لقد غيّرت الثورة السورية حياتي كليًّا، كما هو متوقّع من أي حدث ثوريّ. أصبحنا نُقلّب جميع المُسلّمات في رؤوسنا ونتفكّر فيها: ما معنى الوطن؟ أو العودة؟ أو المقاومة؟ ذلك في ظل التراجيديا والدّمار الهائل الذي نزل فينا بعد الثورة. هذا التفكّر هو سبب مهم من أسباب الأرق السّوري بعد 2011، الذي ربّما يتجلّى في واحدة من أكثر حالاته تطرّفًا عند السوريين الباقين في الجولان منذ العام 1967، في مواجهتهم لثالوث الثورة والنظام والاحتلال.

لن أكذب، شكّكتُ في كلّ شيء، في الوطن والعودة وجدوى المقاومة، ولكنّ الثورة تعود لكي تتحدّاني مرارًا وتكرارًا. وهذه المرّة تضع أمامي تحدياً صعبًا حقًّا. لم أظن أبدًا أنّني سوف ألزم بيتي بينما يصل اثنان من الأسرى المحررين من سجون الاحتلال إلى قريتي مجدل شمس. لم أتخيّل أن يوم تحرير أسرى في الجولان، الذي كان يوصف بالـ«عرس الوطنيّ»، سوف يكون موجعًا ومحزنًا هكذا. وهنا أريد أن أتأسّف… سَلَفًا، لأنني لا أستطيع كتابة هذا النصّ كتغطية صحافيّة عاديّة. الحدث ترك أثرًا كبيرًا في نفوسنا، نحن شباب الجولان الذين نؤمن بالثورة السورية بكل وجداننا، أثرًا يفوق قدرتي على التعبير في سياق صياغة صحافيّة نمطيّة.

وافقَ الاحتلال الإسرائيليّ على إطلاق سراح أسيرين سوريين أبناء الجولان المحتل، هما صدقي المقت وأمل أبو صالح، كبادرة حسن نيّة في أعقاب إعادة جثّة الجندي الإسرائيلي زخاريا باومل من قبضة النظام السوري إلى إسرائيل في العام المنصرم. تمّ ذلك في إطار صفقة بين إسرائيل والنظام السوري بوساطة روسيّة. صدقي المقت من مواليد 1967، والملقّب بعميد الأسرى السوريين في سجون الاحتلال، كان قد أمضى في اعتقاله الأوّل 27 عامًا في السجون لمشاركته في نشاط حركة المقاومة المحليّة في الجولان، وتمّ إطلاق سراحه في 2012 ليعود مجدّدًا إلى المعتقل في العام 2015 بعد تصويره للجيش الإسرائيلي وهو يقوم بتقديم مساعدات لمسلحين، قِيلَ إنهم من جبهة النصرة، في جنوب سوريا على حدود الجولان المحتلّ، حيث تمّ الحكم عليه بالسجن الأمنيّ لأحد عشر سنة إضافيّة بتهمة التجسس والخيانة والتعامل مع دولة عدو.

أمّا أمل أبو صالح من مواليد 1994، فقد حُكم عليه في العام 2015 بالسجن الجنائيّالتطرّق في هذا النّص هو بشكل رئيسيّ لقضيّة صدقي المقت، إذ أن لملفّ أمل أبو صالح (الجنائي، على خلاف ملفّ صدقي المقت الأمنيّ) تفاصيل مختلفة تحتاج نقاشًا مطوّلًا. لا أستطيع، للأسف، فتحه هنا. لسبع سنوات وثمانية أِشهر لقتله جريحًا سوريًا، كانت إسرائيل تنقله في سيارة إسعاف عبر مجدل شمس، حيث تم الهجوم على السيارة من قبل عشرات المؤيدين للنظام بذريعة نقلها لجرحى «إرهابيين»، ما أدّى إلى مقتل أحد أولئك الجرحى.

