تنتشر على طرفي شارع السوق في أريحا عشرات المحلات لباعة الحلويات، تظهر على واجهاتها أصنافٌ اشتهرت بها المدينة مثل المشبّك والعوّامة وحلاوة الجبن، لكن الأهم هو الشعيبيات، السمة الأهم للمدينة حتى غدت «ماركة مسجلة» تلتصق بأبنائها، إذ لا يكاد يُذكر اسم أريحا منفرداً دون إضافة الشعيبيات له، لتنتقل معهم في رحلاتهم ونزوحهم ولجوئهم؛ يكفي أن تكتب «شعيبيات أريحا» على واجهة محل ما لتجذب انتباه السوريين في أي مكان.
سوق الهال في المدينة هو الآخر يحظى بشعبية كبيرة في المنطقة، خاصة بين أبناء قرى وبلدات جبل الزاوية المجاور، إذ تشكل أريحا بالنسبة لهم سوقاً لتصريف منتجاتهم، ومركزاً للتسوق والدراسة والطبابة والعمل.
مثل خلية نحل، تعيش المدينة يومياتها حتى ساعات متأخرة، فهي البوابة الشمالية لقرى جبل الزاوية ورئتها، لكن ذلك كان قبل أن يدخل العام الجديد فيغيّر منحى الحياة فيها، مع اشتداد الحملة العسكرية الأخيرة لقوات النظام وحلفائها، التي ارتفعت حدّتها في أريحا بعد سيطرة النظام على معرة النعمان وتمدده في عدد من القرى والبلدات في المنطقة.
مُدمّرة وخالية من سكانها
تُظهر الصور والفيديوهات القادمة من أريحا دماراً كبيراً طال المدينة، يقدّره نشطاء من أبنائها بنحو ثلاثين بالمائة من مبانيها بشكل كامل، بينما ترتفع النسبة إلى النصف إذا تحدثنا عن الأضرار الكليّة والجزئية معاً. وتشير تقديراتهم إلى أن نحو 90 % من سكانها نزحوا خلال الأسابيع الماضية إلى مناطق أكثر أمناً؛ يقولون إن السبب في نزوحهم يعود إلى زيادة حدة القصف الجوي والمدفعي، وتخوّف الأهالي من التقدم البري لقوات النظام نحو المدينة، بعد أن باتت قريباً منها.
بتتبع الضربات الجوية التي استهدفت مدينة أريحا خلال الشهر الأول من العام الجديد، نجد أن الدفاع المدني قد وثَّقَ أربع ضربات جوية مباشرة استهدفت السوق الشعبي وسوقاً رئيسياً ومشفىً ومخبزاً وفرق الدفاع المدني، إضافة إلى مسجد وروضة أطفال ومدرسة والعديد من منازل المدنيين، أسفرت عن عشرات المصابين، ومقتل ما يزيد عن خمسة وعشرين مدنياً بينهم سبعة أطفال، وعدد من أفراد الكوادر الطبية، كان آخرهم زكوان طمّاع، المدير الإداري في مشفى الشامي، الذي فارق الحياة متأثراً بجراحه.
توقفت معظم الخدمات الطبية في المدينة بفعل القصف، وهو ما يؤكده إعلان مديرية الصحة في إدلب مؤخراً عن خلو ريف إدلب الجنوبي بالكامل من المراكز الصحية بعد استهداف مشفى الشامي. يقول المهندس محمد خالد عطار، وهو أحد كوادر منظمة شباب من أجل سوريا، التي كانت تنشط في أريحا وما حولها قبل توقفها عن العمل مؤخراً، إن أريحا ضمت في الأشهر الأخيرة أعداداً كبيرة من نازحي ريف إدلب الجنوبي، في ظروف وصفها بالقاسية نتيجة توقف الدعم عن المنظمات الإنسانية. لكن «المدينة شبه خالية اليوم» يقول؛ «معظم أبراج تشغيل شبكات الإنترنت تم تفكيكها ونقلها، وكذلك معظم الأفران تم تفكيكها ونقلها إلى مناطق أخرى، فيما دُمّرت أخرى نتيجة القصف». يصف العطار ليل أريحا في الأيام الماضية بـ «الدامس»، إذ لا يجرؤ السكان على إنارة أي مصباح خوفاً من الاستهداف.
