رفقةً بتغطية إعلامية واسعة، بدأ عرض الفيلم الوثائقي تحية لوطني الجميل في بعض صالات العرض في تركيا وأوروبا. أخرج الفيلم جنكيز أوز كرابكير، وقام بأدوار البطولة الرئيسية فيه كل من يتكين دكنجلر في دور ناظم حكمت، وسركان آلتنتاش في دور أحمد أوميد الشاب. والفيلم ليس وثائقياً بالمعنى المألوف للكلمة، بل درامي بنكهة الوثائقي، تخللته مشاهد قليلة «حقيقية» من مدن إسطنبول وغازي عنتاب وموسكو، حيث يتحرك بطلا الفيلم. تكمن «وثائقية» الفيلم فقط في أنه لا يقدم قصة متخيلة، ولا حتى دراما مستوحاة من أحداث حقيقية، بل مقاطع محدودة من قصة ناظم حكمت المعروفة على نطاق واسع، في تركيا والعالم، بموازاة قصة الروائي أحمد أوميد، الأقل شهرة حتى في تركيا نفسها.
صحيح أنه مبدع في نوع الرواية البوليسية، بل هو أهم كاتب تركي في هذا الباب، لكن أوميد هو كاتب معاصر على قيد الحياة، في نحو الستين من عمره، ولم يتحول إلى أسطورة كالشاعر ناظم حكمت. لا يتعلق الأمر بمقارنة أدبية، غير ممكنة فوق ذلك، بين شاعر وروائي ومن عصرين مختلفين، بل بالهالة الأسطورية التي أسبغت على الأول، بصرف النظر عن استحقاقه لها من عدمه، مقابل كاتب بين كتاب مشهورين ومقروئين في تركيا اليوم، يصعب أن يكتسب ما يماثلها ربما حتى بعد وفاته. للمقارنة، نرى أن أورهان باموك نفسه لا يملك هالة أسطورية رغم أنه الكاتب التركي الوحيد الذي فاز بجائزة نوبل للأدب، بل هو موضوع خلافي، بصدد قيمته الأدبية، بين محبي الأدب في تركيا من قراء ونقاد. ونلاحظ أن باموك حريص على الظهور إعلامياً، من حين لآخر، باستغلال أي مناسبة، كي لا ينساه الناس بعد انقضاء موجة الاحتفاء به في سنته النوبلية.
لم أذكر باموك أيضاً بهدف المقارنة في القيمة الأدبية لأعماله مع أعمال أوميد، بل للقول إن الهالة الأسطورية التي نالها حكمت في حياته وبعد مماته، هي من الاستثناءات التي قد لا تتكرر. وسبب التركيز على هذه النقطة هو للإشارة إلى ورطة أحمد أوميد بهذا الفيلم. ورطة لأنه هو كاتب السيناريو، ويظهر بنفسه أيضاً في بعض مشاهد الفيلم، وأحياناً كصوت في خلفية المشهد، في دور راوٍ يحكي للمشاهد بعض تفاصيل من حياته الشخصية.
ويقوم الفيلم أساساً على اصطناع توازٍ بين حياتيّ كل من حكمت وأوميد: مع الأخذ بعين الاعتبار المسافة الزمنية الشاسعة بين فترتي حياة كل منهما، كلاهما بدأ حياته كناشط في الحزب الشيوعي، وتعرضا للملاحقة الأمنية والقضائية بسبب نشاطهما الشيوعي، وزاوجا بين النشاط السياسي المحظور والأدب، وسافرا إلى موسكو لتلقي «علوم الماركسية اللينينية» على مقاعد مدرسة الحزب الشيوعي السوفييتي الخاصة بالرفاق القادمين من «بلدان الشرق»، وتعرض كلاهما إلى خيبة أمل مريرة بسبب رؤيتهما النظام الإشتراكي في الواقع، المختلف تمام الاختلاف عن تصورهما الذهني له بوصفه «جنة الله على الأرض»!
تكمن ورطة أحمد أوميد في أنه، في هذا الفيلم، يسعى إلى تكريم نفسه بنفسه، ويريد من قرائه أن يعرفوا أنه «ليس مجرد كاتب روايات بوليسية ناجحة» بل كذلك له ماض «نضالي» يستحق الإشهار! لو أن آخرين من محبي أعماله أو محبيه الشخصيين قدم هذا الفيلم، لكان ذلك أقل وطأة، وبخاصة لو جاء ذلك بعد وفاته بعد عمر طويل. أما أن يقدمه بنفسه، ككاتب سيناريو وظهور شخصي في الفيلم، فهو مما يقدم مادة وفيرة لانتقاده، كان بغنى عنها.
