بعد مقتله بصواريخ جو-أرض أميركية، يبدو النظر إلى حياة قاسم سليماني شبيهاً للغاية بالنظر إلى حياة النظام الإيراني، الذي قفز إلى السلطة في نهاية السبعينات بعد الثورة الإيرانية، ليتولى الخميني الحكم في طهران معلناً ولادة نظام هجين يضع سلطة رجال الدين فوق سلطة رجال الدولة، فالرجل الذي ظهر اسمه في معركة خرمشهر الثانية عام 1982 خلال الحرب العراقية الإيرانية، اقترب من الموت خلال تلك الحرب الوحشية، لكنه نجا ليشرف لاحقاً على كتائب الحرس الثوري الإيراني المنتشرة على الحدود مع أفغانستان، إلى أن عينه خامنئي عام 1998 في منصب قائد «فيلق القدس» التابع للحرس الثوري الإيراني، وهو الجناح المسؤول عن العمليات الخارجية.
وضع هذا المنصب سليماني على تماس مباشر مع التنظيمات والجماعات المرتبطة بإيران في المنطقة، وكانت ميليشيا حزب الله اللبنانية أبرز تلك التنظيمات في ذلك الوقت. بعد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) عام 2001، جرى لقاء بين دبلوماسيين إيرانيين بإشراف سليماني ومسؤولين أميركيين، لبدء عملية تعاون لضرب نظام طالبان في أفغانستان، ويبدو أن خبرة سليماني الأفغانية كانت مناسبة للغاية للعب مثل هذا الدور. وعلى الرغم من توقف تلك القنوات المباشرة بين واشنطن وطهران، إلا أن سليماني كان قد انخرط في عملية بناء تفاهمات شديدة التعقيد بين الولايات المتحدة وإيران، شملت أفغانستان والعراق، وأتاحت تخفيف الهجمات ضد الأميركيين في المناطق الشيعية في العراق، وبناء طبقة سياسية شيعية في العراق، موالية لطهران ولا تعترض على الوجود الأميركي، كان مثالها الأبرز نوري المالكي.
في سياق هذه العلاقة، ساعدت إيران الاستخبارات الأميركية في اصطياد قادة تنظيم القاعدة وقادة في طالبان الأفغانية، لكن هذه العلاقة لم تستقر على وضع ثابت، وتخللتها عقوبات أميركية وصِدام سياسي علني ومفاوضات عسيرة حول البرنامج النووي الإيراني، لكنها في الوقت ذاته حافظت على مستوى من الاستقرار في حدّه الأدنى، يسمح بتمدد إيران داخل العراق، مقابل سكوتها عن الوجود الأميركي، ومن ثم إفساح المجال أمام انسحاب هادئ لواشنطن خلال عهد الرئيس باراك أوباما.
كان سليماني حاضراً في هذه العلاقة المركبة، يقوم بإدارة النفوذ الإيراني وتنفيذ أوامر المرشد. وقد أتاح الأميركيون لطهران أن تمتلك نفوذاً جديداً بعد حزب الله، إذ أصبح العراق في يد طهران، وبدأ نجم سليماني بالسطوع في هذا السياق بالتحديد.
تمت ترقية قاسم سليماني إلى رتبة لواء بداية العام 2011، وهو لم يكن مجرد ترفيع عادي حتى لو أن شروطه كانت مكتملة من الناحية الرسمية، فقد رأى النظام الإيراني في الربيع العربي معركة مصيرية للحفاظ على نفوذه في المنطقة، وجرى رسم الاستراتيجية الإيرانية لخدمة هذا الهدف، الذي كانت سوريا في القلب منه.
بعد انطلاق الثورة في سوريا ربيع العام 2011، حسم الإيرانيون خياراتهم سريعاً بالوقوف مع بشار الأسد والحفاظ عليه مهما كلف الثمن، إلا أن آثار التدخل الإيراني الواضح لم تظهر بشكل علني سوى مع اقتراب نظام بشار الأسد من الانهيار عام 2012، الذي شهد أحداثاً عدّة من بينها تفجير خلية الأزمة، ليصبح وجود ميليشيا حزب الله المرتبطة بإيران واضحاً للغاية منذ بداية 2013، خاصة في مناطق حيوية بالنسبة لها مثل القلمون الغربي وريف حمص الجنوبي الغربي.
شهد عام بروز النفوذ الإيراني في سوريا عدة تحولات رئيسية في استراتيجية النظام لقمع الثورة السورية، حيث توسع النظام في العمليات العسكرية، ومن ثمّ توجه إلى تطبيق عمليات حصار وتجويع ضد المناطق التي استعصت عليه عسكرياً، ليس كعقاب لها كما كان الحال في 2011 و2012، بل كاستراتيجية عسكرية تهدف إلى تغيير وجه تلك المناطق إلى الأبد، فقد ترافقت عمليات الحصار والتجويع مع حملات قصف مستمرة من دون توقف على تلك المناطق، وشهد شتاء 2013-2014 حالات وفاة نتيجة سوء التغذية في مخيم اليرموك والغوطة. كانت المجاعة تجتاح المناطق المحاصرة، وكان بروز الدور الإيراني في سوريا مترابطاً بشكل لصيق مع استخدام هذه الاستراتيجية.
قاسم سليماني كان رجل إيران في سوريا، وكان قد شرع في تنظيم بنية جديدة لقوات النظام، إذ بدأت قواته بتدريب وتشكيل ميليشيات طائفية موازية لجيش النظام الذي تمّ اعتباره غير كفؤ، وبدا أن تلك الميليشيات المشكلة تحت ظلال الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني، ستكون الذراع الإيراني في العمليات العسكرية ضد المناطق الثائرة في البلاد.