تقول سيّدة من سكان أريحا إن المدينة «معطلة بالكامل، والجهة الوحيدة التي تعمل هي فرق الدفاع المدني»، ويقول الناشط الإعلامي سليمان عبد القادر إن «قلة قليلة بقيت في المدينة فقط، توقفت مولدات الكهرباء ومياه الصهاريج، وكذلك كافة شبكات الإنترنيت، باستثناء شبكة واحدة انحصر بثها في نقطة معينة».
أيام دامية يرويها السكان
تروي ليلى السعيد، وهي ناشطة في مجال العمل الإنساني من أريحا، تفاصيل الضربة الأخيرة على مشفى الشامي بالقرب من منزلها، وتقول إن نجاتها وأطفالها كانت نتيجة معجزة، بعد أن استيقظت وعائلتها على صوت الانفجار الذي دمر الأبواب والنوافذ؛ «كان الغبار كثيفاً والأتربة والشظايا ملأت المكان، لجأنا إلى غرفة جانبية بعيدة عن الشارع الرئيسي، ليسقط صاروخ آخر أحدث فتحة في جدار الغرفة. ركضتُ بأطفالي نحو الملجأ أسفل المبنى، صوت البكاء والصراخ غطى على كل شيء، قبل أن يقطعه صوت الانفجار الثالث الذي ترافق مع صوت سيارات الإسعاف والدفاع المدني الباحثة عن ناجين تحت الأنقاض. عند خروجي، حملتُ حقيبة تضم أوراقي الثبوتية، التفتُّ إلى ركام منزلي لمرة أخيرة قبل أن أغادر المكان».
تقول ليلى إن النوم فارق معظم السكان بانتظار ساعات الفجر، وإن الأيام السابقة لهذا الهجوم، في ليل التاسع والعشرين من كانون الثاني الماضي، قد شهدت نزوح عدد من الأهالي، إلا أن هذا الهجوم دفع معظم السكان لاتخاذ قرارهم بالرحيل؛ «الشوارع امتلأت بحافلات النزوح، هذه المرة لا أريحا في استقبالهم، معظمهم اتجهوا نحو المخيمات في الشمال، بينما تاه قسم منهم لا يعرف أين تسوقه قدماه».
«هل ستسقط المدينة؟»؛ تتحدث ليلى عن السؤال الذي لم يفارقها طيلة الأيام الماضية، والذي لمست آثاره في ملامح الخوف المرتسمة على وجوه جميع السكان الذين رافقوها على طريق النزوح الجماعي.
يخبرنا أحد سكّان أريحا عن أحداث ذلك اليوم واصفاً إياها بـ «القيامة»؛ أشخاصٌ يصرخون عبر القبضات اللاسلكية على رجال الإسعاف والدفاع المدني للتوجه إلى المكان، آخرون يبحثون عن ناجين بعد الغارة الأولى، قبل أن تتبعها غارات أخرى على المكان ذاته لقتل أكبر عدد ممكن من الأشخاص والمسعفين، أبنية مهدمة ونساء وأطفال يبحثون عن مخرج في الظلام. معظم القتلى من النازحين الذين سكنوا أريحاً هرباً من المعارك الدائرة في قراهم وبلداتهم، ليجدوا الموت بانتظارهم مرة أخرى. يختم أبو أحمد: «لم يعد هناك مكان آمن.. الموت في كل مكان».
أريحا الأهمية والمكان
تقع أريحا إلى الجنوب من مدينة إدلب، وتتبع لها إدارياً خمس وخمسون بلدة وقرية، إضافة لأربع وأربعين مزرعة، وتملك المدنية موقعاً جغرافياً بالغ الأهمية في محافظة إدلب، إذ تتوسط أربعة مدن رئيسية؛ جسر الشغور إلى غربها ومعرة النعمان إلى جنوبها وسراقب إلى شرقها وإدلب إلى شمالها. وتضم أريحا جبل الأربعين، وهو جزء من سلسلة جبال الزاوية، يرتفع نحو ألف متر عن سطح البحر.