فقد أظهر أوميد نفسه، في مشاهد الفيلم، بوصفه بطلاً شجاعاً في مواجهة قمع الشرطة، وخطيباً مفوهاً يجيد إثارة حماسة الجمهور بالكلام والشعارات الثورية، وموهوباً يصيغ البيان السياسي الذي سيوزع سراً بجمالية الأدب، وناقداً جريئاً لتفسخ الشيوعية السوفييتية في الثمانينات، إضافة إلى تعرضه للاعتقال لبضعة أيام.
المفارقة أن الفيلم نفسه قد خذل أوميد في مسعاه الترويجي لنفسه، وذلك بسبب الأداء الممتاز ليتكين دكنجلر في دور ناظم حكمت، مقابل تواضع ممثل دور أوميد حتى بالمعنى الجسدي. دكنجلر الذي سبق وجسد، قبل سنوات، دور ناظم حكمت في فيلم مخصص للشاعر الكبير حمل عنوان العملاق ذو العينين الزرقاوين غطى الفيلم بحضوره العملاق بمعنى الكلمة، فبدا مجسد دور أوميد باهتاً بالمقارنة معه. ترى هل تعمد المخرج أن يختار هذا الممثل للوصول إلى هذه النتيجة؟ حتى لو كان الأمر كذلك، كيف وافق أوميد على اختلال التوازن هذا؟
لا يشكو الفيلم من البطء في الإيقاع، فقد استفاد من التنقل بين عصرين وبطلين لخلق نوع من الإقلاق الدائم للمشاهد حتى يبقى متيقظاً. لكنه فشل، مع ذلك، في إثارة التشويق والترقب، لأنه اكتفى عملياً بما نعرفه جميعاً عن قصة ناظم، من غير أن يشكل ما نجهله عن حياة أوميد مفاجآت أو شيئاً من الإثارة، المطلوبة حتى في فيلم وثائقي، لشد انتباه المشاهد. ساد الفيلم مناخ ناعس إذا جاز التعبير، ربما لأن موضوعه قد بات، بالنسبة للمشاهد المعاصر، جزءاً من ماض بعيد. هذا مستغرب، خصوصاً، من كاتب احترف إثارة التشويق وصدمة المفاجآت في رواياته البوليسية الناجحة.
قرأت عدداً من روايات أحمد أوميد وأحببتها، وأتابع كل إصدار جديد له. كان لدي، دائماً، مأخذ على رواياته، هو إقحامه بعض الأفكار النقدية فيها تتعلق إما بالتوكيد على قيم معينة، أو الإشارة الطفيفة إلى أحداث راهنة في المشهد السياسي والاجتماعي التركي. بدا لي دائماً أنه بالإمكان الاستغناء عن تلك الأفكار من غير أن تؤثر على نسيج الرواية. من ذلك، مثلاً، إقحامه لموضوع اللاجئين السوريين في رواية صرخة السنونو وفي مجموعته القصصية الصادرة حديثاً حبي رواية قديمة على رغم أن موقفه الإنساني إيجابي، في مواجهة موجة العنصرية المتصاعدة ضد اللاجئين السوريين في المجتمع التركي. أريد القول إن هذا الموقف من كاتب مقروء على نطاق واسع كأوميد، ربما يكون فاعلاً في مواجهة الموجة المذكورة، ولكن لا سبب فنياً يدعو إلى إقحامه في رواية أو قصص يمكن الاستغناء فيها تماماً عن هذا التفصيل. كان يمكن لأوميد أن يتناول موضوع اللاجئين السوريين، أو بعض مشكلاتهم، في مقالة، أو مقالات، صحفية ستكون مقروءة على نطاق واسع أيضاً لأن اسم الكاتب «ماركة». ولكانت الفائدة المرجوة منها أكبر من دس الفكرة في عمل أدبي يلهث فيه القارئ وراء الحبكة البوليسية.
