مقدمة
لم يكن أغلب المتظاهرين في الشوارع السورية يفكرون بالطريقة التي ستُنقل بها كلماتهم إلى اللغة الإنجليزية أو اللغات الأجنبية الأخرى. مع الانفتاح الحاصل في البلدان التي شهدت انتفاضات اتخذت أوضاعاً ومسارات مختلفة، لم تشهد سوريا ترحيباً بدخول أو تواجد الأكاديميين والباحثين والصحافيين، وعلى العكس منذ لك، نرى في ثورة 25 يناير في مصر أن مادة جامعية باتت تُدرَّس حول إشكالية ترجمة اللغة الثورية المصرية، وصدر هذا المقرر ككتاب في عام 2012. هذه الرفاهية الأكاديمية، إذا جاز التعبير، كانت مفقودة في الأوساط السورية. بل نجد عنفاً متنامياً من قبل النظام السوري الحاكم، وثبت بعد ذلك أن كثيرين ممن جازفوا بحياتهم، محليين أو أجانب، كانوا ضحية لهذا العنف.
شهدت سورية، على عكس باقي الدول التي شهدت ثورات في المنطقة، مرحلة صمت مطبق، لا صوت يصدح إلا صوت الآلة الإعلامية للنظام، التي كوّنت بدورها خطاباً واضحاً لما جرى ولا يزال يجري حتى الآن. كان الإعلام الثوري آنذاك يتلمّس أدواته، ثم تطور واكتسب خبراته الخاصة في ما بعد. وقد روّجَ الإعلام الرسمي في سورية أن ما حدث هو بكلّ تأكيد «حرب على الإرهاب»، فتنة، فورة، أزمة، أحداث وما إلى ذلك، وأن من يقوم بهذه الأحداث هو من دون أي شكّ «إرهابي»، «مندس»، «قاتل»، «طائفي» وما شاكلها من توصيفات. وفي المقابل وُلد خطاب معاكس لذلك المذكور، فأطلقت تسميات معاكسة تماماً مثل «ثورة»، «انتفاضة»، «مظاهرات»، «نظام». وبالإضافة للخطابَيْن المذكورَيْن ظهر خطاب آخر، يتوخى الحذر من التموضعات السياسية القطعية، ويتجسد هذا الخطاب في مقولة «الله يطفيها بنوره».
على كل حال، لا يمكن لنا توصيف ما حدثَ في سورية من دون أن نقع في الأحكام القيمية والأخلاقية. ولهذا السبب، فإن هذه المفردات والمصطلحات والتسميات، وعلى الرغم من علمية اصطلاحها، إلا أنها لا تزال فضفاضة في الاستخدام ولا نرى التقيد في هذا الاستخدام من قبل الأكاديميين والباحثين في العلوم الاجتماعية وخاصة في الجامعات الغربية. فالطبيعي أن نقول «الحرب الأهلية» السورية أو «الاقتتال السوري» من دون أن يشعر معتلو المنابر أو الحضور بأي حرج أو قلق من هذه المسميات لدلالاتها، وفي الحالة المعاكسة تماماً فإن استخدام كلمة «ثورة» أو التحدث بخطاب الثورة المذكور في الأعلى، يسبب قلقاً لا مثيل له في الجمهور والمتحدثين، على الرغم من التعاطف الكبير مع القضية السورية بشكل عام، ليكون السؤال الأول المطروح: «بعد هذا الوقت الذي مرّ في سورية على الحرب، هل فعلاً تستطيع أن تسمي ما تسميه بثورة أو تتكلم عن المظاهرات والسلمية والعمل الثوري في فترة منقضية؟».
وبغض النظر عن إجابة هذا السؤال، ولكن الموضوع الذي يثير الفضول هو أن السؤال لا يُسأل معكوساً: هل من الممكن أن نُطلق على ما حدثَ في سورية «حرب أهلية» أو أي من التسميات الأخرى؟ ولماذا لا نعطي أي اهتمام لمدلولات التسميات المعاكسة لهذه الظواهر؟ ومن هو المسؤول عن فرض هذه التسمية أو تلك؟
في هذه الورقة، سأحاول إظهار علاقة الترجمة والعنف، المتسمتان بنقل خطاب معين من لغة الأولى إلى الأخرى (العربية الإنجليزية) وذلك متمثلاً بالمنتجات الرمزية الثورية في الكتب الإنجليزية. أما على المستوى الثاني، فإنني سأتناول سياسات سوق الترجمة، وعملية تسليع الترجمة طبقاً للّغات التي تترجم إليها. المستوى الأول من الترجمة سيكون تقنياً ليسبر سياقات اللغة المُترجمَة وغنى اللغة وتعدد التفسيرات للنص الواحد، المتمثلة بالكتب التي تُرجمت فقط عن المواد الرمزية الثورية السورية. أما المستوى الثاني فسيعتمد على الإحصائيات المتوافرة عن سوق الترجمة، ويجمع إحصائيات خاصة لهذه الورقة عما تُرجم، ومواضيع الترجمة وعدد الترجمات، وينتقل سريعاً ليعرض بعض الكتب التي تناولت الشأن السوري في اللغة الإنجليزية ومقارنتها بتلك الكتب التي كُتبت باللغة العربية في الموضوع ذاته، لتكون محاولة ربط ما بين العنف الممارس في عملية انتقال الخطاب (الثوري في هذه الحالة) من اللغة العربية إلى الإنجليزية.
