لا تزال سياسات الرئيس الأميركي المنتهية ولايته دونالد ترامب تجاه إيران تثير الجدل حتى اليوم، خاصةً بعد إعلان الرئيس المنتخب جوزيف بايدن عزمه إطلاق مسار سياسي لاستعادة الاتفاق النووي مع إيران، الذي وقعته واشنطن في عهد الرئيس باراك أوباما عام 2015 عندما كان بايدن نائباً للرئيس.
قبل عامين، في الخامس من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2018، دخلت عقوبات أميركية جديدة حيز التنفيذ، استهدفت قطاعات اقتصادية متنوعة لأحد أكبر مصدري النفط في العالم. تلك العقوبات، التي اعتبرتها الإدارة الأميركية الأقسى من نوعها حتى ذلك الوقت، صُمِّمَت بشكل رئيسي لمنع طهران من تصدير النفط، ما يحرمها المورد الأهم للعملة الصعبة وأحد أبرز عوائدها الاقتصادية. لم تؤدِ السياسات الأميركية إلى تصفير صادرات النفط الإيراني، لكنها استطاعت تخفيض تلك الصادرات إلى ما دون النصف مليون برميل منتصف العام 2019، في حين لا تتجاوز تلك الصادرات حسب التصريحات الرسمية الإيرانية في شهر أيلول (سبتمبر) الماضي 700 ألف برميل من النفط الخام يومياً. قبل ذلك، كانت طهران تصدر ما يزيد عن 2.5 مليون برميل يومياً في العام 2018 قبل انسحاب الرئيس الأميركي من الاتفاق النووي في شهر أيار من العام نفسه.
ركّزت العقوبات الأميركية خلال العام 2019 على الجهود الرامية إلى الضغط على المشترين الكبار للنفط الإيراني من أجل استبدال مصادرهم من الطاقة، وفي هذا الإطار قامت الولايات المتحدة بإيقاف تجديد الإعفاءات التي أعطتها لعدد من الدول مثل الصين والهند وتركيا، بعد ستة أشهر من بدء العقوبات في نوفمبر، وهو ما أدى عملياً إلى انخفاض الصادرات الإيرانية من النفط إلى أدنى مستوياتها منذ أعوام، في وقت كانت الميزانية الرسمية تتوقع تصدير مليون برميل من النفط يومياً، ما أدى إلى خلق عجز كبير في تلك الميزانية وأثَّرَ بشكل مباشر على قدرات الدولة الإيرانية الاقتصادية.
ثم كان للاضطرابات في أسواق النفط خلال ربيع العام 2020 أثر سلبي للغاية على قدرة إيران على تصدير نفطها إلى مشترين يرغبون بأسعار رخيصة رغم خطر العقوبات، إذ أدى الانهيار في أسواق النفط العالمية، نتيجة امتلاء المخزونات الأميركية من النفط في شهر نيسان (أبريل) 2020، إلى تراجع في سوق النفط العالمي ومعه أي فرصة حقيقية لطهران لتجاوز العقوبات الأميركية المشددة عليها في ذلك الوقت.
وبعد التراجع الكبير في أرقام صادرات إيران من النفط، توجه تركيز الولايات المتحدة خلال العام 2020 إلى القطاعات المالية والمصرفية، التي كانت ضمن حزم العقوبات الأولى. وقد أدت عقوبات أميركية مباشرة على المصرف المركزي الإيراني، وعلى عدد من المؤسسات المالية الرسمية والخاصة الإيرانية، إلى انهيار في أسعار صرف العملة الإيرانية إلى مستويات اعتُبِرت الأسوأ في تاريخها.
بالمحصلة، أدى عامان من العقوبات الأميركية المشدّدة إلى تراجع كبير في مؤشرات الاقتصاد الإيراني إلى مستويات بالغة الصعوبة، فقد ارتفعت نسبة التضخم في البلد في العامين الماليين 2018-2019 و2019-2020 إلى 26.9% و34.8% على التوالي، بعد أن كان المعدّل 9.6% في العام المالي 2017-2018. فيما تمّ تسجيل تراجع في الناتج المحلي الإيراني بمقدار 7.6% خلال الأشهر التسعة الأولى من العام المالي 2019-2020.
الرد الإيراني على تلك الإجراءات كان إطلاق العنان لتحرشات عسكرية وأمنية خطيرة في منطقة الخليج العربي، استهدفت سفناً وناقلات نفط عبر عمليات تخريب وتفجير، ما أدى إلى توتير الأجواء إلى مستويات خطيرة. ثمّ سبَّبت ضربات بطائرات درون إيرانية أضراراً كبيرة في منشآت نفطية سعودية، واستمرّت هذه التحرشات وصولاً إلى محاولة اقتحام السفارة الأميركية في بغداد من قبل محسوبين على إيران، وهو ما أعقبه رد واشنطن الشهير باغتيال قاسم سليماني، الأمر الذي وضع المنطقة على شفا مواجهة عسكرية فعلية.
لم تندلع الحرب في الخليج، لكنّ طهران لم تحصل أيضاً على ما تريد، إذ لم يرجع ترامب إلى طاولة المفاوضات، ولم تساعدها دول خليجية في ملفّ العقوبات كما كانت تأمل.
على صعيد نفوذها الإقليمي، كان واضحاً أنّ الضغوط التي أنتجتها العقوبات الأميركية أدّت إلى دخول طهران في مساومات لم يكن ممكناً تصورها قبل ذلك، منها تعيين رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي من خارج الأطر السياسية الموالية لإيران، لكن ليس بسبب العقوبات وحدها فقط، بل وبالتزامن مع أجواء شعبية مناهضة لها خاصةً في العراق. وبالنسبة لسوريا، كان واضحاً كيف أنّ طهران بدأت تترك الملف السياسي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهو ما تمثَّلَ باتفاقات ثنائية بين موسكو وتركيا كان آخرها اتفاق موسكو في شهر آذار (مارس) 2020 الذي أوقف المعارك في إدلب.
خلال العام الماضي، بدأت طهران تنأى بنفسها عن الواجهة في الملفات التي كانت تتزعمها إقليمياً، دون أن يعني هذا انحسار جدياً النفوذ الإيراني في المنطقة، حيث لا تزال ميليشيات وجماعات مسلحة تابعة لإيران تتمتع بنفوذ واسع في لبنان وسوريا والعراق واليمن، وإن تراجعت قدرتها على تحريك قوات كبيرة والدخول في معارك واسعة. رغم ذلك، فإن الاستجابة المتمثلة بالتراجع السياسي تعطي مؤشراً على ما يمكن أن تؤدي إليه عقوبات أميركية مشدّدة، على نظام رفض سابقاً أن يتراجع في كثير من الملفات السياسية، وعلى رأسها الملفّ العراقي، رغم كل المصاعب والضغوط السياسية التي واجهته.
بالنتيجة، فإنّ عامين من العقوبات المشددة على طهران أَديا إلى تراجع كبير في قدراتها الاقتصادية، وتراجع ملحوظ في فعاليتها العسكرية ونفوذها السياسي في المنطقة، وسيكون للاستراتيجية التي ستعتمدها واشنطن خلال عهد جوزيف بايدن دور حاسم ورئيسي في استمرار تلك الضغوط التي قد تقود إلى إخضاع إيران سياسياً، أو انعكاسها كما حصل عام 2015 بعد الإتفاق النووي، وهو ما أعطى طهران في ذلك الوقت فرصة ذهبية لتوسيع نفوذها بشكل كبير في المنطقة.