خلال مراسم استلام وزراء حكومة حسان دياب لحقائبهم الوزارية رسمياً، قال وزير الداخلية اللبناني الجديد محمد فهمي إنه لن يسمح «بالاعتداء على القوى الأمنية التي تقوم بواجبها، والتي…. تميزت بتألقها على مستوى الأمن الاستباقي». ليس صعباً أن نعرف ما هو «التألق» الذي يتحدث عنه الوزير، إذ كانت الأيام التي سبقت الإعلان عن تشكيل الحكومة الجديدة، في الحادي والعشرين من شهر كانون الثاني الجاري، قد شهدت ارتفاع مستويات العنف الذي تمارسه القوى الأمنية اللبنانية، حتى بلغت حد إطفاء عيون بعض المتظاهرين والمتظاهرات بالرصاص المطاطي الذي يتم تصويبه إلى الوجوه مباشرة، وممارسات وحشية أخرى من قبيل الوقوف أمام مستشفيات واعتقال بعض المصابين من على أبوابها.
وبالتوازي مع استمرار العنف المباشر، يستمر نوع آخر من العنف الذي يمارسه النظام السياسي اللبناني ضد المجتمع، وهو العنف «المصرفي» إذا صحّ القول، الذي يتمثّل في احتجاز المصارف اللبنانية لأموال المودعين، وتحديد ما يحق لهم سحبه منها بالدولار أسبوعياً، وهو ما دفع متظاهرين لبنانيين إلى مهاجمة المصارف وتكسير واجهات بعضها، الأمر الذي اعتبرته السلطة اللبنانية، على ألسنة رموزها ومسؤوليها، مبرراً لتصعيد القوى الأمنية لعنفها الوحشي، ومن بينهم سعد الحريري، الذي وصف المتظاهرين الذين هاجموا المصارف بأنهم خارجون على القانون وخارجون على سلمية التحركات، داعياً القوى العسكرية والأمنية إلى «كبح جماح العابثين والمندسين»، وذلك في تصريح له في الثامن عشر من الشهر الجاري، عندما كان ما يزال يشغل موقع رئيس حكومة تصريف الأعمال.
وإذا كان صحيحاً أن حكومة حسان دياب هي حكومة حزب الله والتيار الوطني الحر وحلفائهما بالدرجة الأولى، وأن قوى رئيسية مثل تيار المستقبل وحزب القوات اللبنانية قد امتنعت عن المشاركة في تشكيلها، إلا أنها تبدو حكومة النظام السياسي اللبناني برمته، وهو ما يشرحه بوضوح هذا التلاقي بين تصريح سعد الحريري وتصريح وزير الداخلية الجديد، اللذين ينتهيان إلى النتيجة ذاتها، وهي تغطية العنف المتصاعد الذي تمارسه القوى الأمنية اللبنانية.
في حديث له مع الجمهورية، يقول الكاتب الصحفي اللبناني حسام عيتاني إن «حكومة دياب هي الحكومة اللبنانية الأولى، منذ اتفاق الطائف على الأقل، التي تختبئ فيها قوى الأمر الواقع وراء شخصيات لا تاريخ ولا حيثيات سياسية لها، تجنباً لاستفزاز الشارع الذي انتفض على الفساد الأسطوري للمجموعة الحاكمة، وسعياً إلى كسب ود المجتمع الدولي، الغرب تحديداً، الذي بات تدخله حبلَ الإنقاذ الوحيد عن طريق حزم المساعدات والبرامج التنموية، التي قد تجنب السلطة اللبنانية إعلان إفلاسها والخضوع لبرامج وإجراءات تقشفية بإشراف دولي». وهكذا فإن عيتاني يرى أن حكومة دياب هي «حكومة إنقاذ للنظام القائم بالدرجة الأولى، ولذلك لا أهمية لما إذا كان تيار المستقبل أو غيره يحظى بتمثيل فيها أم لا، ما دام أن الهدف هو منع مركب السلطة المصاب بمئات الثقوب من الغرق بكل مكوناته، والذي يؤدي حزب الله دور الحامي له، على ما صرّحَ الأمين العام للحزب حسن نصر الله أكثر من مرة منذ بداية الانتفاضة في 17 تشرين الأول».
ويبدو أن للنظام السوري بصمات واضحة في تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة، وذلك من خلال النائب اللبناني اللواء جميل السيد، المدير السابق للأمن العام اللبناني في عهد الرئيس الأسبق إميل لحود، العهد الذهبي لوصاية نظام الأسد على لبنان. وعن هذا يقول عيتاني إنه «منذ انتخاب جميل السيد 2018 في عملية شابها تزوير يفقأ العينين، كان واضحاً أن الرجل آت إلى النيابة بطلب مباشر من السلطات السورية، وبتنفيذ تولّاه حزب الله. وتستبطن الطريقة التي تم بها فرض نيابة جميل السيد قيامه بمهمات رعاية مصالح نظام بشار الأسد على المستوى العملاني، إذا جاز التعبير، فيما يتولى حزب الله رعايتها على المستوى الاستراتيجي. ومن هذه المهمات البحث في الأسماء المرشحة للمناصب الوزارية وخلفياتها وولاءاتها، إلى جانب دور استشاري واسع يحلّ فيه محل ضباط المخابرات السوريين السابقين في لبنان، مثل غازي كنعان ورستم غزالة».