أما بالنسبة للإطار الزمني، فإنني أركز فقط في المدة الزمنية الممتدة إلى تاريخ سنة ونصف من بدء التظاهرات في سورية، وهي بشكل تقريبي السنة الأولى من الثورة، أي من شهر شباط 2011 حتى آب 2012. والسبب في ذلك هو كثرة الإنتاج الفني بشكل خاص في تلك الفترة، وهي الفترة التي بدأت الثورة فيها تتحول إلى العمل العسكري بالتدريج. أما في ما يتعلق بالكتب الإنجليزية المترجمة وغيرها، فهي مفتوحة بسبب عدم القدرة على تحييد وتحديد عمل الترجمة. فيمكن للمترجم أن ينتزع الموضوع من إطاره الزمني للممارسة الثورية، ويحكم عليه في إطار الرؤوية الحالية. على كلّ حال، فإن الوقت الذي حُدد للكتب الإنجليزية والترجمة هو حتى نهاية عام 2018.
ترابط الخطاب مع مضمونه من السرديات
ما بين الإسكات وتعميم التسميات وتراشق وتبادل المرادفات والمصطلحات في ما يتعلق بسورية 2011، أحاول أن أسبر أعماق العنف المُمارس من قبل الخطاب المهمين، والمفروض على خطاب المقهورين والمهمشين. وهل يستطيع المُهمَّش أن يتكلمSpivak, Gayatri. “Can Subaltern Speaks? In: Marxism and the Interpretation of Culture”. Ed, Cary, Nelson and Grossberg, Lawrence. Illinois: University of Illinois Press. 1988.؟ فهل فعلاً يوجد صوت سوري يتكلم الإنجليزية عن خطاب المتظاهرين وتمثلاته من مواد اللغة الثورية ومنتجاتها؟ ومن هذا المنطلق لا بد لنا أولاً من التفكير بتعريف الخطاب. فالخطاب هو «مجموعة من العبارات تنتمي إلى تشكيلة خطابية واحدة محددة التكرار زمنياً ويمكن تعقبها تاريخياً»Foucault, Michel. “The Archeology of Knowledge & Discourse of Language”. Tran, Smith, A.M. Sheridan.New York: Pantheon Books, 1972. P.117.. فالمقصود هنا بالتشكيلة الخطابية هو تلك العبارات التي تحمل السمات نفسها والتوصيفات التي تتداخل في ما بينها لتشكل هذه الوحدة من الخطاب، والتي بها يتم التعرّف على الخطاب. فبهذه الأوصاف المشتركة بحد ذاتها يتكوّن الخطاب في النصوص، ولا يهم أين تتواجد هذه العبارات، سواء في الإعلام أو في النصوص، أو في الأبحاث والدراسات، أو في حالتنا هنا في النصوص المترجمة والكتب الإنجليزية عن سورية، لأن هذه العبارات والسِمات تتواجد في الخطاب الواحد. ولكي نستكمل شروط تحقق الخطاب، لا بد لنا من تحديد شروطه المتمثلة، ليس فقط في العبارات والأوصاف مجموعةً في توصيف واحد، بل كذلك في سياق هذه العبارات ومن أطلقها وما تأثيرها. لأن من اليسير أن نجمع أو نحدد تشكيلات عبارية سماتية، ولكن المهم هو أن نرى التداخل، وتوظيف هذه التشكيلات في الخطاب نفسه.
بكلمات أخرى، إننا «لسنا أحراراً عندما نقول أي شيء»، لأننا نرى أن لدينا ذخيرة جاهزة لتوصيف هذا الشيء، وأن هذه الذخيرة ليست من اختيارنا، بل هي مُعدَّة لنا. ولذلك عندما نصف شيئاً فإننا نتحدث فقط طبقاً للحدود المجازية المرسومة لكلامنا بما قد قيل فعلاً. وبهذا التوصيف السابق فإن الخطاب «يربط الأفراد بأشكال توصيفات وعبارات معينة، وبالوقت نفسه يمنعهم من الخطابات الأخرى» المرجع السابق، 226..
هذا إلى جانب أن «نظرية السرديات» (Theory of Narratives)لم تُستخدم هذه النظرية بكامل محتواها، فهذه النظرية بالأساس هي لـ مارجريت سومرز وجلوريا جيبسن حيث تتكلم عن أنواع السرديات، بل قمت بأخذ تحليل منى بيكر لهذه النظرية وتوظيفها له في ورقتها في المصدر رقم 7. تساعدنا على هذا الفهم إذا ما مُزجت مع الخطاب المسيطر. فهذه النظرية تفصّل كيف أننا مدمجون في هذا العالم من خلال «قصص وحكايات تشكل هذا العالم الذي نحن فيه مدموجون»Baker, Mona. “Reframing Conflict in Translation. in: Critical Readings in Translation Studies”. Ed, Baker, Mona. New York: Routledge. 2010. P.115.. فالخيار الترجميّ، كمستوى أول لنقل المعرفة أو إيجاد بديل في لغة أخرى، هو خيار نابع من الخطاب الذي اعتدناه أولاً، ثم من القصص التي تُشكل حياتنا ثانياً. لكن المسؤولية الأكبر تقع في هذه الحالة على المترجم، إذّ أنه مُعرَّضٌ للخطاب الآخر في اللغة الأخرى، واختيارُ كلمات مساوية في الخطاب الآخر هو فعل تترتب عليه تبعات سياسية وثقافية واقتصادية.
