قطعنا جسر غالاتا بسرعة 100 كيلومتر في الساعة. سائق التكسي التركي، حاله كحال أقرانه، لا يعرف ما الذي يدفعه للاستعجال الجنوني ومزاحمة السيارات الأخرى وشتم من يقود ببطء كأنه ارتكب خطأ حياته القاتل. بعد الانعطافة الأفعوانية التالية للجسر علقنا قليلاً في زحام إشارة المرور على مفرق طرلباشي. كان الزحام حتمياً، خاصة في ساعات الذروة، لأن حاجز الشرطة التالي للإشارة ابتلعَ نصف الشارع تاركاً مساحة ضيقة لعبور العربات. لوّحَ الشرطي لسائق التاكسي كي ينعطف يميناً ويدخل إلى المساحة المخصصة للحاجز. طلب هويّة صديقي وهوّيتي. أعطيناه إياهما. كيملكيبطاقة وضع الحماية المؤقتة للمواطنين السوريين في تركيا. الجميل والمجّلد والذي لا يتّسع في الجيب صار في يد الشرطي، ويتعرض لعملية تفييش مع إقامة صديقي السياحية. ناولَ صديقي إقامته بعد وضع رقمها في محرّك البحث، لكنه تلكّأ في إعادة كيملكي. بدا أنه يعاني من فهم ما يظهر على الهاتف، فجاء شرطي آخر لكي يساعده. ذهبتُ إليه لكي أساعده أيضاً بمزاج الواثق من عدم وجود خطر أو مشكلة، فالكيملك نظامي ولم أرتكب أي جنحة حسبما أتذكر. لا أقود مخموراً ولا أسطو على المنازل في الليل ولا أكسر زجاج النوافذ بالحجارة ولا أشتم أتاتورك ولم أصدر الكيملك عن طريق جهة غير رسمية. لقد ناولني إياها موظف الهجرة بيده وشعرت حينها بالظّفر والحصانة والزهو.
جاء شرطي ثالث لمساعدة الشرطيين الأولين. فهم ما يحصل وطلب من صديقي الذهاب وأمرني بخلع الحزام والجاكيت والذهاب إلى الكولبة التابعة للحاجز. سألني إن كنتُ أحمل أي أدوات حادة في حقيبتي، فجاوبته بلا. كنتُ أحاول تسويف الصدمة عبر إقناع نفسي بأن الأمور ستُحلّ حين يدركون وجود خطأ ما. تشابه أسماء مثلاً، أو خطأ في إدخال رقم الكيملك الطويل. صديقي الذي اصفرّ وجهه في الخارج كان يحاول فهم الأمر، ولكنهم أمروه بالمغادرة. التفتوا نحوي وأمروني بالتوقيع على ورقة طبعوها. شعرتُ بالضعف والعطش وطلبتُ رشفة ماء. لا أعرف إن كان الماغوط دقيقاً حين قال إن الخوف يُعطّل الرُّكب، ففي تلك اللحظة شعرتُ أن الخوف يأتي على الكيان كلّه ويمحوه.
حاولت قراءة الورقة بالتركية، ولكن الشرطي بدأ بالضغط عليّ بحجة أن هذا أمر إجرائي ولا يحتاج أخذاً وردّاً. انخطف لوني حين مررتُ على كلمة «تهديد» في الورقة، فما هو نوع التهديد الذي قد أشكّله؟ بدأت أقلّب السيناريوهات في رأسي: هل يحدث هذا لأنني كتبت على الفيس بوك انتقادات لعملية غصن الزيتون في عفرين؟ لأنني صحفي سوري ولا أشبح للحكومة؟ لأنني لا أوافق على ما تفعله الفصائل الموالية لتركيا؟ لأنني أتردد إلى بارٍ صاحبه كردي؟ هل هناك جهاديّ يحمل اسمي ذاته؟ هل نظروا في اسم الأم والأب والكنية؟ هل سيُرحلونني إلى سوريا؟ ما هي المشكلة بالضبط؟ لم يُقدم الشرطي الواقف فوق رأسي جواباً شافياً. سألته عن كلمة تهديد، فقال لي إنها تحديد وليست تهديد. Tahdid، لا Tehdid. وإنني لو كنت أشكّل تهديداً لما كنتُ قادراً على الكلام. لم يُذهب الجواب مخاوفي وإنما زادها، لأنه عنى أن العنف أمر وارد. وضعني جوابه وسط دوامة أخرى من الأفكار. عشرات الأسئلة كانت تتزاحم في رأسي، وليس ثمة جواب لأي منها. أريد جواباً لأستطيع الدفاع عن نفسي. وبما أن الورطة التي وقعتُ فيها ليست واضحة البتّة، كنتُ أبذل جهداً ذهنياً لإخراج نفسي من كل ورطات العالم، وهذا ينطوي على الافتراض الضمني بأنني ارتكبتُ كل الجرائم دفعة واحدة.