يعرف محبو الروايات البوليسية أنها ليست مجرد حبكة مشوقة وتحرٍ ذكي يعرف طريقه إلى حل اللغز ومعرفة القاتل. بل هي دائماً أكثر من ذلك. هي قراءة من نوع خاص للعلاقات الاجتماعية، والنفس البشرية برغباتها ودوافعها وهواجسها، والعلاقة بين أفكار الأفراد ومسالكهم، والبيئة الاجتماعية التي يتحركون فيها. كأي رواية، يقدم النوع البوليسي بدوره معرفة إضافية، ويضيء مناطق قد لا يمكن لغيرها أن تفعل. ليست كل الروايات البوليسية جيدة طبعاً، وهناك كثير من نماذجها مما لا يضيف شيئاً إلى قارئها. روايات أحمد أوميد ليست كذلك، بل هي من النوع الذي يضيف أشياء، فضلاً عن جودتها الفنية. يمكن الحديث عن مأخذ آخر على رواياته، هو أن بطل معظمها، المحقق نوزاد، شخصية إيجابية بصورة مطلقة. هو ومساعداه مثال للشرطة النزيهة النشيطة الذكية الخيّرة المحترمة. لم أر في أي من رواياته التي قرأتها مثالاً مضاداً واحداً لشرطي قمعي متنمر على المدنيين، فاسد يغطي على مجرمين لمنافع شخصية. بكلمات أخرى، يقدم أبطال أوميد من فريق التحقيق ما يجب أن تكون عليها الشرطة، وليس الشرطة كما هي في الواقع. فنحن نعرف أن الشرطة، عندنا وفي تركيا وفي جميع البلدان، هي جهاز قمعي حتى لو اقتصر هذا القمع على المجرمين فقط، تتفاوت مساوئ هذا الجهاز من بلد لآخر ومن شرطي لآخر، وفي أحسن الأحوال تكون هناك تجاوزات فردية على الأقل.
هذا المأخذ ليس شيئاً عرضياً يمكن إغفاله في أعمال أوميد. فهو يعطي الانطباع بأن «الدولة» التي تمثلها في الرواية الشرطة، هي أم حنون تسهر على راحة المجتمع وأمنه. هذه صورة خيالية لا تعكس واقع الحال في تركيا، وبخاصة في تركيا اليوم التي تحبس مثقفيها وصحافييها وأكاديمييها ونوابها المنتخبين بسبب آرائهم. فهل شكل هذا الأمر مصدراً للشعور بالذنب لدى أوميد، فتذكر ماضيه النضالي تعويضاً عن ابتعاده عن وجع الرأس واكتفائه بالإنتاج الأدبي؟ هذا مجرد افتراض، وليس اتهاماً قائماً على معطيات.
للروائي الراحل يشار كمال تصريح لافت قال فيه، في سياق كلامه عن بعض تداعيات الانقلاب العسكري في أيلول 1980: «تم اعتقال عشرات آلاف الشبان وتعذيبهم في الثكنات العسكرية. أشعر بالخجل لأنني لست واحداً منهم!». حين يشعر الشخص بأنه واحد منهم فكرياً ولا يقاسمهم المصير نفسه، فهو يشعر بالذنب والخجل. فهل كان تذكير أوميد بماضيه النضالي في هذا الفيلم، واستدعاء أسطورة ناظم حكمت للاتكاء عليها في ذلك، نوعاً من التطهير الذاتي؟
لأحمد أوميد رواية، قديمة نسبياً، بعنوان رائحة الثلج تدور أحداثها في موسكو، داخل المدرسة الحزبية التي ارتادها كل من ناظم وأوميد في زمنين مختلفين. يقتل أحد طلاب الماركسية – اللينينية الأتراك، في الرواية، ويبدأ البحث والتحري عن القاتل الغامض. وَشَت فصول الرواية بمعرفة الكاتب الدقيقة لموضوعه (مأساة الشيوعيين الأتراك في مواجهة القمع السلطوي، والصراعات الداخلية في الحزب الشيوعي التركي، وأفكار ومشاعر هؤلاء النشطاء البعيدين عن وطنهم تركيا، والنقاشات التي تدور بينهم، رياح التغيير التي بدأت تهب في موسكو في منتصف الثمانينات..) ومع ذلك لم يساورني الشعور بأنه إنما كتب تجربته الشخصية في هذه الرواية، أنا الجاهل بقصة حياته وعلاقته الشخصية بالشيوعية التركية. ربما كان سبب ذلك هو أنها رواية بوليسية محكمة، فلا يمكن لكاتب، في ظني، أن يكتب جانباً من سيرته الذاتية على شكل رواية بوليسية منغلقة على عالمها الخاص ومفرداته.
ما فات أوميد أن يفعله في رائحة الثلج حاول استدراكه في فيلم تحية لوطني الجميل. ربما انطلق من فكرة أن أسطورة ناظم حكمت قد قامت على ذلك المزيج الفريد من النشاط السياسي والإبداع الأدبي، فوقع في فخ تصوير تجربته الخاصة على المنوال ذاته (نشاط سياسي + إبداع أدبي) لعل هذه الخلطة السحرية تنصف ما يراه من حقه. وليته اكتفى بتكرار التجربة، على رغم سذاجة المسعى، بل اضطر لإقحام كامل تجربة ناظم في الفيلم، بموازاة تجربته، كأنه أراد للأعمى نفسه أن يرى التشابه بين التجربتين!
