فور افتتاح عدد من المحال التجارية في الصين، بعد فك بعض من قيود الحجر الصحي لمنع انتشار جائحة الكورونا، هرع الزبائن للتبضع، فيما لُقّب بـ «التبضع الانتقامي». حققت محلات الأزياء العالمية والإكسسوارات الملايين خلال عدة ساعات، ومن المتوقع تفاقم مظاهر «التبضع الانتقامي» في مختلف دول العالم بينما يتم الرفع التدريجي للحظر خلال الأشهر القادمة. بالمقابل، تداولت المدونات الإلكترونية اليسارية تأملات حول تغيير جذري في عقلية مواطني الطبقة الوسطى والعليا بعد مرورهم بهذه المرحلة التأملية، على أمل أن يتخطى العالم مظاهر كالـ «تبضع الانتقامي». وتتمحور أهم الأسئلة التي راودت الجميع ممن حالفهم الحظ بالتأمل أثناء توقّف العالم حول «ماهية دور الفرد» في هذا العالم، الذي افترض حتمية الحروب والفقر والتعتير على «الآخر» صاحبِ الحياة الهشّة الخارج عن دوامة رأس المال. أي أن السؤال الذي طرحته هذه الفترة بشكل واضح هو: ما مدى المسؤولية الفردية لنا، كفاعلين، في دوامة الاقتصاد العالمي، خاصة الذين حالفهم الحظ من أبناء الطبقة الوسطى والعليا، الذين يمكن الاستدلال عليهم من قدرتهم على النجاة من الجائحة بقدر معين من الراحة، أي أنه كان لديهم مؤونات كافية، ومياه دافئة، والقدرة على دفع الإيجار (أو تم إعفاؤهم منه) في ظل هذه الأزمة. أو الذين تُعَدُّ تجاربهم عن ماهية العيش في خوف دائم إما متخيلة في الحاضر، أو مجرد ذكرى لمن عاشها ونجى منها.
غالباً ما تبدو هذه المساءلات بعيدة للقارئ العربي، إذ أن جُلّنا من أبناء الأمم الخاسرة في عجلة رأس المال، وحيواتنا هشة يسهل ضياعها في طلقة طائشة، و«فينا اللي بكفينا». لكن قُربنا من خسائر عجلة رأس المال، وأهمها الحروب التي تساعد في توسيع اقتصاد الدول الكبرى كما يشرح علي القادري، والوضع الاقتصادي المتردي للدول العربية، الناتج جزئياً عن السياسات النيوليبرالية التي تم فرضها علينا من قِبل المنظمات المانحة للقروض والمنظمات المعنية بالتجارة الدولية؛ قربنا من هذه الخسائر هو ما يميز حالتنا، ويضفي على مفارقتنا الاجتماعية طبقةً أخرى من الغرابة، مثلاً، في عمق ثقافة التبضع، التي تجعل من الطبقات المقتدرة في الدول العربية بؤرة من المستهلكين المثاليين لأبشع تجليات هذه العجلة الرأسمالية، ومن أكبر المواظبين على رسم صورتنا الخارجية بدقة في مواقع التواصل الاجتماعي. فتهيم فوقنا غيمة عنوانها «مش ذنبي»، وغيمة أخرى عنوانها «اللي عندي من حقي» أو«لولا أنا شريت كان ما اشتغلوا»، وغيرها من العناوين التي تعبق بالمنطق الليبرالي.
وفي سياق التبضع الانتقامي، لطالما تم تعزيز جماليات الإكسسوارات في عقلي، أولها هو ذلك الخاتم الألماسي الذي تتباهى به صبايا الطبقة المخملية بالرغم من ثقله الواضح على أصابعهنّ، وتطالب به المغنية ريهانا بإلحاح. ومنها قطع الذهب التي تُراكمها السيدات من مختلف الطبقات، منهنّ من يُراكمنها بعقلية إدخار ومنهنّ من يُراكمنها بقصد التباهي بالثروات. ومن ثم هناك عالم الأحجار الكريمة في دهاليز أسواق دمشق، أو صرعة الإكسسوارات الفجّة لمغنيّ الهيب هوب.
لكن، ولسوء حظي، كنتُ قد قرأت القصة الحقيقة لفيلم بوكاهانتس لديزني، الذي تدور أحداثه في أولى فترات الاستعمار الإنجليزي للقارة الأميركية (لك أن تتخيل عنف القصة الحقيقية بالمقارنة مع ما روته ديزني). فأسرحُ دوماً في تخيلاتي لنظرات المستعمرين الأولين عند عثورهم على ذهب في أرض أميركا فور دخولي محالّ الذهب، مع نظرة تعجب طويلة تلحقها شهقات من السعادة. لا إنكار لجماليات هذه الصخور المتأصلة في أعماق أرضنا، فالتأمل فيها يثير التعجب والإعجاب في آنٍ معاً، إذ يبدو جمالها على الضوء أقرب إلى السِحر.