تعطي منى بيكر مثالاً على ذلك، كتسمية «العدوان الثلاثي» على مصر على أنه «أزمة قناة السويس»، إضافة إلى أمثلة أخرى، حيث يكون المترجم نفسه يعلم بتواجد التسميتين المختلفتين مع عدم توافر اختيارات حرة، وأنها ذات انعكاسات حقيقية على العالم الحقيقيIbid, P 119. كما يجب أخذ العلم بأنه ليس على المترجم اختيار إحدى هاتين التسميتين، ولكن قد يقوم بما يسمى ترجمة احترافية محايدة من خلال اختيار مصطلح آخر. وعلى الرغم من ذلك، فإنه لن يستطيع الهروب من أن يُصنَّفَ على أنه يدعم إحدى السرديات عن هذا الحدث.
أما المستوى الثاني للترجمة فهو المعنى العام لهذا المصطلح، أي أن الترجمة لا يلزمها أن تكون منقولة من نص أصلي من لغة أمّ معينة، بل يمكن أن تتم دون ذلك بالتأكيد. وهنا لا يكون فعل الترجمة فقط لنقل المعاني الثقافية واللغوية والخطابية المحددة، بل كذلك لنقل مكان يخص جماعة معينة وكتابتهم من دون فعل ترجمة فعليّ. فالترجمة بهذا المعنى هي قراءة، كتابة، شرح، سرد، وحتى إن لم تعتمد على نص أصلي، بل اعتمدت بالأحرى على مكان أصلي.
إذا ما جمعنا المستويين الخاصين بالترجمة معاً ودرسنا ما تمت ترجمته عن اللغة الثورية السورية، فربما نرى خطابين وسرديتين أو خطابات وسرديات عن سورية 2011. لأن علاقة الترجمة هنا بمعناها الحرفي مرتبطة بمعنى الترجمة كفعل للقراءة والكتابة. لأن المنتجين الصادرين منبثقان عن خطابات وسرديات تصب في تصنيفات وتشكيلات خطابية لها سماتها العامة، وتجتمع بعضها مع بعض وتتشارك جوانب مما تحتويه. فمن الممكن أن نرى أن الترجمة (كفعل ترجمة حرفي) هي مكملة للترجمة الأخرى (كفعل كتابة) وتصب جميعها في تكوين سرديات وأقصوصات عن هذا الموضوع.
انطلاقاً من هذه النقطة السابقة، نتكلم عن عدم وجود نص أصلي في الترجمة على المستوى الثاني، فكل ما نريد قوله أو نكتبه هو موجود بالأصل، وهو نسيج مما كُتب من قبل، إذاً فهو «جهد جماعي تراكمي، والكلمات ذاتها التي نستخدمها هي نتاج تاريخ تراكمي مشترك»Thiong’o, Ngugi Wa. “Decolonizing the Mind: the Politics of Language in African Literature”. London: Heinemann, 1986.P.x-xi. علاوة على ذلك، إن «النص هو نسيج اقتباسات ناجم عن آلاف المصادر الثقافية، فالكاتب فقط يستطيع أن يحاكي ويقلد ويماهي، دون إصدار عمل أصلي متفرّد. فسلطة الكاتب تقتصر على أن يمزج بين الكتابات السابقة ويواجه بعضها ببعضها»Barhtes, Roland. “The Rustle of Language”. Trans. Richard Howard. Berkeley: University of California, 1989. P. 53.. وبهذا المعنى فإننا نواجه نوعاً من العنف الخطابي (إذا جازت تسميته هكذا) في إعادة إنتاج ما هو متداول، وإعادة كتابة ما هو مكتوب، وإصدار معرفة مختلفة الشكل ولكن متوافقة المضمون مع ما سبقها.
لن أناقش في هذه الورقة التسمية بالتأكيد؛ فهل هي ثورة أم لا؟ لأن معرفتي وبكل بساطة ليست موضوعية وليست صحيحة بالضرورة، كما هي الحال عند المنادين بتسميات أخرى لأنها نابعة أساساً من الأطر الخطابية المختلفة والسرديات المسيطرة، ولأن الخطاب ببساطة «لا يجسد الواقع إلى لغة، بل يتوجب علينا النظر إلى الخطاب باعتباره نظاماً يهيكل ويؤطر لنا النظم لطريقتنا في النظر إلى الواقع»Mills, Sarah. “discourse”. London: Routledge. P.55.
من هذا المنظور، نرى هنا أن الخطاب هو أداة عنفية يتمثل في «ما نطلقه على الأشياء»أنظر مرجع رقم 3، ص229.. فهذه الممارسة العنفية في محاولة إظهار تسميات وأوصاف على أنها موضوعية، وأنها المعرفة بمعناها المطلق، هي في جوهرها الأساس وهم. من هنا نستنتج أن الدور الأساس للخطاب ليس الوصف بل البناء. أي بناء الأوصاف والعبارات لوصف هذه الأشياء، والتي بدورها تُعطي معانيَ. يقول فوكو في هذا الخصوص «الخطابات هي ليست عن الأشياء، هي لا تحدد الأشياء، بل هي تبني هذه الأشياء»Ibid, P 49..
حتى لا أدخل في سجالات المصطلحات العلمية والمعايير التي لا تُطبق، في أغلب الأحوال، على أغلب الحالات السياسية للتسميات والمصطلحات، سأكتفي بتناول علاقة الترجمة وخلفياتها، وكذلك علاقة تشكيل أحد خطابات سورية في الجامعات الأوروبية أو الأكاديمية الأوروبية. سأطرح سؤالاً: هل لترجمة المواد الرمزية أي دور في إعطاء صوت لمن لا صوت له؟ وذلك بالأخذ بعين الاعتبار أن لغة هذه الترجمات هي الإنجليزية، وهي بكل تأكيد صوت من أصوات الخطاب الغربي في سورية.
