جالساً أمارس هوايتي التي لم أخترها؛ التزحلق على فيسبوك العكروت. يجمع هذا الأزرق كثيراً من المتناقضات: أخبارٌ عن لاجئين يجوعون هنا، صور لقطط تأكل مع أصحابها هناك، فتيات تظهر مفاتنهنّ بقدر ما تسمح أدبيات زوكربرغ. وبدون سابق إنذار يقفز في وجهي تسجيل مصور يفرض نفسه على شاشتي، دون أخذ إذني. أربعة مخلوقات يتراكضون حول ضريح شخص ما. فتحت التسجيل كي أسمع ماذا يقولون وأفهم ماذا يحصل، فرأيت شاهدة قبر عزيزة تسمّرت أمام وجوه وأرجل وأيادي أربعة مسوخ، يحاولون كسرها، إلى أن استطاعت وحشيتهم ذلك. يصرخون ويقهقهون بين الموتى، كانت متعتهم ونشوتهم تفوق الخيال، يسيل الشر من عيونهم، والشتائم من أفواههم، يصبّون جام أحقادهم على قبر إنسان وجد الخلاص في «موته المشتهى»، فإذا بهم يلحقونه ويقتلونه مرتين.

أنهيتُ التسجيل ورميتُ هاتفي ورحتُ أتأمل الأرض تحتي. لم تمنعني معرفتي المسبقة بتاريخانية نبش القبور من أن أصاب بالجمود، رحتُ أتذكر مقولة أحدهم وأعيد تأويلها، عن أننا إن امتلكنا حسّاً تاريخياً، فهذا يعني أننا لسنا وحيدين. تكرار تجاربنا الإنسانية/الحيوانية عبر التاريخ مرات ومرات، تمنعنا من وحدة تجربتنا وخصوصية مأزقنا الحاضر، فاعتقادنا بحصرية الفظيع فينا نحن، في شخوصنا، في شعوبنا، في جغرافيتنا، يجعل من هذا الفظيع رقماً رياضياً إسمنتياً، مرفوعاً على قوى جبروتية لا تحتملها الأدوات التي نستخدمها لتعزية أنفسنا. ومع ذلك، فاقت وحشية المشهدية مناعتي التي بُنيت وتمتّنت خلال أعوام الحرب؛ تصدّعتُ أمام أرجل الوحوش وهم يكسرون شاهدة القبر.

جرائم نبش القبور وتدنيس المدافن والتنكيل بجثث الأموات قديمةٌ قدم التأريخ ذاته، على سبيل المثال، تدلّ رُقم الآشوريين على نبشهم لقبور الملوك الذين هزموهم في المعارك، وفي زمن الفراعنة نُهبت وتعرضت للسرقة العديد من المقابر، واعتاد البيزنطيون صلب جثث أعدائهم، وراح كسرى ملك الفرس يصلب جثث معارضيه، وذهبت الأمويون إلى صلب جثث بعض من بني هاشم وبني قريش، ومن ثم قام العباسيون بنبش قبور بني أمية على حد سواء. ونرى في العصور الحديثة كيف قام رجالات الثورة الفرنسية (1789) بنبش قبور ملوك فرنسا المدفونين في المقبرة الملكية، كما تكررت حوادث مشابهة في فترة الحرب الأهلية الاسبانية 1936- 1939، حينما نبشت ميليشيات جمهورية جثث رهبان وراهبات الأديرة. وأخيراً، لا ننسى تدمير مسلحي تنظيمي داعش والقاعدة مئات من الأضرحة والمزارات والزوايا الصوفية، تحت شعار محاربة الشرك بالله.

متسماً بالموضوعية الصحفية، أعود إلى صياغة الخبر ببلادة: تداول بعض الناشطين، في شهر شباط المنصرم، على مواقع التواصل الاجتماعي، تسجيلاً أظهر عناصر من جيش النظام ينتهكون حرمة إحدى المقابر في بلدة خان السبل بريف إدلب الجنوبي. كانت البلدة قد خرجت من يد النظام في العام 2012، واستعاد سيطرته عليها في مطلع العام الجاري 2020، ويتواجد فيها حالياً عناصر من الفرقة الرابعة في جيش النظام، وعناصر من الفرقة 37 في الحرس الجمهوري، ومشفى ميداني روسي.

يظهر في التسجيل المصور خاصتهم عنصر يدعى سامر حلوم، الملقب بـ«الأصلع»، الذي ينحدر بدوره من خان السبل، وكان قد توعد مؤخراً بالانتقام من الأموات، بنبش المقبرة، فراح يكسر شاهدة القبر وهو يصرخ: «إنكت عضامو». يظهر على شاهدة القبر اسم مهنا عمار الدين الملقب بـ «أبو مجاهد»، وهو أحد رموز الثورة في ريف إدلب في مرحلتيها السلمية والعسكرية، وكان قد قُتل اغتيالاً قبل ست سنوات. أغلب العناصر الذين يشاركون الأصلع تحطيم شاهدة القبر ينحدرون من البلدة نفسها، وبعضهم من أقرباء «أبو مجاهد» نفسه الذي تم نبش قبره، بحسب رواية شاب من أهل البلدة للجمهورية.