وضعوني في سيارة الشرطة وساقوني إلى مشفى جيهانغير الجديد. أسير وراء الشرطي مُكبّلاً ولا أعرف ما الخطب. أشعر بالمهانة وأنظر في الأرض أمام الممرضة التي تسألني إن كنتُ تعرضت للضرب أو الإساءة. أجيبها بأن أحداً لم يضربني استرضاءً للشرطي القلق من جوابي. أنظر في عينيه بصدق وحزم وأقول له بوضوح: آبيه، أنا خائف من كل هذا وأريد أن أفهم ما الذي يجري؟ يجيبني بأنه لا يعرف المشكلة بالضبط، وأن المخفر يستطيع تحديد ذلك، طالباً مني ألا أخاف… ولكنني خفت.
حين دخلتُ بالأصفاد إلى مخفر تقسيم سألني شرطي يجلس خلف المكتب عن سبب قدومي، فقلت له إنني أنتظر منه جواباً لهذا السؤال. مُشيراً إلى اعتقادي بوجود خطأ، ما يعني أن الأمر سيُحلّ اليوم أو غداً على أبعد تقدير. ضحك ضحكة هازئة. لم أعرف إلا لاحقاً أن سؤال هذا الشرطي كان هدفه معرفة ما إذا كانت هناك حفلة مسلّية له ولزملائه بعد منتصف الليل. وبعد انتظار قرابة ساعتين وقوفاً في زاوية المخفر، ساقني أحد العناصر إلى النظارة. كنتُ أقنعُ نفسي أثناء الدخول بأن الأمر روتيني وسيُحل غداً، لكن حديثي مع الموجودين داخلها غيّر قناعتي ورماني من فوق رابية الأماني التي كنت أتشبث بها بأظافري.
جسور البوح الليلي
النظارة هي عبارة عن غرفة بمساحة صالون في بيت أسرة متوسطة الحال، ولكنها مقسومة إلى قسمين صغيرين بقضبان حديدية من الأرض إلى السقف، بالإمكان تحويل كل منهما إلى زنزانة منفصلة عن أُختها عبر غلق البوابات المعدنية. تتسع كل غرفة/زنزانة لنوم أربعة أشخاص، أو خمسة بوضعية التسييف. يُضاف إلى هاتين الزنزاتين الممر بينهما والممر المؤدي إلى الحمام في الزاوية. كان فيها ما يقارب الـ20 شخصاً لدى دخولي، وكان العدد يتزايد مع عودة دوريات الشرطة بحمولتها بعد منتصف الليل.
ناولني الشبان في النظارة سندويشة وقنينة ماء وأفسحوا لي مجالاً للجلوس. أغلبهم سوريون في العشرينات، اعتُقلوا على الحواجز بسبب عدم حيازتهم لبطاقة الكيملك، أو من أماكن العمل بسبب عدم وجود إذن العمل. وبينهم أيضاً شبان من جنسيات مختلفة: العراق، أفغانستان، المغرب، الجزائر، إيران، أذربيجان. سفراء البلاد المسحوقة إلى الملجأ المأمول، وطرائد البلد البديل التي انزلقت بالملايين إلى فخ الطمأنينة.