المواد الأولية المستخدمة هي ثلاثة كتب تُرجمت إلى اللغة الإنجليزية، وهي تقاطع نيران: من يوميات الانتفاضة السورية لسمر يزبك؛ سوريا تتحدث: الثقافة والفن من أجل الحرية لمجموعة مؤلفين؛ وقصة مكان قصة إنسان، من إنتاج الذاكرة الإبداعية للثورة السورية. هذه الكتب الثلاثة هي الكتب الوحيدة التي ترجمت متضمنة بشكل أساس المواد الرمزية للثورة السورية من هتافات ولافتات وشعارات، وأغاني. على الرغم من تواجد كتب أخرى ومقالات تناولت هذا الموضوع، إلا أنها أُخرجت من الاختيار بسبب عدم توافر ترجمات لها في اللغة الإنجليزية، وما يوجد أيضاً هو كتب أخرى كُتبت فقط باللغة الإنجليزية، وهي كذلك مستثناة من الاختيار بسبب عدم توافر النسخة العربية مثل Writing Revolutions: The Voices from Tunis to Damascus أو كتاب ويندي بيرلمان We Crossed a Bridge and it Trembled.إحدى كبرى المشكلات التي تواجه بعض الكتّاب السوريين في المنفى، هو أنه أصبح من المقبول أن يُكتب العمل بالعربية من دون أن يُنشر، وبعد ذلك يُترجم ويُنشر من الكتاب النسخة المترجمة وحسب. فيضيع هكذا صوت الكاتب ويختلط بصوت المترجم، مما يحرم القارئ ثنائي اللغة أن يقرأ الجوانب الثقافية والاجتماعية في النص الأصلي دون أن يوكل المهمة للمترجم. ولأنه بكلّ تأكيد لا يمكن ترجمة الجوانب كافة، وأن الترجمة هي دائماً ناقصة مهما فعل المترجم، فإن تواجد الترجمة من دون نصها الأصلي يصبح بمثابة عمل جديد أبعد من أن يكون ترجمة بالمعنى الكامل للكلمة. شهدت المنافي الأوروبية تحدٍ سابق للكتّاب في وقتنا الراهن، بسبب إشكالية الترجمة وتمويلها وصعوبة إتقانها والمشاكل الأخرى المتعلقة بالسياسات والسوق، أن كتّاباً مثل طاهر بن جلون قد تخطوا المشكلة بالكتابة باللغة الفرنسية مباشرة، أو الكاتب رفيق الشامي الذي يكتب بالألمانية بشكل مباشر، أو الكاتبة الأردنية فادية فقير، أو الكاتب السوداني جمال محجوب فإنهم يكتبون بالإنجليزية مباشرة. لذلك نحن الآن في وضع مغاير ومنفى جديد، لا يمكّنُ الكاتبَ من أن يكتب بلغة منفاه (لأسباب متعلقة بمدى إتقان لغة منفاه الجديد، وكذلك بسبب اختلاف ظروف المنفى سابقاً للكتاب المذكورين عما هو عليه حال المنفى حالياً)، بل يساعده على أن يُصدر عمله مترجماً دون أن يصدر عمله الأصلي باللغة العربية أو يأخذ بعين الاعتبار أن أهمية عمله تكمن في أن يُترجم. لذلك يأخذ بعض الاعتبارات بالحسبان على مستوى بساطة اللغة والأفكار. فالكتاب المكتوب باللغة العربية بات موجهاً بالأساس إلى القارئ الغربي وليس العربي بهذه الحالة.
سيتمحور القسم التالي حول الأفكار المختلفة بين النصين العربي والإنجليزي للعمل الواحد. وعندما أقول الاختلاف لاأ قصد الخطأ أو الصواب، فلا أحد يمتلك الحقيقة ولاتوجد تسمية صحيحة أو خطاب صحيح، وما أقدمه هو دوماً قراءة تحتمل الصواب والخطأ. وبعد دراسة الأعمال العربية ومرادفاتها في اللغة الإنجليزية، فإن كلّ كتاب سيركز على ثلاثة عناصر كمداخل رئيسة لرؤية وتحليل النصوص المترجمة إلى الإنجليزية. العنصر الأول متعلق بغلاف الكتاب والعناوين؛ أما العنصر الثاني فيتناول المكونات الإنجليزية التي تحتوي على العنف والتسليح؛ أما العنصر الأخير فسيتكلم عن أسلمة الترجمة والتمييز الجندري.
تقاطع نيران
ربما لايخفى على متابعي الترجمات من العربية إلى الإنجليزية أن كتاب سمر يزبك تقاطع نيران هو من أوائل الكتب التي تُرجمت إلى لغات مختلفة ومنها الإنجليزية. «لايمكن أبداً لفعل الترجمة أن يكون فعلاً بريئاً» Yazbek, Samar”. “A Woman in the crossfire: the Diaries of the Syrian Revolution”. Trans. Max Wes. London: Haus Publishing. 2012. P 190. غير متصل بالعمل الأصلي في أغلب الأحيان، وخارج عن سياقه الزماني والمكاني. لذلك نرى محاولة رائعة من ماكس فايس في ترجمة كتاب يزبك الذي صدر في شهر آب/أغسطس 2012 إلى اللغة الإنجليزية. فاختياره للمصطلحات والكلمات يُعطي انطباعاً بأنه فعلاً قد اتخذ موقفاً مما جرى من أحداث الكتاب في سورية، وقراره أن يختار ترجمة لكلمة انتفاضة على أنها revolution كما هو في العنوان، يُثبت الآلية التي تعمل بها الترجمة. فالمترجمون مجبرون على إيجاد بدائل لغوية. وهنا، يعكس الاختيار الترجماتي (المتعلق بالترجمة) بشكل أو بآخر أيَّ الخطابات يريد المترجم أن ينقلها. هل هو فعلاً خطاب الكتاب أو خطاب اللغة المنقول إليها الكتاب. بالإضافة إلى ذلك، فإن صورة الغلاف تترجم الثورة السورية أكثر من الكتاب العربي الذي هو لوحة فنية ليوسف عبدلكي. فبهذا الاختيار، الذي يقع في أغلب الأحوال على دار النشر، قام بعكس بعض من خطاب الثورة من خلاله. وعلى الرغم من هذا الموقف الصريح المستنتَج في اختيار مفردة «ثورة» في الإنجليزية، إلا أننا نرى بعض العناصر الأخرى التي لا تتناسب مبدئياً مع الطرح الأساس.