بالتوازي مع تشكيل ميليشيات «الدفاع الوطني»، وميليشيات أخرى بهوية طائفية واضحة مثل كتائب أبي الفضل العباس من سوريين وعراقيين، استقدم سليماني ميليشيات عراقية للقتال في سوريا، وبدأ ببناء ميليشيات أفغانية تقاتل كمرتزقة إلى جانب النظام، الذي أصبح أكثر خضوعاً للنفوذ الإيراني الذي أنقذه من السقوط عسكرياً في الفترة بين عامي 2012 و2013.
نجح الإيرانيون بقيادة سليماني في إنقاذ بشار الأسد من السقوط، لكنهم لم يستطيعوا تغيير موازين القوى لصالحه بشكل حاسم، إذ بقيت أجزاء واسعة من سوريا بيد فصائل المعارضة، وفصائل جهادية مناوئة للنظام، وكان الحل في جلب مزيد من الدعم من حليف مشترك للإيرانيين وبشار الأسد؛ بوتين الذي كان قد لعب دوراً واسعاً في حماية النظام سياسياً في مجلس الأمن ومنع إقرار أي قرار أممي تحت البند السابع ضد النظام السوري. بدا ذلك المخرجَ الوحيد من الاستعصاء الذي دخلت فيه الأوضاع في البلاد، ويُظهر تقرير نشرته وكالة رويترز أن قاسم سليماني شخصياً كان الرجل الذي ذهب إلى موسكو لإقناع بوتين بالتدخل عسكرياً لصالح النظام، وفرض معادلة قوة جديدة في البلاد عام 2015.
نجح سليماني مجدداً في خطته، فقد انخرطت موسكو بشكل واسع في الحرب السورية، من خلال عمليات قصف وحشية أدت إلى دمار لا يمكن تخيله في أحياء حلب الشرقية وبلدات الغوطة المحاصرة وغيرها، مغيرةً مسار الأحداث منذ سقوط أحياء حلب الشرقية في يد النظام نهاية العام 2016.
في مقابلة نادرة لقاسم سليماني مع التلفزيون الرسمي الإيراني أجراها قبل أسابيع من مقتله، تحدث قائد فيلق القدس في الحرس الثوري عن خطة إسرائيلية لتهجير شيعة الجنوب في لبنان خلال حرب 2006، بهدف إحداث تغيير ديموغرافي يمنع حزب الله من تشكيل خطر على إسرائيل، وكيف أنّه لعب دوراً رئيسياً في تلك الحرب ومنع تهجير شيعة الجنوب. وبعد عشر سنوات من تلك الحرب بالضبط، نشرت حسابات مرتبطة بالميليشيات الإيرانية في سوريا صوراً لقاسم سليماني يتجول في أحياء حلب الشرقية التي سيطر عليها النظام بمساعدة إيرانية وروسية؛ كانت تلك الصور تقول إن الرجل نفسه هو المسؤول الأبرز عن تهجير أهالي حلب، بهدف إحداث تغيير ديموغرافي يسمح بالإبقاء على السيطرة الإيرانية في سوريا والمنطقة.
لم تكن تلك هي الصور الأولى لقاسم سليماني في سوريا، إذ كان قد ظهر في زيارات عدة قبلها إلى جبهات القتال في ريف حلب الجنوبي خلال العامين 2015 و2016، وهي المناطق التي لا تزال ميليشيات أجنبية مرتبطة بإيران تتمتع بنفوذ واسع فيها حتى الآن. وفي العام 2015 أيضاً، كان سليماني قد زار جبهات القتال في ريف اللاذقية الشمالي، لكن ظهوره بات أكثر تكراراً بعد التهجير من حلب، إذ ظهر في ريف حماة الشمالي خلال معارك العام 2017، وتحدثت أنباء عن إشرافه المباشر على معارك عدة في الجنوب السوري، وهو ما أكدته قناة الميادين في تسجيلات مصورة نشرتها بعد مقتله، ليتكرر حضوره بعدها في ريف دير الزور الشرقي بعد سيطرة قوات النظام على أجزاء منه، وهي المنطقة التي تعتبر إيران أن إحكام السيطرة عليها أمرٌ حيويٌ لاستكمال مشروعها في المنطقة. ولعلّ آخر ظهور مصوّر لسليماني في سوريا كان هناك، عندما زار مدينة البوكمال في تموز (يوليو) 2019، وهي الزيارة التي قالت الأنباء إن الهدف منها كان الإعداد لمواجهة محتملة مع الولايات المتحدة. ولكن خلف الظهور المُصوَّر والمُعلَن، كان هناك حضور يبدو يومياً في إدارة عمل الأذرع الإيرانية في سوريا والمنطقة، تؤكده ظروف مقتله وهو في رحلة من دمشق إلى بغداد.
أدار سليماني خلال كل تلك الفترة علاقة معقدة بين ميليشيات موالية بشدة لنظامه من جهة، وبين حكومة ضعيفة مرتبطة بنظامه أيضاً من جهة أخرى، وقد كانت إدارة العلاقة بين الميليشيات القوية والحكومات الضعيفة هي جوهر استراتيجية سليماني في المنطقة، أما المدنيون الذين قتلوا بنيران قواته، أو عانوا التجويع على يد حلفائه، أو هُجروا من بيوتهم دون أي مجال للعودة، فقد كانوا الضحايا الضروريين لاكتمال قوة ونفوذ سليماني والنظام الإيراني في بلادنا.
لن ينهي موت سليماني هذا النفوذ الآن طبعاً، لكنه قد يكون بداية لذلك، كما أن قتل سليماني ليس قصاصاً كافياً ولا يجلب العدالة للضحايا، لكنه كان لحظة تنفس وفرح للناجين من جحيم الموت الإيراني الذي كان سليماني من أبرز صنّاعه.