أفهمني الشبان أن الإجراءات الخاصة بالكيملك تطول في العادة إلى ما يقارب الأسبوعين أو أكثر، واستغربوا من توقيفي رغم أن كيملكي نظامي وصادر عن دائرة الهجرة. شاب من دوما قال إنه قضى 20 يوماً بعد احتجازه من مكان عمله بسبب عدم امتلاكه إذناً للعمل. باح لي بشوقه لابنته وزوجته، وتحدث عن الآفاق التي تتقلص يوماً تلو الآخر في هذا البلد الذي أتى إليه بعد التهجير والاجتثاث من دوما، التي لم يكن يظن أنه سيُغادرها في الماضي. تَحدَّثَ عن الجور الذي يعانيه يومياً، والعيش بأعصاب مشدودة، والترصد كالفريسة التي لا تملك سلاحاً سوى الفرار في مواجهة الخطر. قال ما معناه إن الفزع من الترحيل والاعتقال كان يشحذ عمل حواسه أثناء العمل والذهاب إليه، وأن الحياة اليومية تشبه السير على حافة الهاوية في هذه الظروف. تحدث أيضاً عن مقتل أخيه في سوريا بقصف النظام، وأقاربه خلال المعارك، قائلاً إنه لا يعرف من أين تنهال العصي على جنبيه. حين غادر النظارة في اليوم التالي بعد قضاء 25 يوماً داخلها تأثرتُ بسبب الألفة التي وجدتها معه في الظرف الموحش. ومع تلويحة الوداع له تحوّلتُ من ضيف إلى مُضيف في النظارة للقادمين الجدد: أناولهم السندويشة وقنينة الماء وأسمع قصصهم المليئة بالمرارة.
شاب من حلب اسمه أحمد، قال إنه اعتُقل بسبب عدم حيازته إذناً للسفر من مدينة كوجايلي التي تقع على مبعدة ساعة من اسطنبول. اضطر للقدوم إلى اسطنبول، وإذن العمل كان يحتاج وقتاً طويلاً للصدور. غامر وأتى فاعتُقل لمدة تقارب الشهر حتى خروجه. كان أحمد مُندفعاً ومليئاً بالحماس. في العشرينات من عمره ولم يُكمل تعليمه. «مبوجق» بعض الشيء. يؤمن بـ«الأصول» وما يتفرّع عنها. يؤمن بـ«الحلال والحرام» ويضعهما جانباً إذا لزم الأمر. خَوَّلته لغته التركية الحصولَ على امتياز الخروج ليلاً للترجمة، وتدخين سيجارة على باب المخفر أو استخدام الموبايل كمُكافأة. كان أحمد يقف على باب النظارة ويتحدث إلى الفتيات في النظارة المقابلة حين دخلت فتاة حلبية إلى هناك. كان يحاول الحديث معها واستطاع ذلك. دار بينهما حديث إنساني في العموم، رغم رغبة أحمد الفائضة بالوصول إليها. أصبحا صديقين، وقضى الليلة على الباب يحادثها. لا أعرف بالضبط ما الذي جرى تلك الليلة لأنني كنت أحاول اقتناص مسرّة النوم والنسيان. ما أعرفه أن الفتاة قضت ليلتها الأولى في نظارة الفتيات، ولكن الشرطة حّولتها إلى نظارة الشبان في اليوم التالي حين زال عنها المكياج وخلعت شعرها المستعار. اتضح أنها شاب في مرحلة من مراحل العبور الجنسي. لا أعرف إن كان أحمد قد طبق معاييره على الحلال والحرام في هذا الموضع: فقد نشأ بينه وبين الفتاة العابرة جنسياً صداقة حقيقية، تجعله جاهزاً للدفاع عنها إذا تعرضت للأذى. وقد تحقق بالتواصل الإنساني بين أحمد والفتاة العابرة جنسياً ما بدا صعباً تحقيقه في المعارك الخاصة بهذا الشأن: ناما على المخدّة ذاتها، خائفَين من المجهول ذاته.