فعلى سبيل المثال، «حرائر الساحل السوري» تُرجمت بشكل مختلف لما تحمله من معانٍ في اللغة العربية The Free virgin women of the Syrian Coast. الترجمة الحرفية للترجمة الإنجليزية «حرائر عذراوات الساحل السوري». في النص العربي تحاول يزبك أن تؤكد على وجود دلالة «إسلامية ضمن سياقها الثقافي»يزبك، سمر. تقاطع النيران: من يوميات الانتفاضة السورية. بيروت: دار الآداب. 2012. ص 222 ولكن السياق الذي تكتبه يزبك في الكتاب، المؤرخ في حزيران، حين لم تتخذ المظاهرات السورية أياً من الطابع الإسلامي بعد. أما ملاحظة المترجم فتتلخص بـ
النساء الحرائر العذراوات هو مصطلح مشتق من الجذر العربي لكلمة حرية. هذا المصطلح لا يرد في القرآن ونادراً ما يُقتبس في كتب الأحاديث النبوية. فعلى سبيل المثال في كتاب النكاح لابن ماجه يقول: «من أراد أن يلقى الله طاهراً مطهراً فليتزوج الحرائر العذراوات» (كلّ الشكر لميشيل كووك لإيضاح هذا الجانب لي). انطلقت منذ نشوب الانتفاضة السورية، ظاهرة مجموعة النساء المنتسبات للإخوان المسلمين يُطلقن على أنفسهن اسم «الحرائر»المرجع السابق، النسخة الانجليزية. قسم الملاحظات.
بتحليل التبرير الذي ساقه لتبنّيه هذه الترجمة، نُفاجأ أن ابن ماجه قد ذكر كلمة حرائر بالفعل، لكنه لم يربطها بالعذارى. فيقول الكتاب في الموقع نفسه الذي حدده المترجم «من أراد أن يلقى الله طاهراً مطهراً فليتزوج الحرائر»ابن ماجه. سنن ابن ماجه تصنيف أبي عبدالله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني. في باب تزويج الحرائر والولود .عمّان: بيت الأفكار الدولية. من دون تاريخ. ص202. وعلى الرغم من أنه في أسفل الحديث مكتوب «حديث ضعيف»، إلا أن النصح من زميل المترجم هو من رجَّحَ لديه اختيار هذه الترجمة. أما عن الجزء الثاني من الملاحظة لأسباب تبني الترجمة بهذا الشكل، فيقول إن المجموعات النسائية المرتبطة بالإخوان المسلمين كانت تطلق على نفسها اسم الحرائر. رجوعاً إلى منشورات على موقع فيسبوك في عام 2011، لا نرى أي دلالة إسلامية في طريقة كتابة المنشور.
على الرغم من أن لا دلالة إسلامية واضحة في هذه الصفحة، إلا أن بعض الناشطين أبدوا انطباعاً بأن هذا المصطلح أخذ معنى إسلامياً لاحقاً وبعد مرور أشهر في المظاهرات السورية، لكن ليس في البداية كما ذكر الكاتب. بترجمة كهذه، يربط المترجم سمة المرأة الحرة بعذريتها، وهو دلالة غير موجودة في اللغة العربية أو حتى في الإسلام أو في مرحلة ما قبل الإسلام.
فلطالما اتضح التفريق بين «الحرة» و «الأَمَة»معجم لسان العرب من خلال موقع الباحث العربي. (آخر تصفح 05-09-2019 في العلوم الإسلامية، ولم تتصل العذرية أبداً بحرية المرأة. فالمرأة الحرة هي المرأة التي ليست «أمَة»، فما علاقة أن تكون عذراء؟! أما ثقافياً، ومن خلال السياق السوري، فلم تتسم أيضاً حرية المرأة بعذريتها اجتماعياً، ولو أن هذا الموضوع يتمتع بخصوصية ذات طبيعة محافظة ومنغلقة في سورية، لكنه غير مرتبط بالحرية. ولكن من غير المنطقي إظهار هذه الكلمة كما لو أنها تحمل خطاباً إسلامياً قبل وصول الأسلمة للمسمّيات الثورية في سورية وربطها بقاموس الإخوان المسلمين، ولا سيما في بداية الثورة، وهو ما أراه موضع شدّ يتحكم بالنظرة الغربية عن الشرق، تحمل حكم قيميّاً وثنائية تؤكد على أن الاختيار هو دائماً ما بين العسكر الديكتاتوري أو الإسلاميين.