ارتبط تقديرنا لجماليات الأحجار والمعادن النابعة من باطن الأرض بندرتها وصعوبة استخراجها منذ قديم الزمان، فولَّدَ هذا الحسُّ بالندرة قيمةً سمحت لمختلف الحضارات باستعمالها كأداة للمبادلات الاقتصادية، حتى ارتبطت العملات الورقية بمخزون الذهب في القرن الماضي، عندما حكمت الرأسمالية بفكّ ارتباط العملات بمخزونات الذهب، وأصبحت القيمة المادية في المبادلات الاقتصادية مرتبطة بتقديرات خيالية أخرى متعقلة بمدى إيمان المستثمرين بفعالية السوق. أما في مجال المقايضة المباشرة، فقد أصبح للذهب ومختلف الأحجار والمعادن الأخرى سوقٌ اقتصادي مستقل، ترتبط قيمته بالدلالة على القدرة المالية والجماليات المتعلقة بالتصاق هذه الأحجار على أجساد النساء والرجال والحيوانات الأخرى والأشياء.
وبما أننا في سياق فكرة القيمة، فلا بد من أن نقف لحظة لنقدر كم أن «القيمة» مفهوم ساخر يعتمد على منظومة إيمان تشابه تلك التي تحافظ على الأساطير، يحدده ذوو القوة في النظام العالمي ويزرعون إيماننا به إلى أن نصل مرحلة لا تهفّ فيها على عقولنا فكرة مساءلته. يُبنى هذا الإيمان على كوكتيل من الخوف، والترغيب (وتظهر هشاشة هذه الأسطورة في أوقات الضيق، ككساد عام 2008 والكساد الحالي الملازم للجائحة). ونستطيع تعميم هذا القول على الصعيد الأكبر، ألا وهو صعيد الإيمان بالدولار، الذي ترتبط قيمته بشكل معقد وعميق بسلطة الولايات المتحدة وأصحاب رؤوس المال. وعلى الصعيد الأصغر، فيما يتعلق بالإكسسوارات، هناك مثلاً القصة المشهورة للقيمة الخيالية للألماس، الذي ترتبط قيمته ارتباطاً وثيقاً بقصة صعود شركة دي بيرز المرتبطة بالمستعمرين الهولنديين في جنوب إفريقيا، والتي احتكرت سوق الألماس لسنوات طويلة وحافظت على ندرته في الأسواق العالمية لتضمن قيمته العالية، واخترعت فكرة خواتم الألماس كضرورة للمقبلين على الزواج . ورغم قدرتنا على تصنيع الألماس في المختبرات، ما زالت شركات الألماس تُسوِق ضرورة اقتناء الألماس الطبيعي رغم كلفة استخراجه العالية، والعنف الشديد،الذي أودى بحيوات الآلاف، وموّل جماعات مسلحة استغلالية وحكومات ديكتاتورية، باسم استخراج الألماس.
ثمة سوداوية عميقة مرتبطة بسوق الإكسسوارات، وتتجلى هذه السوداوية المبطنة في المقارنة الآتية: في البُعد الأول، يذهب خطيبان إلى سوق الذهب لممارسة التقليد المبجل مع عائلة العريس لإنتقاء عدّة العروس، تحيط بهذا التقليد هالة من البراءة الظاهرية، فالفتاة ترى في هذا التقليد خطوة من الخطوات المقدسة نحو تبلورها كامرأة (أو انصياعها لمعايير مجتمعية تم إغلاقها بكيس نايلون «أبو سحاب» بعد زرعها من خلال منظومة التربية التقليدية الخاصة بالإناث لمنع أي بوادر نقدية نحوها)؛ والشاب يرى فيه إثباتاً لقدرته المالية، وفي الوقت ذاته معضلةَ، فهذه هي اللحظة التي حُكم عليه فيها بصرف أمواله التي عمل جاهداً لجمعها على إكسسوارات. تُعبّر عن هذه المعضلة لائحةٌ طويلة من الأغاني، مثل الحالة تعبانة يا ليلى. في البُعد الثاني، يحاول العامل السيراليوني ذو الإثني عشر عاماً البحث لساعة إضافية، بعد عمله لمدة 12 ساعة تحت الأرض في منجم، للعثور على أي قطعة ألماس صغيرة قد تزيح بطش الجيش عنه.