أخبرنا شاب أفغاني أنه اعتُقل بسبب عدم حيازته للوثائق رغم محاولته الحثيثة لإصدارها، إلا أن ذلك كان صعباً بسبب دخوله البلاد عن طريق التهريب. قال إنه وصل إلى تركيا بعد رحلة شاقة عبر إيران تعرض فيها للاعتقال والتعذيب واقتُلعت أظافره. قال أيضاً إنه خائف من الترحيل لأن طالبان أعدمت معظم الذكور في عائلته، مضيفاً أن أي وافد من الخارج يُعتبر غنيمة هناك، لأنهم يعتبرون أنه حصل على كثير من المال في مُغتربه. قال إنه يخشى من التصفية إذا تعرَّضَ للترحيل. ولكن المحامي قال له إنه سيُرحّل في الغالب. رحلة الدم والمشقّة التي خاضها عادت به إلى الصفر، دون أظافر لُيدافع بها عن نفسه.
صفعة التمييز على وجه العدالة
توافد العشرات إلى النظارة خلال الفترة التي قضيتها في المخفر. وهي إن كانت قصيرة بمعايير الاعتقال السورية، وأخجل من وصفها بـ«تجربة الاعتقال» لأنها تكاد تكون نزهة أمام ما مرّ به آلاف السوريين وعائلاتهم، إلا أنها كانت بمثابة زيارة كاشفة لحال اللاجئين أو الأجانب الموقوفين لأسباب إجرائية، اتضح فيها حجم الانتهاك والتمييز الذي يتعرضون له مقارنة بالموقوفين الأتراك أصحاب الحقوق المحفوظة قانونياً، فيما خص الإساءة اللفظية والجسدية على الأقل، أو وضوح الوضع القانوني. لا ينتظر المواطن التركي أكثر من يوم في النظارة، ولا يحق لأي من العناصر الاعتداء عليه أو حرمانه من المعلومات التي تخص اعتقاله. ومقابل «ابن القحبة» الموجهة للسوري أو الأفغاني أو الإيراني، يُنادى المواطن التركي بـ«يا أخي» أو «لطفاً». يعرف معظم المواطنين الأتراك حقوقهم القانونية، مهما كان جرمهم كبيراً، ويهددون الشرطة بالشكوى في حال حصول أي انتهاك، ما يخيف عناصر الشرطة من تكسير الرتب أو الحصول على عقوبة الإيقاف عن العمل، فيدفعهم ذلك إلى التعامل بأدب نسبي. بينما اللاجئون أو الوافدون من البلاد المحطّمة والمهددون بالترحيل قد يضطرون لتلقي الصفعات أو الشتائم، وقبول المعاملة المُستعلية، صامتين بضراعةِ من لا يملك حيلة سوى الخضوع لتفوق الشرطي وسطوته خوفاً من شبح مقيم خلف الباب، هو بلادهم التي تتوعدهم بطحن العظام وحرق السنين ووأد مستقبل الذرّية.
يعمل عناصر المخفر على نوبات ثلاث، من 8-12 ساعة، ويتعرضون لضغط كبير من المراجعين. هم مطالبون بالتحقيق وتدوين الاعترافات قبل إرسال المتهم إلى المحكمة في اليوم التالي. ينطبق هذا على مرتكبي الجنح والجرائم، ولا يشمل الموقوفين بسبب الأوراق، فهؤلاء كان يتم احتجازهم حينها إلى فترات تصل إلى أسبوعين أو أكثر، ثم يُحوَّلون إلى دائرة الهجرة التي تبتّ بأمرهم، ويكون الأمر سخيفاً في الغالب: توقيع على ورقة ما أو إنذار للعودة إلى المحافظة التي جاء اللاجئ منها. ومع حلول منتصف الليل وتراجع الضغط على العناصر، يحققون مع المتهمين بارتكاب الجرائم من غير الأتراك في الممر الضيق الذي تطل عليه نظارتا الذكور والإناث. وبغية نيل الاعترافات يلجؤون إلى الضرب العنيف حين تنطبق معاييرهم المجهولة على الشخص القابل للاستباحة، فتمّحي بذلك سكينة الليل بصراخ الاستنجاد الحاد، وتستيقظ عيون زوّار الزنزانة محاولةً معرفة الفرق بين الحقيقة والكابوس، وتُدركُ، رغم غباشة الرؤية، أن اللكمات الصّارِعة تنهال على وجوه الآخرين.