ثمة مثال آخر تنتابه قراءات متباينة ولغط هو «الله أكبر». إذ تُرجمت إلى AllahuAkbar . وكما هو معروف إن للمترجم دائماً حرية تغريب أو تقريب (Domestication and Foreignization) الترجمة الخاصة به. والمقصود بالتغريب هو وضع كلمة مترجمة كما هي في لغتها وذلك لأسباب عدة، منها عدم وجود مقابل لغوي وثقافي في اللغة المستقبلة، وكذلك ليتم نقل أكبر قدر من الجوانب الثقافية لهذه الكلمة في اللغة التي يُترجم منها. فالتغريب هو أداة مقاومة للخطاب المنقول إليه. أما التقريب في الترجمة فهو الأسلوب الذي يتبعه المترجم لتقريب النص من القارئ. عملية الترجمة تعتمد على «التفاوض ما بين التقريب والتغريب لإنتاج ترجمة مقروءة (readable) تعتمد على استدعاء ثقافة الآخر وكأنها هي الترجمة ذاتها»Venutti, Lawrence. “The Translator’s Invisibility: a History of Translation”. London: Routledge. 1995. P. 18.. في المثال السابق، اعتمد المترجم منهج التغريب، وهو بجميع الأحوال لا يخدم شرح المصطلحات الكثيفة (Thick Translation and Terms). فمصطحات كهذه تحمل عدة طبقات من المعاني، ولا يمكن حصرها في معنى واحد كما هو الحال في الترجمة التي وردت أعلاه، لأن هذه الترجمة، وبالضرورة، أعطت انطباعاً إسلامياً ، لأن هذه الكلمة مرتبطة أساساً بالعمليات الإرهابية التي حدثت في أوروبا. أما «الله أكبر» بوصفها مصطلحاً استُخدِم في المظاهرات، فهو يحمل معانٍ عدة؛ أولها هو المعنى الإسلامي بالطبع إذا ما قمنا بعزل الكلمة عن سياقها المستجد في الثورة السورية. ثانياً، لم تكن تحمل هذه الكلمة، وخاصة في بداية توسع المظاهرات، أي جوانب دينية صرفة، فكان جميع المتظاهرين على اختلاف انتماءاتهم يستخدمونها ككلمة مفتاحية لبدء المظاهر، أو هذا ما تبدّى في بعض الاستعمالات الشبابية على وسائل التواصل الاجتماعي كنوع من مقاومة ونفي المعنى الإسلامي، حين تم تحوير كلمة «تكبير» إلى take a bear.
من هنا، فإن الترجمة السابقة لم تضف شيئاً إلى النص إلا الطابع الإسلامي له (والذي لا يمكن نكران وجوده، لكن يجب الحذر عند تعميمه أيضاً)، مما يماشي النظرة النمطية التي تصبّ في إحدى سرديات المترجم، أو حتى الكاتبة، التي تشكل عالمهم وحيواتهم. وبعد فقرة واحدة في النسخة الإنجليزية، نرى أن المترجم أضاف كلمة «أمير جبلة»، علماً أن النسخة العربية لا تحتوي على هذه الكلمة، وأرى أن إضافة هذه الكلمة يأتي مكملاً للأوصاف السابق ذكرها.
أما النقطة الأخرى التي تصب في التحيز الجنساني، فيقع في عنوان الكتاب. فالعنوان بالعربية هو «تقاطع نيران»، أما بالإنجليزية فهو «امرأة في تقاطع النيران». فإحدى النقاط التي قد يثيرها هذا العنوان في القارئ الغربي هو الشعور بـ «الغرابة»، فالنظرة النمطية السائدة حول إناث الشرق الأوسط أنهن دائماً خاضعات خانعات ممتثلات لأوامر الرجل، أي نمط معاكس تماماً للمرأة الحرة الأوروبية. من الممتع النظر إلى الآخر المختلف المثير والغريب.
وعلى الرغم من أن الجزء الأول من الفرضية قد يكون صحيحاً بشكل جزئي ونسبي، إلا أن الحال ليست كذلك بشكل عام. فلا يسعنا القول بأن حال النساء في سورية هي حال مثالية، لكن ثمة مبالغة وتحيزاً لنظرة نمطية وغير صائبة دائماً في نقل الصورة. ليس أن ننكر الطابع الذكوري المهيمن في المجتمع السوري، لكن أيضاً ألّا نبالغ، وكذلك من دون أن تستثمر هذه الفكرة كعنصر جذب للكتاب. فكاتبة مثل سمر يزبك لا تُقرأ فقط لأنها امرأة من الشرق الأوسط، وهي بالفعل كانت قد نشرت ترجمة لأحد كتبها قبل هذا الكتاب، كما أن هذا ليس عملها الأدبي الأول. لذلك أرى أن إلحاق كلمة «امرأة» هو تقليل من شأن الكاتبةلا بدّ هنا من التنويه إلى أهمية سياسات الترجمة وسوقها والترويج لها، وهذا يشمل كلّ من تُرجم له من الكتّاب السوريين وليس يزبك وحدها. والسؤال هو لماذا تُرجمت هذه الكتب بعينها وليس كتباً أخرى. تساؤل كهذا لا ينقص من قيمة الكتب القليلة المترجمة، لكنه يثير الفضول حول تشكيل حقل ثقافي جديد في المنفى، معتمدٍ أساساً على الترجمة. فما هي فرص الكاتب أو الكاتبة في الترجمة، وهل أن فعل الترجمة يحدث لو أنهم أو أنهنّ لم يكونوا متواجدين في المنفى الأوروبي؟ ومن هي الجهات الداعمة؟ وهل تدعم مجموعة معينة من الأشخاص وثيمات معينة من الأعمال؟ وما هي معايير اختيار دور النشر لهذه الكتب والمترجمين؟ وهل بالفعل يحاك ذلك من خلال كثافة التشبيك الاجتماعي في ما بات يُعرف حالياً بـ «الشللية الثقافية»؟ أم أن هذه الترجمات هي نتيجة اختيارات وعوامل متعلقة بالسياسات الاقتصادية والثقافية للمنفى الجديد؟ هذا بحث لن أدخل فيه، لكن للتنويه لا بد أن أذكر سيمون دوبوا الذي يعمل الآن على موضوع الحقل الثقافي والمسرح السوري في رسالة الدكتوراه بعنوان: De la marge au centre, de Syrie en exil : itinéraires d’un jeune théâtre syrien. نفسها، وعنصر جذب يقول للقارئ إن مذكرات الثورة هنا، وبالإضافة إلى ذلك تأكيد على أن من ألّف هذا الكتاب امرأة.