وإذا كان استمرار الحراك الثوري في لبنان أحد أبرز العقبات التي تعترض حكومة حسان دياب، فإن ما تؤكده الوقائع أعلاه مجتمعةً هو أن العنف سيكون خيارها الرئيسي على هذا الصعيد، وهو ما يؤكده الكاتب الصحفي اللبناني خالد صاغية، الذي يقول في حديث له مع الجمهورية إن الهدف الرئيسي لهذا القمع سيكون «تحويل الثورة إلى مجرد اعتصامات في بعض الساحات، دون السماح بقطع الطرقات وعرقلة عمل الحكومة، ودون السماح بأي نوع من الشغب، بحيث يتابعون إدارتهم للبلد بالطريقة نفسها دون أن يؤثر استمرار الاعتصامات على عملهم». ويرى صاغية أن أبرز مؤشر على هذا النهج هو «التشديد المتزايد على التمييز بين المتظاهرين السلميين وغير السلميين، وكأن الشَغَب يعني أن هناك متظاهرين يستخدمون العنف»، مضيفاً أن تعيين محمد فهمي وزيراً للداخلية، وهو الذي كان يشغل موقع رئيس فرع الأمن العسكري اللبناني في فترة رئاسة إميل لحود، دليلٌ على توجه الحكومة الجديدة نحو تصعيد التعامل الأمني العنيف مع التظاهرات.
لكن ثمة عقبات أخرى تقف في وجه حكومة دياب، أبرزها الوضع الاقتصادي المتدهور، وأزمة المصارف، وتراجع سعر صرف الليرة اللبنانية. وعن هذا يقول صاغية إنه ليس أمام حكومة دياب، أو أي حكومة أخرى تشكلها السلطة الحاكمة نفسها، سوى مخرج واحد، وهو «الحصول على عملة صعبة من الخارج، وهو الأمر الذي لا يبدو واضحاً إذا ما كانت الحكومة ستنجح فيه أم لا، بالإضافة إلى الاستمرار في الإجراءات الموجعة بحق المودعين، والانتقال إلى سعر صرف رسمي آخر غير الذي عرفه لبنان خلال العشرين سنة الأخيرة».
ويبقى أن الارتباط الشديد بين الحكومة اللبنانية وحزب الله يشكل عائقاً أساسياً أمام قيام جهات خارجية بإنقاذ الاقتصاد اللبناني مجدداً، وهو الاقتصاد الذي يتداعى تحت وطأة الفساد والنهب وسوء الإدارة. وعلى أي حال، فإن أي تدخل خارجي ينعش الاقتصاد اللبناني، سواء جاء عن طريق صندوق النقد الدولي أو غيره، سيترافق حتماً مع إجراءات تقشفية بالغة القسوة حتى يتمكن لبنان من تسديد ديونه، وهي الإجراءات التي ستزيد من غضب الشارع اللبناني، والتي لا بديل عنها سوى وقفُ الفساد والهدر العام وإجراءُ إصلاحات اقتصادية جذرية، تعني في نهاية المطاف تغيير بنية النظام اللبناني القائم على التحاصص والزبائنية، وهو ما لا يمكن أن تقوم به حكومة تم تشكيلها أصلاً لإنقاذ هذا النظام.
يواجه الحراك الثوري اللبناني ظروفاً وتحديات بالغة التعقيد، وهي تزداد تعقيداً وخطورة مع تشكيل حكومة دياب وتصعيد عنف القوى الأمنية، ومواصلة القوى السياسية اللبنانية التقليدية استحضار شبح الحرب الأهلية الثقيل. ويرى حسام عيتاني أن «ذاكرة الحرب الأهلية تحضر كعامل ترهيب من تصعيد الثورة نحو خيارات لا تخلو من عنف، خاصة مع وجود قوة طائفية كبيرة مسلحة هي حزب الله، تبدو على أهبة الاستعداد للانقضاض على الانتفاضة في أي لحظة مواتية».
أما عن الخيارات المتاحة أمام المنتفضين اللبنانيين، فيقول خالد صاغية إنه ليس ثمة خيار سوى «التصعيد في وجه هذه الحكومة، وفي وجه كل من يقولون إنه ينبغي منحها فرصة، لأنها حكومة السلطة نفسها بأقنعة جديدة. والتحدي الآن هو خلق تكتيكات جديدة للتعامل مع تفريق التظاهرات السريع بالعنف المفرط، وللضغط على المجلس النيابي والحكومة، ومنعهما من مواصلة عملها واجتماعاتها بشكل طبيعي».
في الاتجاه نفسه، يقول حسام عيتاني إن «الانتفاضة مضطرة للسير بين ألغام كثيرة، واختيار التكتيك الملائم بوتيرة يومية». ويختم حديثه بالقول إن «من يتابع وقائع تشكيل حكومة دياب، سيشعر أن الطغمة السياسية تتناتش المناصب على أنها غنائم وطرائد، تماماً مثلما كانت تفعل في الأعوام الماضية. هذا الانفصال عن الواقع، وإن بدا شديد الاستفزاز للجمهور المنتفض، ألا أنه يؤكد اضمحلال شرعية النظام القائم، واستحالة إمساكه بزمام الأمور على نحو ما كان قبل الثورة».