لا يلجأ عناصر الشرطة إلى التمييز بين المواطنين الأتراك وسواهم فقط. فلا يُمكن أن يتعرض مواطن أمريكي أو أوروبي للضرب إذا زوّر إقامته مثلاً، كما هو الحال مع العراقي أو الأفغاني الذي فعل ذلك مضطّراً أو لأنه خُدع من جانب المافيات والسماسرة. وإضافة إلى ذلك، قد لا يُعامل «المثقف» أو «المتعلم» من اللاجئين كما يُعامل الشخص العادي أو الأدنى تعليماً، رغم أنهم جميعاً في هذا البلد للأسباب ذاتها: الفرار من الموت وجحيم البلاد المتصدّعة وغياب ترف الخيار. وحين ساعدتُ بعض العناصر بالترجمة للموقوفين الذين لا يتحدثون التركية، وأخبرتهم أنني «أستاذ لغة عربية» خوفاً من القول إنني صحفي (اعتقدتُ أنه هذا أوخم ما يُمكن أن يُقال حينها)، قال أحدهم كلاماً فحواه الإشادة بي مقارنة بـ«السوريين الآخرين». كانت هذه أسوأ «إشادة» يمكن أن أسمعها في حياتي، وقد تلقّيتها كمذمّة، شاعراً بالخزي من امتحان إثبات الجدارة الذي وقعتُ فيه دون أن أدري، وفزتُ فيه من صاحب الكلبشة بوسامٍ من القذى والطين والامتياز المالح.
ولكن، ليس للإنصاف فقط، وإنما لتخفيف جرعة القلق على من قد يزور هذا المخفر لاحقاً لا سمح الله: كان ثمة بعض العناصر الإنسانيين واللطفاء إلى حد ما في التعامل مع الموقوفين، وبالإمكان معرفة هؤلاء العناصر من النظرة الأولى والتعامل معهم. كان أحدهم، على سبيل المثال، يستغرب من أوامر الاعتقال والتوقيف بحق أشخاص لم يرتكبوا أي جنحة، ويُمكن أن تُنجز معاملاتهم بخمس دقائق في دائرة الهجرة، دون الاضطرار إلى توقيفهم لأسابيع وشلّ حياتهم وإفزاع عائلاتهم على مصيرهم. محاولاً الاعتذار من أمي التي تأتي باكية لزيارتي لأنها لا تفهم ما المشكلة وتخاف من ترحيلي إلى سوريا.
سكاكر بطعم النعناع
بعد قرابة أسبوعين في المخفر، لم يتمكن فيها اثنان من المحامين من الإحاطة بجوهر المشكلة. تم إرسالنا، أحمد وأنا، إلى دائرة الهجرة في كوم كابيه. رفضت دائرة الهجرة إدخال المحامي معي إلى المبنى، فأوصاني بعدم التوقيع على أي ورقة دون أن يطّلع عليها. دخلتُ قلقاً وجلستُ على أحد المكاتب بانتظار الموظف. جاء ضاحكاً كأننا في زيارة عائلية ودّية، وقَدَّمَ لكل واحد منا سكّرة بطعم النعناع! فكّرتُ في المفارقة التي برقت في ذهني، وهي أنه يحاول استرضائي بهذه السكّرة، بعد الاعتقال التعسفي مجهول السبب، الذي كاد يصيب أمي بداء السكّري. شعرتُ بالمهانة مرة أخرى ووضعت السكّرة جانباً. أشاح بنظره إلى السيستم فاهماً رفضي قبول السكّرة. لا أعرف ما الذي كان يفكّر به، ولكنه قدم لي ورقة وطلب مني التوقيع. سألته إن كان يمكن للمحامي الدخول والإقرار، فرفض. طلب مني القراءة والتوقيع قائلاً: «إما أن تثق بنا، أو أن تُعتقل مرة أخرى في الشارع». وأمرني حازماً بإبعاد الهاتف وعدم الاتصال بالمحامي. قرأت الورقة مراراً. وكانت معاني