سوريا تتحدث
كتاب سوريا تتحدث: الثقافة والفن من أجل الحرية هو مثال آخر على ترجمة لغة الثورة السورية. فكما تقول المقدمة العربية، وزاهر عمرين ومالو هالسا، يُتّفق على إن الهدف الأساس من الكتاب: «أن يكون مقدمة لأبحاث أخرى وفي الوقت نفسه إعطاء صوت للسوريين»مقابلة مع زاهر عمرين ومالو هالسا. 08-03-2019.. وعلى الرغم من أهمية هذه الجملة فإنها محذوفة من الإنجليزية. ولكن بعد مقارنة نسختَيْ الكتاب بالعربية والإنجليزية تتجلى لنا بعض العوامل التي غيّرت من مضمون بعض ما ذُكر بالعربية عند نقلها إلى الإنجليزية. التغيير الأول هو في العنوان، فبدلاً من «الثقافة والفن من أجل الحرية» أصبح بالإنجليزية Art and Culture from the Frontline. الترجمة الحرفية للعنوان الإنجليزي هو «الثقافة والفن من الجبهة» وكلمة frontline طبقاً لقاموس كامبريدج تشير إلى «المكان حيث تشتبك الجيوش بعضها ببعض، وهو المكان الذي يجري فيه القتال»Online Cambridge Dictionary (Last Access 05-09-2019. عند تغيير «من أجل الحرية» إلى «جبهة القتال» فإن العنوان قد حُمّل معانٍ عنفية وحربية، وهذا ما يرفضه العنوان العربي للكتاب.
لا بدّ من التنويه هنا بأن كلمة frontline قد تحمل تفسيرات أخرى متعددة، فربما يُقصَد بها بالدرجة الأساس لا العنف بل المواجهة ما بين المقاومة الفنية الثقافية والنظام. بالانتقال إلى العنصر الثاني في غلاف الكتاب، فإننا نرى بنتاً صغيرة تتأرجح بأسلاك شائكة، موجهة نظرة إلى المتلقي؛ بينما في الغلاف الإنجليزي نرى خلفية دمار مغبشة وطفلاً سلاحه «نقيفة» يوجهها بشكل هجومي للمتلقي. ربما الانطباع الأول الذي يتبادر إلى الذهن هو المقاومة الفلسطينية، ولكن السؤال المطروح هو هل هذا الانطباع هو نفسه الانطباع العربي عن المقاومة الفلسطينية؟ في تدريسي لمادة عن الترجمة والمظاهرات لطلاب الماجستير في جامعة ماربورج، كان إجماع الطلبة (من خلفيات غير عربية) أن الغلاف الانجليزي، ومع مقارنته بالغلاف العربي، يعطي ايحاءً بالعنف مرتبطاً بعنوان الكتاب، وإضافة كلمة «الجبهة» إلى العنوان. فعلى الرغم من تعدد المعاني لكلمة frontline إلا أنه لا يمكن نكران أن أحد جوانب هذه الكلمة هو العنف كما فهمه الطلبة في المحاضرة، مرتبطاً بالعناصر الموجودة بالغلاف ومقارنته بالغلاف العربي. كما أننا نرى بعض العبارات الأخرى التي أُدخلت إلى ترجمتها العنف. مثلاً:
«هناك حُكماً الكثير من الأسباب بالنسبة للسوريين أو غيرهم للنهوض كلّ صباح إوالتقاط قلم أو ورقة رسم أو آلة تصوير والنضال بها وعبرها وصولاً إلى تحقيق الحرية والكرامة والعدالة»سورية تتحدث، ص 15.
For Syrians and non-Syrians alike, there are many reasons to wake up every morning and reach for the pen, the easel, the camcorder or the laptop – instead of a gun. Syria Speaks, P, xv
بمقارنة بسيطة بين النصين، نجد أن النص الإنجليزي حذف «تحقيق الحرية والكرامة والعدالة» وأضاف بدلاً منها في اللغة الإنجليزية Instead of a gun. والتي تعني بدلاً من البندقية أو السلاح. كما نعلم أن «الحرية والكرامة والعدالة» هي مقومات الثورة السورية، فحذف هذه الكلمات هو أيضاً نوع من إضفاء العنف على الثورة السورية والترجمة بحد ذاتها.
بالانتقال إلى أجزاء مختلفة من الكتاب، نلاحظ عدة عوامل مختلفة أيضاً بين النسخة العربية والإنجليزية. ففي المقدمة يتعارض النص العربي مع النص الإنجليزي بشكل واضح، حيث أن العربي يصف الناشطين أو داعمي الثورة بأن أحداً منهم «لم يتراجع عن موقفه أو يبدّله أو يبدّل قناعاته» سورية تتحدث، ص 7. بينما النسخة الإنجليزية تقول:
Of course, none of them support the regime anymore; but they have lost their ability to back the revolution because it has become complicatedSyria Speaks, P. vii.