برأيي المتواضع، كقارئ متابع لأحمد أوميد، أنه ليس بحاجة إلى تشبيه نفسه بناظم. فقراءه المعدودين بمئات الآلاف يحبونه كما هو، من غير تشبيه بأحد، ومن غير معرفة بتجربته السياسية المنقضية. لا بد، هنا، من قول بضع كلمات عن أسطورة ناظم التي ألهمت أجيالاً من الشبان والشابات اليساريين في تركيا. وربما تفيدنا، لهذه الغاية، العودة إلى رواية الأيام الخمسة الأخيرة لرسول للراحل تحسين يوجل. بطل الرواية، رحمي سونمز، الملقب بالرسول، هو شاعر يساري يقتدي بالمعلم الكبير (ناظم) ليس فقط في كتابة القصائد، بل أيضاً في النظرية الماركسية! ففي عصره كانت الكتب الماركسية محظورة في تركيا، فنشأت أجيال من اليساريين الذين اقتصرت قراءاتهم في الماركسية على بعض الأعمال الأدبية المحلية، وعلى رأسها شعر ناظم حكمت! هذا على الأقل ما يقوله لنا مؤلف الرواية يوجل، الذي رسم فيها صورة كاريكاتورية لليسار التركي، استحق بسببها غضب النقاد والقراء اليساريين. كانت النتيجة مذهلة ومأساوية: فعلى مدى فصول الرواية، ينفصل الشاعر رحمي سونمز عن الواقع تماماً ويعيش في عالم وهمي من صنعه، يتجاوزه الواقع كما سيتجاوز الشعر التركي جماليات ناظم، ويتجاوزه حفيده (ناظم) الذي رباه على قيم الثورة، فيجحدها لمصلحة مفهوم جديد للثورة لا علاقة له بالطبقة العاملة.
من المحتمل أن أحمد أوميد لم يقرأ رواية يوجل التي تقدم قراءة كاريكاتيرية لليسار التركي، وإلا لكان تردد كثيراً قبل أن يؤسس فيلم سيرته الذاتية على هذا التوازي مع سيرة ناظم حكمت، وبخاصة أن الفيلم يخبرنا أيضاً أن شعر ناظم وسيرته النضالية كانا ملهمين للفتى أحمد حين انخرط في النشاط السياسي المحظور، كحال «الرسول» وجيله في رواية يوجل.
في مشهد قرب نهاية الفيلم، ندخل معرض إسطنبول للكتاب، فنرى طابوراً طويلاً من القراء الشباب والشابات ينتهي إلى طاولة يجلس وراءها أحمد أوميد، يوقع على نسخ كتبه لطابور القراء! تكفيه هذه الشعبية الكبيرة في الواقع، لكن تصوير ذلك في الفيلم هو مما يندرج في باب الترويج الذاتي بكل حمولته السلبية. أما مقارنة هذا المشهد بمشهد يصور بيته في إسطنبول، بعد انتقاله إليها للدراسة في الجامعة، فهي تقدم لنا «قصة نجاح». شقة صغيرة بائسة يوحي كل ما فيها بالفقر. أما اليوم فهو من الكتّاب القلائل الذين يعيشون في بحبوحة من عملهم الكتابي، فكتبه تطبع بمئات آلاف النسخ، ويعاد طبع القديم منها المرة بعد المرة.
قريباً أكمل سبع سنوات من منفاي الاضطراري في غازي عنتاب، ولم أكن أعرف أن هذه المدينة المحافظة ذات الطابع التجاري (الحلبي)، والخزان الانتخابي لحزب العدالة والتنمية، كانت في السبعينات والثمانينات تدعى بـ«موسكو الصغرى» بسبب قوة نفوذ الشيوعيين فيها، على ما يقول لنا الراوي في الفيلم. ما عاينته، خلال هذه السنوات، هو أن تظاهرات وأنشطة اليساريين في المدينة لا تستقطب غير أعداد قليلة جداً من النشطاء، وأن الأنشطة الاجتماعية والثقافية أكثر حضوراً لديهم من تلك السياسية. وهذا أمر مفهوم في مناخ تراجع الشيوعية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وتحولها إلى هوية منغلقة على ذاتها لدى مجموعات ضيقة، ليس في تركيا فقط بل على مستوى العالم.