أكتب هذا النّص بامتعاض وصعوبة، وبخوف، أيضًا. هناك أكثريّة صامتة في الجولان اليوم، ما زالت لا تجرؤ على التعبير عن رأيها الحقيقيّ، وذلك بسبب الترهيب الذي ينتهجه المؤيّدون للنظام؛ أكتب هذه السطور بعد أن تمّ تهديدي أكثر من مرّة لنشري مواد تغطية ورأي عن وضع الجولان المحتل، وعن كون شبيحة النظام السوري سببًا رئيسيًّا في أزماتنا اليوم. لكن طالما أملك بعض المساحة للتعبير، وإن كانت ضيّقة، فسوف أكتب. على القارىء أن يعلم مع كلّ هذا أن نصّي لا يخلو من بعض التقيّة. تحسّبًا.

وصلَ الأسيران إلى مجدل شمس ظهر يوم الجمعة العاشر من كانون الثاني (يناير) الجاري. كنتُ أتابعُ البث المباشر للحدث عن طريق صفحات المشاركين في الاستقبال. شيئًا فشيئاً، تتقاطع الأصوات الخارجة من هاتفي مع الأصوات التي أسمعها من شبّاك المنزل. مُجدّدًا، لن أكذب عليكم، فكّرت ألف مرّة بالنزول والمشاركة في الاستقبال. سيفهمني ويعذرني القرّاء الذين يعرفون المعنى العظيم ليوم تحرير أسرى في الأراضي المحتلّة، وفي الجولان خاصّة؛ «أعراسٌ وطنيّة» ننتصر فيها على المحتل، أملٌ باستمرار المقاومة، تعبيرٌ عن إرادتنا السورية أبدًا، وعن بقائنا، وعن استعدادنا للتضحية؛ انتصارُ الحق على الباطل ليوم واحد، والأهم من كل هذا الكلام الكلاسيكيّ: قدوة، من رجال ونساء، نتطلع إليها.

من احتفال كرامة، جامع لجميع الجولانيين، تحوَّلَ حدث تحرير الأسرى في هذه المرّة إلى احتفال تبجيلي للنظام السوري، لا يقبل أي أحد مختلف، ويضرب بعرض الحائط كل إرادة بالتضامن والمشاركة في الفرحة. مجدّدًا يتم احتكار ساحات الجولان، يتم احتكار الحيّز العام، ويتم احتكار صورتنا لدى الإعلام، وصورتنا لدى باقي السوريين. وإذا كنتم ترفعون علم روسيا، وصورة بوتين (مجرم الحرب بحقنا وصديق نتنياهو العزيز)، في ساحة سلطان باشا الأطرش، وتحتكرون المواقف وتفسدون على الحركة الوطنيّة ضد الاحتلال وعلى المجتمع الجولانيّ مناسباته، وتفرغونها من معناها، فلماذا العتب على من يريد أن يرفع علم الاحتلال؟ هذه هديّة للاحتلال على طبق من ذهب. هكذا، لا تحتاج إسرائيل إلى مشاريع التهويد والأسرلة، والاستيلاء على الوعي، فعندما يتم طرح سوريا كخيار لا يفصلها بأي شكل من الأشكال عن الدكتاتور الذي يحكمها، فمن من الشباب الصغار سوف يختارها؟ من سيختار النضال من أجلها؟

أمل أبوصالح (يمين) وصدقي المقت (يسار) أثناء مسيرة استقبالهما في مجدل شمس

لم أتخيّل في حياتي أنني سوف أحوم حول نفسي وفي صالون بيتي مرّات عديدة بينما تحتفل الجموع في الخارج بتحرير أسرى. أن لا أشارك هكذا فرحة. أن نجلس أنا ورفاقي في صمت مربك في بيوتنا. أن تقترب الأصوات، وتصبح أعلى: «الله، سوريا، بشّار وبس». أن أحسّ بكل هتاف وكأنه صفعةٌ على وجهي. مسيرة ليست كبيرة بالمقارنة مع مسيرات استقبال الأسرى قبل 2011، ولكنّها كبيرة بما فيه الكفاية لأن تكون ضربة موجعة. ترتفع أعلام النظام، وصور بشّار الأسد -وهذا ليس بالغريب عليَّ، للأسف- ولكنّ الجديد هنا هو العلم الرّوسي وصورة بوتين. كاد عقلي أن يتفجّر من هذا المشهد، عشرات الأفكار تتضارب وتتنازع، حتّى عجزتُ عن فهم نفسي.