يكتسب جبل الأربعين أهميته من إشرافه على الطريق الدولي M4 الواصل بين اللاذقية وسراقب، كذلك يطل على الطريق الواصل بين أريحا وإدلب ويشرف على عدد من القرى والبلدات في جبل الزاوية وحتى ريف حلب الجنوبي، ما يكسب الجهة المسيطرة عليه تفوقاً عسكرياً بقطع طرق الإمداد من جهة، ورصد أي هجوم أو تحرك عسكري من جهة ثانية.
كانت قوات النظام قد تمسكت بمدينة أريحا وخاضت معارك شرسة في سبيل ذلك خلال السنوات الأولى من الثورة، التي شهدت ثلاث محاولات من قبل الفصائل المعارضة لتحريرها كان آخرها نهاية العام 2014، ودفع سكانها ثمناً باهظاً لخروجهم على حكم الأسد، إذ تم توثيق مقتل نحو ألف وثلاثمائة شخص من أريحا حتى بداية العام 2015. في الثامن والعشرين من أيار 2015، استطاع «جيش الفتح»، المكون من تحالف الفصائل الرئيسية في إدلب، إحكام سيطرته على المدينة بعد طرد قوات النظام منها بالكامل.
تمثل أريحا ملتقى الطرق بين الساحل السوري وحلب من جهة، وكذلك بين معرة النعمان وإدلب من جهة أخرى، ويحصر الطريق الواصل إليها من جسر الشغور جميع قرى وبلدات جبل الزاوية، وهو ما يفسر نزوح سكانها تجنباً للحصار.
الواقع العسكري اليوم
يتجمع في المدينة اليوم مقاتلون من أبنائها وأبناء القرى المجاورة، ويقول من التقيناهم إنهم نقلوا عائلاتهم إلى أماكن آمنة وعادوا للذود عن أريحا، ويتحفّظون على ذكر أي معلومات عن استعداداتهم، مكتفين بالقول إنهم سيفعلون ما بوسعهم كي تكون المدينة عصية على قوات النظام.
لا يقلل المهندس العطار من أهمية المقاومة الشعبية، إلا أنه يعقد مقارنة بين حجم القصف والطيران الذي يستهدف المدينة، وبين قدرة الشبان على مقاومتها، آملاً أن تصمد المدينة. ومن جهتهم، يقول من التقيناهم من مقاتلي الفصائل العسكرية إن قوات النظام تتجه نحو مدينة سراقب شرق أريحا، وتضع ثقلها العسكري هناك الآن، مؤكدين على تغير الخارطة العسكرية في الأيام المقبلة، إذ تكبدت قوات النظام في الأيام الأخيرة خسائر كبيرة في العتاد والعناصر، كما شهدت الأيام الأخيرة فتح جبهات جديدة في أرياف حلب، وتحوّل الفصائل إلى الهجوم المعاكس على بعض الجبهات.
صبحي الخالد هو ناشط محلي من أبناء جبل الزاوية، وقد قال في حديث معنا إن تغيرات دولية وإقليمية يمكن أن تحول دون تمكّن قوات الأسد من تنفيذ مخططها في السيطرة على كامل الطريقين الدوليين M4 وM5، وهي الخطة التي يعني نجاحها سيطرة النظام على أريحا حتماً. ويستدل على ذلك بالخلاف التركي الروسي الذي تظهر ملامحه بوضوح، خاصة مع نشر القوات التركية لخمس نقاط مراقبة في محيط سراقب، وتعرّض إحدى هذه النقاط لقصف مباشر من قوات النظام ما أدى إلى مقتل جنود أتراك، ثم الردّ واسع النطاق من قبل الجيش التركي على مواقع قوات النظام، وهي كلّها مؤشرات تدّل على مسعى تركي واضح لمنع قوات النظام من استكمال خطّتها.
أريحا في الذاكرة
ارتبطت أريحا منذ نشأتها بمدينة حلب، ويصفها ياقوت الحموي في معجم البلدان بـ «بُليدة من نواحي حلب، أنزه بلاد الله وأطيبها، ذات بساتين وأشجار وأنهر». وفضلاً عن الحلويات، يرتبط اسم أريحا أيضاً بأشجار الكرز، وهي كانت متنفساً لسكان المنطقة، وخاصة أبناء حلب، بما فيها من مواقع سياحية وأوابد أثرية بالغة القدم، أما اسمها فهو يعود إلى أصول آرامية، ويعني «الأريج ورائحة الزهور».