لا تخلو أي من أسواق الأحجار والمعادن القيّمة من البطش والعنف. ففي آخر تقرير لمجموعة الأمم المتحدة المعنية بميانمار، تُبيِّنُ المجموعة التغلغل الاقتصادي لحكم قوات التاتمادو، التي تحرص على انصياع الدولة بأكملها لها وللطبقة العليا الداعمة لها من خلال امتلاكها لأكبر الشركات المحلية التي توفر مختلف البضائع والخدمات. واستخراج اليشم والياقوت من أهم العمليات التي يتحكم بها الجيش. يقود جيش التاتمادو هجمات عنيفة ممنهجة على أهالي المناطق التي توجد فيها هذه الأحجار، وعلى القوات التي تحاول مقاومة سيطرته. بالمقابل، يُبيّنُ التقرير الأحوال الإنسانية الرديئة التي يعاني منها قرابة نصف مليون عامل في هذه المناجم، منهم أعداد كبيرة من النساء والأطفال. وفي الوقت نفسه، يستخدم الجيش إيرادات بيع هذه الأحجار لاستكمال بطشه بأقلية الروهينغا المسلمة. تُعدّ سردية هذه القصة عادية جداً في سياق دول العالم الثالث الغنية بالأحجار والمعادن القيّمة التي تُستخدم بشكل رئيسي في صناعة الاكسسوارات، كسيراليون، وأفريقيا الوسطى، والكونغو، وغيرها. يناقش فيلم الألماس الدامي، من بطولة ليوناردو دي كابريو، جانباً من هذا العنف (مع التأكيد على الانحياز الغربي في سردية الفيلم).
هناك طبقة سوداوية أخرى ترتبط بالإكسسوارات، وهي الرابط المباشر بين سوق الألماس ومصالح المستثمرين الإسرائيليين المتوغلين في الأسواق الإفريقية. هناك نسبة تقارب 12% من السوق العالمي للألماس تحت سيطرة مواطنين إسرائيليين، وتمثل عائدات الألماس 23% من صادرات السوق الإسرائيلي، ويتم التقايض بهذا الألماس في الأسواق العربية حسب إفادة عدد من التجار المحليين. من أشهر هؤلاء المستثمرين الإسرائيليين دان غيرلتر، أهم مستثمر في شركة غلينكور للطاقة، والمتهم بتحريض حرب في رواندا، ودعم قادة دكتاتوريين في ثلاث دول أفريقية على الأقل. وقد عُرف -بطبيعة الحال- بمهارته في فن التهرّب الضريبي. تُقدَّر قيمة ثروة غيرلتر بـ 1.26 مليار دولار أميركي، وهو يعمل في مجال الألماس أباً عن جد. وعلى الصعيد الشخصي، هو رجل متدين يقضي نهاية الأسبوع مع زوجته وأبنائه في منزلهم القابع في مستوطنة صهيونية (مفارقة أخرى لتضارب الأبعاد بين صورة بريئة لعائلة كبيرة، وافتعال حروب في دول «الآخر» الإفريقي). التقيتُ قبل عامين بمحامية بلجيكية تلاحق غيرلتر، اسمها إليزابيث كاسينس. ساعدت مساهمات إليزابيث القانونية في جمع الأدلة الكافية للحجز على أموال غيرلتر في الولايات المتحدة تحت شبهات الفساد والتهرب الضريبي. لكن، وبالرغم من جهود عدد كبير من الحقوقيين حول العالم، ما زال غيرلتر قائماً على أعماله دون عوائق كبيرة، وما زالت قطع الألماس التي استخرجت تحت سلطته متداولة في أسواقنا.
حسناً، قد يبدو للمتفرج الفضائي على هذه «الهيصة» أن الحل قد يكمن في دحض الأساطير التي تحافظ على قيمة الإكسسوارات، وإعادة تنظيم السوق بأسلوب متّسق مع معايير إنسانية منطقية. لكن يبدو أن التفكير بهكذا حلول محصور بالفضائيين. لقد حاولت الأمم المتحدة تنظيم سوق الألماس، مثلاً، من خلال عملية كيمبرلي التي يتم فيها تسجيل سلسلة المقايضات التي تنتهي بمحلات الإكسسورات، بغية تجنّب الألماس القادم من مناطق حروب. لكن، وكما يتوقع أي متابع لسياسات الأمم المتحدة، تعد هذه المحاولة من قبيل حكّ السطح، إذ لا تقوم بأي عمل جذري يتوغل في تعددية الطبقات السوداوية التي تنتهي في فيترينا سوق الإكسسوارات، وتصبح موضوع نقاش حاد ما بين عائلتي العروس والعريس. فالمجتمع الدولي، يا عزيزي، منافق ببراعة، فهو مدركٌ في باطن نفسه لحقيقته السلطوية، ولتعزيزه غير المباشر لمفاهيم وسياسات تُفضل التسلط والبطش، فهو في النهاية نتاج تراكم الفكر الليبرالي والاستعماري، لكنه يدّعي، وبكل خبث، أن نوياه متأصلة في الإنسانية والفكر الأخلاقي السليم.