ينتهي هنا نقل الخبر موضوعياً، ويقفز السؤال: كيف ينتقل وعينا من حالة «إكرام الميت، دفنه» إلى حالة «إنكت عضامو» وكسر شواهد المقابر ضمن أهالي البلدة الواحدة! للجواب على السؤال الفظيع، نحتاج ربما لإعادة التفكر والنظر في المثل الشعبي المقدس:

حين يموت أحدٌ ما، قريب، أو صديق، (أو أنت نفسك)، ويتحول من شخص حي كانت له طباع وأفكار وأفعال وسمات معينة وتاريخ، إلى جثة توقف معها زمنه الشخصي؛ تأتي بعد هذا التحول مسيرة تَحلُّل لذه الجثة، التي تمر بثلاث مراحل مرعبة ضرورية الذكر والتأمل:

المرحلة الأولى هي الانحلال الذاتي أو الهضم الذاتي، حيث يتم تدمير خلايا الجسم من خلال عمل أنزيمات هاضمة خاصة، وكنتيجة للتحلل الذاتي، يتكون سائل بين طبقات الجلد مما يجعله يتقشر بسهولة، ومن ثم يبدأ الذباب في وضع بيضه في فتحات الجسم؛ العينان والأنف والفم والأذن والجروح المفتوحة وغيرها، وبعد فقس البيض تخرج اليرقات تحت الجلد، وتبدأ بأكل الجسم الميت. المرحلة الثانية هي الانتفاخ، حيث تبدأ بكتيريا الأمعاء بتحطيم أنسجة الجسم، وإنتاج الغازات التي تتجمع في الأمعاء. يحدث الانتفاخ عادة في البطن، وأحياناً في الفم والأعضاء التناسلية، ويكون عادة في الأسبوع الثاني من تحلل الجثة. يستمر انتفاخ الجثة وتجمّع الغازات فيها حتى يتحلل الجسم بالقدر الكافي لخروج الغازات. المرحلة الثالثة والأخيرة هي التعفن، وهي أطول مرحلة، يتحلل الجهاز الهضمي والمخ والرئتان أولاً، وفي الظروف العادية، يصعب التعرف على أعضاء الجسم بعد ثلاثة أسابيع نتيجة تحللها الكامل، تؤكل العضلات بواسطة البكتريا أو تلتهمها الحيوانات آكلة اللحوم. بعد عدة سنوات، لا يتبقى من الجثة إلا الرفات؛ الهيكل العظمي.

من البديهي أننا لا نتمنى حدوث المراحل المفزعة السابق ذكرها في مسكن المتوفى، أو في المشفى، أولاً حفاظاً على سلامة الأحياء من الأمراض وانتشار الأوبئة والروائح المنبعثة من مراحل تحلل الجثة، وثانياً من أجل أن تبقى ذكراه كريمة تحتفظ بشكل يستطيع المتذكر فيها استرجاعه بشكل آمن نسبياً، وأخيراً كي نقاوم خوفنا من موتنا المستقبلي عبر جرعة من مشهد الميت محترماً مهاباً موضوعاً في كفن أو تابوت ضمن قبر يليق فيه، مدفوناً بحذر تحرسه شاهدة تشير إليه، فنرى في المشهد مجازاً وخيالاً لصورة موتنا. من محصلة ما سبق، تأتي حاجة الأولين لمقولة «إكرام الميت دفنه».

تؤَّلُ شاهدة القبر كنص صوري يكثّف بقاء هذا الإنسان، الذي تحوَّلَ إلى عدم وجثة، ضمن إطار صورة معينة في الذاكرة تحضر فيها الورود غالباً، لتصنع هذه الشاهدة صياغة تجعل ذوي المتوفى وأحبائه يتصالحون مع موته خلال حياتهم. ليس هناك باعتقادي تجاوز مكتمل أو شفاء تام من ألم الفقدان، لكنَّ زيارة شاهدة القبر ووضع الورود وجميع هذه المراسم تأتي من أجل إحياء الذكرى، وحمل الجراحات بطريقة تسمح لنا بالاستمرار رغم الألم.

لا يقتصر هذا التصالح فقط على الموت، والألم المصاحب للفقدان، بل يتطرق أيضاً إلى الخسارات العاطفية، والأمراض الجسدية الجسيمة، والحنين للوطن البعيد، وتجارب فتّاكة كالاغتصاب أو التعذيب وجميع أنواع التجارب الموجعة التي يستحيل على الإنسان نسيانها أو الشفاء منها تماماً، فيقوم بتحويلها وإعادة صياغتها وترميزها وتمثيلها بأشكال متعددة، منها الكتابة والتمثيل والرسم والموسيقى والمسرح والسينما، ومنها شاهدات القبور.