ساحة سلطان باشا الأطرش في مجدل شمس يوم الجمعة الماضي
ساحة سلطان باشا الأطرش في مجدل شمس يوم الجمعة الماضي

مجدّدًا، لن أكذب. لا أستطيع كبت فرحتي العارمة لخروج أسرى جولانيين من سجون الاحتلال. وفي الوقت نفسه، لا أستطيع كبت دموعي على واقعٍ فيه أسرى، مثل صدقي المقت، دفعوا سنين عمرهم من أجل المقاومة والجولان، يشكرون ويحيّون الجزّار بشّار الأسد فورًا عند خروجهم من المعتقل، وهو الذي يُغيِّبُ في سجونه، في مسالخه البشريّة، آلاف الأسرى السوريين، أسرى الحريّة هم أيضًا. منهم من أبناء الجولان المحتلّ، مثل الدكتور صلاح عماشة، ابن قرية بقعاثا، المعتقل منذ 2013 عند النظام، والذي لا نعرف عنه شيئًاحتّى الآن، ومنهم أيضًا الشهيد عماد أبو صالح، ابن مجدل شمس، الذي قُتِل تحت التعذيب في سجون الأسد عام 2015. لم أتخيّل أن يتم ربط فرحة تحرير أسير سوري من سجون المحتل بتبجيل من يعتقل ويقتل مئات الآلاف منّا. على الأسير المحرر أن يكون قدوة للاستقلاليّة والحريّة والنضال من أجل سيادة الشعب على الأرض، أن يمثّل الإجماع الشعبي ضد الاحتلال، وليس العكس.

طبعًا، يطول النقاش في قضية الأسرى السوريين في سجون الاحتلال. لطالما أهمل النظام الحركة الأسيرة، عشرات الأسرى على مرّ 50 عامًا، تُركوا في سجون العدو، حتّى استشهد بعضهم فيها، ولم يفاوض النظام من أجلهم. فلماذا يعقد هذه الصفقة الآن؟ من الواضح أن الأسير السوري المقاوم في السجن الإسرائيلي لا يعني شيئًا للنظام السّوري، باستثناء (بعض الأحيان) عندما يكون شبّيحًا مخلصًا. الولاء الأعمى، في مقابل إمكانيّة اعتبار السّوري إنسانًا، وذلك فقط في حال تحقّقِ مصلحة للنظام؛ هذه هي معادلة المواطنة في سوريا الأسد، وهي في لبّ فكرة «التجانس» التي يقول بها بشّار الأسد، التي هي فكرة إباديّة بالضرورة.

كسرت الثورة جميع المسلّمات. ولكنّها أيضًا أوضحت أشياء كثيرة، ورسمت لنا طريقًا بيّنًا، بدماء شهدائها، ولذلك أقول: مبروك والحمد لله عالسلامة، من القلب، لكل إنسان يتحرر من سجون الظلم، بعد أن وُضِع فيها بسبب محكمة غير شرعيّة، حتّى لو كان على جبهة أخرى. وبالرغم من صعوبة الموقف، لكنّ الثورة علّمتني قيمة الإنسان، وعلّمتني أن أحداً في الدنيا لا يستحق أن يُسجن عشرات السنين بسبب محاكمة ظالمة، أو بسبب آرائه، كائناً من كان. الإنسان يعلو على كل شيء، وقيَم الثورة الإنسانيّة، تعلو على كلّ شيء. هذا هو الفرق بين سوريا الثورة وسوريا الأسد؛ سوريا الثورة التي قدّمت لنا بديلاً أخلاقيًّا وبوصلة إنسانيّة.

وأخيرًا، يا طفلة وحشيّة… يا حريّة.