ففي ظل غياب المسائلة القانونية، وتطبيع هذا العنف الواقع على الملايين من سكان المناطق الغنية بالمصادر الطبيعية والمليئة بالأيدي العاملة مكسورة الحيلة ومنزوعة الصوت، يمتد واقع سوق الإكسسوارات، من عنف وعمالة أطفال وتمويل حروب، إلى مختلف البضائع التي غالباً ما نستهلكها بفرح، ومن أهمها الكوبالت المتواجد في هاتفك الخلوي، والشوكولا، وبعض أنواع الموز (خاصة موز شيكيتا الذي أثارت شركته حروباً دامية في كولومبيا، ويباع في عدد من الدول العربية)، ومعظم الملابس المصنعة من قبل شركات عالمية (التي وصل فيها الإهمال إلى حدّ انهيار أحد المصانع على رؤوس العمال عام 2013، وكان المعمل يورّد لماركات مثل إتش أند إم، زارا، غاب، إلخ.. )، والقهوة (وخاصة قهوة ستاربكس)، والنفط. ولم أبدأ بعد بالآثار البيئية المخيفة لعُلَب الماء البلاستيكية، التي تصر خالتي على تكديسها في مطبخها، والتي ستلقى مصيرها في مكب نفايات يزيد من ويلات التغيرات البيئية التي تمس أكثرنا فقراً قبل الآخرين.
وكما كان من المتوقع، في نظام عالمي يُفضّل دوماً المصلحة الشخصية على المصلحة العامة، كانت جائحة الكورونا فرصة لتدهور حال سلاسل التوريد الخاصة بهذه الشركات الكبيرة، وإلحاق ضرر كبير بالمصدّرين في دول العالم الثالث. إذ قامت العديد من هذه الشركات بقطع سلاسل التوريد من العالم الثالث بغرض توفير التكاليف، في ظل توقع هبوط الطلب على البضائع. أي أنها، بعد أن ساهمت في خلق هذه العلاقات الاستغلالية التي غالباً ما تم إكراه المصدرين في دول العالم الثالث على الدخول فيها بشكل غير مباشر، عبر أَحكام العلاقات التجارية الثنائية ذات الأصل الاستعماري، وسياسات المنظمات المانحة للقروض؛ قطعت الشركات الكبرى هذه العلاقات بشكل مفاجئ بهدف حماية مستثمريها في الدول المتقدمة ومن أبناء الطبقات المقتدرة، على حساب المجتمعات التي باتت تعتمد على هذه الشركات. أي أنها «زادت من الطين بلة»، فمثلاً، تم فصل آلاف من العاملين في مجال تصنيع الألبسة في بنغلادش من أعمالهم، وقطع أرزاقهم في وقت لا تقوى دولتهم على إعانتهم فيه. في مقابل هذا الواقع، المساحة الاخلاقية للشعور بالمسؤولية نحو العالم خانقة، وغالباً ما تلاحقني كلمات عبد الحليم حافظ … طريقك مسدود مسدود مسدود. فما حيلة الفرد مقابل هذا الواقع السوداوي لمختلف المنتجات التي أصبحت جزءاً من حياتنا، وواقع المجتمع الدولي المُحِب لمصالح الرجل الأبيض؟
غالباً ما نلوم السياسيين والمسؤولين والمؤسسات الكبرى، كالدولة والأمم المتحدة، على هذه المصائب، فهُم «الآخرُ» المرتكبُ للشرّ. لكن في هذه الملامة تبسيط شديد لواقع تشتبك فيه علاقات السببية بشكل يصعب رصده. هناك ملامة على القادة أكثر من غيرهم، ولا خلاف في ذلك؛ لكن القادة ليسوا إلا رموزاً. ترى أيريس ماريون يونغ في ورقتها البحثية، المسؤولية والعدالة الدولية، أنه وكنتيجة لطبيعة الخطر الممنهج من الحرمان أو الطغيان الذي تعاني منه فئات كبيرة من البشر، فإن كافة المشاركين في الأنظمة التي ينتج عنها ظلم يحملون مسؤولية مشتركة لتصحيح هذه الأنظمة، وفقاً لما تلقبه بـ «نموذج الروابط المجتمعية». فعوضاً عن التناوب في تبادل التأشير بالأصابع، ترى ماريون أن مسؤولية المشاركة في تغيير الواقع ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمدى الامتيازات التي يعيش فيها الفرد، وتكمن فعالية النموذج في الاعتراف الجمعي بهذه الامتيازات. عملاً بوصايا ماريون في معضلة سوداوية التبضع، هناك حل واضح في الابتعاد عن ما لزوم له؛ وتفضيل البائع الصغير والمحلي على البائع الكبير، صاحب سلاسل التوريد المعقدة، حتى وإن زاد السعر؛ والنهي عن المنتجات ذات التوابع البيئية الوخيمة؛ ودفع أصحاب الامتيازات للضجر بعد بتكرار تذكيرهم بمزاياهم كفاعلين في النظام الاقتصادي العالمي؛ و«التزمير» (أي افتعال صوت بزمور السيارة) بشكل مطّول على سائقة الـ (4X4) التي نهبت سيارتها نفطاً خسرنا عدداً من البلدان من أجله؛ وطبعاً، الامتناع عن إضاعة مدخراتك على الألماس. هناك بالطبع طريق الأناركية والثورة حتى نكسر قيمة الدولار، لكن هذا حديثٌ أخر يحتاج مقالة أخرى، خاصة بوجود بوادر باتجاه هذا الطريق في المظاهرات الرافضة لمظاهر التفريق العنصري.
على مستوى شخصي وأعمق، تأخذ جوديث بتلر موقفاً مشابهاً أمام هذه المعضلة الأخلاقية في كتابها عن محاسبة الشخص لذاته، حيث تبين ضرورة مساءلة الفرد لدوره في الأنظمة المجتمعية. في كتابها هذا، تدعونا بتلر لإعادة تقييم مواقعنا وامتيازاتنا في هذا النظام، وبناء وعي حول «أنا» كجزء من المجتمع المحلي، والمجتمع العالمي. فبرأي بتلر، يبدأ الفكر الأخلاقي السليم بنقد ذاتي نابع عن فهم حدود الذات وتحيزاتها، أي فهم المساحة المجتمعية والنفسية التي ولِد وترعرع فيها الشخص، والتحيزات التي كانت قد زُرعت فيه بشكل تلقائي، ومن ثم تجلّت بشكل مبطن من خلال تفاعله مع العالم، خاصة في حيز مواقع التواصل المجتمعي. يرتبط هذا الوعي بالذات بترسيم حدود مسؤولية الشخص كفاعل في النظام العالمي، وفي أغلب الأحيان ترتبط حدود المسؤولية ارتباطاً وثيقاً بحدود سلطة الشخص كفاعل في المجتمع، أي قدرتك المالية والإجتماعية والنفسية وحتى الجندرية. في هذا القبيل، تعد القدرة الشرائية شكلاً من أشكال سلطة الطبقات المقتدرة، إذ تنبع مسؤولية المشتري الذي تحدد «طلبه» توجهات السوق. وهكذا نجد أحد أشكال تغيير ديناميكيات السوق الحديث في تغيير الثقافة الشرائية، والابتعاد عن «التسوق الانتقامي»، والبحث في المصادر الإلكترونية عن ممارسات الشركات العالمية التي نقتني بضائعها قبل اقتنائها، مثل هذه الموسوعة الإلكترونية التي توضّح تاريخ الممارسات الإنسانية لمختلف الشركات.
في الخلاصة، ترتبط الجماليات المادية والرفاهيات، كالإكسسوارات، ارتباطاً وثيقاً بواقع سوداوي لنا أن نراه كفيلم تراجيديا غير منقطع. قدرتنا الفردية على تغيير هذا الواقع مكبلة تحت وزن النظام العالمي الذي ولدنا فيه، لكن علينا الاعتراف بفضيلة الامتيازات التي ولدنا فيها، والتأمل بأثر قراراتنا ومواقفنا الصغيرة، حتى وإن كانت آثارها غير واضحة لنا من موقعنا، فنظرنا غالباً «ما بجيب لبعيد». ولا بدّ لنا من مواجهة هذه السوداوية ودورنا المصغر في تحقيقها، حتى نصل إلى سؤال إن كان بحثنا عن الجماليات و«فشة الخلق» بالتبضع المشبع بالسوداوية حتمياً، أو أن هناك وسيلة لإعادة تعريفنا لمواقعنا في الحياة بعد التأمل من خلال خيارات صغيرة، ومن خلال إمكانية العثور على الجماليات «بلا ولا شي».