أن نكتب، يعني أن نُجرّب البقاء لمدة أطول، حتى لو امتلأت ذواتنا عبثية ولا جدوى. أن نكتب، يعني أن نحاول الخلود، ما استطعنا، بحسب قوة نصوصنا التي نكتبها وفاعليتها وفاعليها. هكذا فعلت الآلهة، وأنبياؤها كلهم، لتبقى وتتكاثر بالكلام والنصوص. أن نكتب، يعني أن نحاول نشر معرفة ما، أو خطابٍ ما، أو أن نحاول التصالح مع ألم ما وأن نصيغه ونصيغ ماضينا معه، بنصوص سواء كانت علماً أو فلسفة أو ديناً أو دستوراً أو قصيدة، أو حتى شاهدة قبر.

2 بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ، قَالَ الْجَامِعَةُ: بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ، الْكُلُّ بَاطِلٌ.

3 مَا الْفَائِدَةُ لِلإِنْسَانِ مِنْ كُلِّ تَعَبِهِ الَّذِي يَتْعَبُهُ تَحْتَ الشَّمْسِ؟

4 دَوْرٌ يَمْضِي وَدَوْرٌ يَجِيءُ، وَالأَرْضُ قَائِمَةٌ إِلَى الأَبَدِ.

5 وَالشَّمْسُ تُشْرِقُ، وَالشَّمْسُ تَغْرُبُ، وَتُسْرِعُ إِلَى مَوْضِعِهَا حَيْثُ تُشْرِقُ.

6 اَلرِّيحُ تَذْهَبُ إِلَى الْجَنُوبِ، وَتَدُورُ إِلَى الشَّمَالِ. تَذْهَبُ دَائِرَةً دَوَرَانًا، وَإِلَى مَدَارَاتِهَا تَرْجعُ الرِّيحُ.

7 كُلُّ الأَنْهَارِ تَجْرِي إِلَى الْبَحْرِ، وَالْبَحْرُ لَيْسَ بِمَلآنَ. إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي جَرَتْ مِنْهُ الأَنْهَارُ إِلَى هُنَاكَ تَذْهَبُ رَاجِعَةً.

8 كُلُّ الْكَلاَمِ يَقْصُرُ. لاَ يَسْتَطِيعُ الإِنْسَانُ أَنْ يُخْبِرَ بِالْكُلِّ. الْعَيْنُ لاَ تَشْبَعُ مِنَ النَّظَرِ، وَالأُذُنُ لاَ تَمْتَلِئُ مِنَ السَّمْعِ.

– سفر الجامعة، الإصحاح الأول، الكتاب المقدس

يتجلى تحطيم عناصر جيش النظام لشواهد القبور، الدالّة على أمكنة جثث «رافضيه»، بوصفه أعلى درجات الانتقام والتشويه؛ ملاحقة الأموات، إلغاء ذكراهم، مسح تاريخهم بأثر رجعي، ومنع ذويهم الأحياء من التصالح مع فقدانهم، وحرمانهم من صياغة ألمهم بشكل يستطيعون معه المضي قدماً. وأن يكون أولئك المجرمون من أهالي بلدة صاحب الشاهدة ذاتها، أو حتى من أقربائه، فإن هذا يمضي بالقصة إلى آخرها، كأن من حطَّمَ الشاهدة يقول: «أنا خان السبل وليس صاحب القبر وأمثاله»، تماماً كما يقول النظام: «أنا سوريا وليس أنتم وأمثالكم».

لم يكتفِ عناصر جيش النظام بتحطيم شواهد القبور ونبش العظام فحسب، بل استغلّوا وسائل التواصل والكاميرا لفتح أعين باقي «مواطنيهم»، وهذا هو الفعل المعاكس للوداع اللائق الذي يقوم به سائر البشر لموتاهم. لقد استطاعوا انتهاك حرمة الموتى إلى بعد مدى، وملاحقتهم أمام الأعين إلى عالمهم الثاني؛ وهكذا فإننا لا نتعجب من أن بعض سوريي الشمال يأخذون في نزوحهم، مع أمتعتهم، شواهد قبور أحبائهم.

السوريون كانوا، وما زالوا، أمام كتلة سرطانية تقتل وتستخدم تقنيات العالم الأول كلها للأذى، أسلحةً ووسائل تواصل؛ تستمتع هذه الكتلة بكسر عظام من لا يتجانسون معها، وتتلذذ بنبش تلك العظام بعد سحقها وتحويلها إلى جثث، جهاراً أمام عيون العالم كله. لا بديل أمامنا عن انتزاع زمام حياتنا و«موتنا» من أيدي صانعي القبور ونابشيها ذات يوم.