مؤسسة تدعم هذه المبادرات؟».

البينالي السوري

من المشاريع التي تعمل عليها منظمة كوكلتشر في الوقت الحالي بيناليمهرجان سنوي متعدد الفنون متنقل بين عدة مدن. «المدن التي يمكن اعتبارها مراكز أو عواصم ثقافية سورية في تغير مستمر»، كما يرى بركة. «كانت دمشق ومن ثم بيروت، اسطنبول وباريس لفترة، والآن برلين. رأيي أن برلين باتت مركزاً حقيقياً للفن والثقافة السوريَّين بما قد يتجاوز دمشق نفسها في الوقت الحالي. للبينالي دائماً ارتباط بالهوية السياسية للمدينة أو الدولة، وكان السؤال هو كيف يمكن خلق بينالي سوري في الظرف الراهن مع هذه الشروخات في الهويات السياسة وبقاء رابط جامع ما في الهوية الثقافية؟ من هنا جاءت فكرة خلق بينالي يتنقل بين بلد وآخر كل عامين. لا تزال الفكرة في مرحلة الدراسات، وقد اخترنا ثلاث مدن كحالات للدراسة: بيروت واسطنبول وبرلين. أردنا أن نستطلع إمكانية إقامة البينالي في هذه المدن، وهل هو أمر ممكن أم أنها فكرة حالمة. فوجئنا بالدعم الذي لقيناه من الجهات التي تواصلنا معها بهذا الخصوص، وللوصول إلى صيغة عمل جماعي أكثر، تواصلنا مع مختصين من بيناليات عالمية، وأمدُّونا بأوراق ونصوص تتفاعل مع الدراسات التي أجريناها من قبل، وتستطلع الإمكانيات المتاحة. المرحلة الثالثة التي نعمل عليها حالياً هي سيمبوزيومحلقة نقاشية يجمع مختصين ممن لم نعمل معهم من قبل لكي نشتغل معهم على تحليل البحث الذي أنجزناه ونخلص إلى تصور القابل للتنفيذ لهذا المشروع.

«كما ذكرت سابقاً، هناك رابط بين مختلف المشاريع. على سبيل المثال، ترفد قاعدة بيانات مشروع الفهرس الثقافي مشروع البينالي، ففي الفهرس نستطيع أن نرسم خارطة افتراضية لأماكن تواجد الفنانين، وكم فناناً أو سينمائياً موجود في كل مدينة. ولذلك عندما نخطط لعقد أي فعالية فنية، يكون التصور مبنياً على بيانات لا على توقعات. في الوقت نفسه، كي يشارك الفنان في البينالي، سيتم رفع بياناته وإنشاء حساب له في الفهرس، لتشجيع الفنانين على التواجد في الفهرس والذي يهدف أيضاً لمساعدتهم في حياتهم المهنية، بما يتضمن ترجمة معلوماتهم للإنكليزية مثلاً في حال دعت الضرورة، وكذلك قالب تصميم الحسابات الذي يحدد عناوين اللوحات وقياساتها والمواد المستخدمة بدقة، مما يسهل الأمر على الباحثين عن هذه الأعمال لشتى المقاصد.

«المشروع الثالث الذي تعمل عليه المنظمة، إلى جانب الفهرس والبينالي، هو «ادعم الداعمين» Support the Supporters، وهو مخصص للربط بين المُنتِجين الثقافيين وبين استشاريين مختصين يساعدونهم على تطوير أفكارهم وتحويلها إلى مشاريع، وكتابة تصوراتها وتحويلها إلى أرقام على شكل ميزانية، بما يتضمن حتى المساعدة في العثور على تمويل.

«وإلى جانب المشاريع هناك مبادرات وبرامج مستمرة، مثل برنامج زمالة للفنانين تحت الخطر، ونعمل فيها من خلال شراكات تربطنا مع مؤسسات ناشطة في هذا المجال لتغطي تكاليف سفر وإقامة منح فنية لفنانين. وقد تأخذ هذه المنح أشكالاً عدة، ففي الوقت الحالي وبسبب الظرف العام الذي يحد من حرية السفر، لدينا برنامج إقامة افتراضية يستيضف ستة فنانين سوريا، منهم أربعة لا يزالون في سوريا واثنان في لبنان. وتقدم هذه المنحة دعماً مادياً صغيراً للأشخاص».

معرض آخر عن الحرب؟

فكرة «التنظيم المجتمعي»، أو إشراك أفراد المجتمع في عمليات تنظيم المعارض المختلفة، هي من ضمن التوجهات الرئيسية للمنظمة، إذ بالنسبة لبركة، أحد الأهداف خلق منصة محايدة تسعى لأن يعرض الفنانون أسئلتهم واحتياجاتهم من منظورهم الخاص، لذلك لا تسعى على الدوام لتنظيم وفرض مواضيعها الخاصة.

خالد بركة

«لا يستحوذ علينا همّ دائم لطرح مواضيع الحرب أو الثورة. ذلك عائد لكل فنّان نتعاون معه. ولكن نسعى لأن نكون على صلة بما يجري حولنا. إذ إن كوكلتشر بالتعريف والرؤية هي منظمة تنشط في التقاطع بين الفنّ والنشاط السياسي وبناء المجتمعات. لذلك نحاول خلق مبادرات دائماً لنبقى على صلة بما يجري من حولنا، وقد يرتبط ذلك بالحدث السوري ولكن دون أن يقتصر عليه. إحدى هذه المبادرات كانت مرتبطة بظرف كوفيد-19 مثلاً، نظراً لأهمية موضوع الوباء في الوقت الحالي. إن كنا نريد للفنانين أن يكونوا جزءاً من المشهد العام، لا نستطيع أن نبقى على الهامش ومن ثم نظهر فقط لدى الحديث عن مواضيع الحرب واللجوء. وإذا أردنا الدخول في تفاصيل أكثر بما يخص هذه المواضيع، أظنّ أن هناك سردية ربما تبنّاها معظمنا من قبل، وهي الشكوى من ميل المؤسسات والمانحين إلى التركيز على هذه المواضيع ومحاولتها توجيه الفن وما شابه ذلك، ولكنها في نهاية الأمر خيارات شخصية لكل فنان، وأرى أنّ هذه الخيارات الشخصية مُحِقّة في الغالب، فكل ما مرت به البلاد غير منطقي. ولو ظل الفنانون السوريون يعملون حتى 100 عام قادمة، لن نقترب حتى من محاكاة وعرض ما حدث. ما حدث شديد الكثافة والحدة، وكمية الأحداث والمواضيع هائلة. أظن أن ما كان كثيرون منا يرددونه عن العمل على مواضيع غير مرتبطة بسوريا هو رفاهية وفوقية، ولكن أتحدث عن هذه النقطة كفنان وأُوردها كرأي شخصي لا يحكم عمل المنظمة، إذ كما قلت سابقاً، نحن لا نحاول فرض أي موضوع على أي من الفنانين الذين نتعاون معهم. رغم ذلك، أؤمن بأن علينا واجباً أخلاقياً واجتماعياً ما. من المهم حضور الدور التوثيقي للأعمال الفنية التي مثلت استجابة لحدث، حتى لو اختلفنا حول الشرط الفني لبعضها. ولكن من المهم حفظ هذه الوثائق البصرية عن حوادث بعينها جرت خلال السنوات الماضية».