الجمل التي أمر عليها تتلاشى بسبب التوتر. لم أستطع فهم الإحالات إلى القوانين بالأرقام لأنني لا أحفظ الدستور والتشريعات الخاصة بهذا الشأن. غامرتُ ووقّعتُ على الورقة. تناولها بابتسامة، وقال بِرَدٍّ سايكوباتيّ رهيب: «يسرّني القول إنك وقّعت على ورقة ترحيلك». شعرت بالعطش مرة أخرى، وعرفتُ أن وجهي بدا مصفرّاً له. ثم، بعد تأكده من سريان الأدرينالين في الدم جراء الصدمة، أتبع كلامه بضحكة ساخرة كاشفاً أنه كان يمزح فقط. موظف دائرة الهجرة التركية كان يتسلى بأعصاب اللاجئين القلقين على مصيرهم. نظرتُ إليه مليّاً دون أن أكون قادراً على التبسّم. وبدا أنه شعر بالحرج وحاول تجاوز الموقف. ناولني ورقة وطلب مني إظهارها للشرطة إذا أوقفتني في الشارع. سألته إن كانت المشكلة قد حُلّت نهائياً، فقال إنه لا يستطيع حلّها، وإنني ما زلت مطلوباً إلى حين فكّ الكود عن اسمي. خرجتُ حانقاً وفزعاً من أن كل هذه الأيام العصيبة قد تتكرر في أي لحظة. حاولت فهم المشكلة مع المحامين لمدة شهر، كنت أخاف فيها من التجول في الشارع لأن الكود ما زال موجوداً على اسمي. فهمنا المشكلة بعد معاناة طويلة، وكانت في غاية التفاهة: كان يتوجب عليّ دفع مبلغ قدره 180 ليرة تركية، أي 35 دولاراً، لمديرية الهجرة، بعد رفض دعوى استعطاف رفعتها للحصول على إقامة سياحية عام 2016.
تنويه
مرَّ قرابة عام على بدء الحملة التركية ضد اللاجئين الذين لا يحملون وثائق على أراضيها. وتراجع خلال هذا العام صدى الهزة التي أحدثتها تلك الحملة في نفوس السوريين المقيمين في تركيا، وذويهم المقيمين خارجها. وعلى الرغم من استمرار ترحيل السوريين وسواهم من اللاجئين من تركيا، وتزايد التضييقات الأمنية والرسمية بحقهم، المضافة إلى تزايد العنصرية والرفض العام لوجودهم، إلا أن الأخبار الخاصة بهذا الشأن تمر بعُجالة هذه الأيام، فالأمر صار إجرائياً مع استمراره، وقد تدفّق من الأنباء في السنة الأخيرة ما كان كفيلاً بجعل هذه المسألة هامشية وصغيرة أمام الانتكاسات العالمية الكبرى والتغيرات الاقتصادية والسياسية. لقد جادت سنة 2020 بالكثير على المسحوقين، وأغرقت همومهم الصغيرة في بحر الهم الإنساني الكبير بعد أن قرأت البشرية مصيراً وخيماً في طالعها ليلة الكوفيد، تاركةً المشاكل «الصغيرة» في سلّة أصحابها.
أكتب هذه السطور اليوم بعد أكثر من عام على مرور هذه الذكرى السيئة، خشية نسيان تفاصيلها في زحام الحياة، وبسبب استمرار توافد أخبار الترحيل و«العودة الطوعية» من تركيا، التي يزداد ضلوعها السيء في الشأن السوري، وتتكاثف فيها التعقيدات الوطنية والإقليمية، لتسقط حجراً ثقيلاً على ظهور الشرائح الأكثر ضعفاً وتعرضاً للانتهاك، المتمثلة باللاجئين والهاربين من بلدانهم، والذين لا يريدون أكثر من صون كرامتهم وضمان مستقبل أبنائهم بعد أن فقدوا كل ما يملكون.