الترجمة الحرفية للنقل الإنجليزي هي: «بكل تأكيد لم يعد يدعم أحد منهم النظام، لكنهم فقدوا قدرتهم على دعم الثورة لأنها أصبحت معقدة»، وبهذا الشكل أضافت الترجمة الإنجليزية معانٍ أخرى أو فُسّرت بشكل مختلف. وبينما النسخة العربية للكتاب تحاول تجنب التحدث عن الطائفية، فإننا نرى أيضاً في مثال آخر لترجمة مفسرة للنص العربي. فيقول النص العربي: «بين صديقيّ طفولة ينتميان إلى طائفتين مختلفتين»سورية تتحدث ص 12، أما الإنجليزي فيقول: Friendships between Alawi and Sunni childhood buddies. فهذه الترجمة توضح وتفسر النص العربي وتحدد بأن الصديقين أحدهما سني والآخر علوي، وهو أمر لم يذكره النص ولا حتى العمل الفني بهذه الصراحة والوضوح. وفي سياق آخر، نرى أن أعداد ضحايا مجزرة حماة قد اختلف بين النسختين، فالنسخة العربية تقول «أكثر من 30 ألف»، بينما الإنجليزية تقلل العدد ليصبح بين 10000 إلى 25000. بطبيعة الحال، يكمن السبب وراء اختلاف الأرقام في الاعتماد على إحصائيات مختلفة في النسختين، على الرغم من أن الكتاب هو نفسه.
أما إذا انتقلنا إلى الجانب البصري في الكتاب، فإننا نرى أنه لا يوجد تطابق بين المواد البصرية في النسخ العربية والإنجليزية في بعض الفصول. فعلى سبيل المثال في الفصل المخصص لـ سلافة حجازي، بعنوان «مستمر»، فإن جميع الصور التي تحتوي إيحاءات فنية جنسية قد حُذفت من النسخة العربية، لكنها موجودة في النسخة الإنجليزية وأضيفت بدلاً منها صور محايدة. والشيء نفسه تم اتباعه في فصل خليل يونس، بعنوان «ثورة 2011»، فحذفت الصورة التي تُظهر ثدياً مقطوباً يمثل ما جرى في مجزرة حماة 1982. واستبدلت بالأخرى التي على اليسار في النسخة العربية.
وفي فصل آخر لـ شارلوت بانك، تحت عنوان «الشعب السوري عارف طريقو»، نرى أن عدد البوسترات غير متطابق، وأن النسخة العربية تحمل بوسترات عن أحداث رمزية ثورية أكثر مما يرد بالإنجليزية.
فنرى في الأعلى أن في هذه البوسترات اختلاف أكثر من تلك التي تحمل فقط فكرة الثورة والتظاهر. فالصورة في الأعلى تمثل صوتاً من أصوات الثورة الذي رفض تدويل سورية في فترة كانت توجد فيها أصوات تنادي بالتدخل الخارجي في سورية، كما يوضح المنشور في صفحة الشعب السوري عارف طريقو في فيسبوك. والصورة التي على اليسار تُصوِّر الحراك الجامعي في الثورة، وخاصة أنه نُشر في فترة انتفاضة الجامعات الخاصة واعتقال عدد من طلابها. أما الصورة التي على اليمين فنُشرت في فترة مجزرة داريا في عام 2012. هذا التنوع على المستوى الرمزي والثوري غير موجود في النسخة الإنجليزية، ويجب الاعتراف بأن محتوىً كهذا تصعب ترجمته إلى اللغة الإنجليزية، ولكن البوسترات المستخدمة في اللغة الإنجليزية عبرت فقط عن الثيمات الواضحة للحراك السلمي السوري. والمتابع يرى أن «الشعب السوري عارف طريقو» هي مبادرة خُلقت لدعم العمل الثوري السلمي، كما في الفصل العربي، أما الإنجليزي فيقول بأن مواضيع وأفكار هذه المبادرة تركز على «الأطفال والمقاتلين الشبان»سورية تتحدث ص 88. على الرغم من أنّي لم أجد ولو بوستر واحداً ركزّ على المقاتلين، فجميع بوسترات المبادرة تركزت على الحراك الثوري السلمي، وهذا مؤشر آخر على إدخال عناصر عنفية إلى المبادرة بحد ذاتها، وحتى لو كانت الإشارة إليه بسيطة أو غير مقصودة، وفي الوقت نفسه يوجد فعل عنفي في تنميط وتبسيط ما جرى. فالغنى الثقافي الثوري والفني لهذه البوسترات بسيط وغير معقد. ومن الممكن التفكير بشكل معاكس بأن بوسترات كهذه تسهّل فهم الثورة للقارئ الأجنبي بتعامله مع مواد سهلة، ولكنهّا تُبعد النص وتُفقده بعض الجوانب.
القسم الأخير المتعلق بهذا الكتاب هو ترجمة المصطلحات، فبخلاف كتاب يزبك، نرى مصطلحات متعددة لوصف سورية 2011، بعكس الكتاب العربي الذي يوحد مصطلحات مثل النظام والثورة والانتفاضة، فنرى ترجمات لهذه المصطلحات نفسها بـ state, government, uprising, rebels, revolts.الإشكال في هذه المصطلحات هو أنها بحد ذاتها نوع من أنواع التفسير للظاهرة السياسية الاجتماعية في سورية 2011. فهذه المصطلحات كلّها لا تُعطي معنى التظاهر السلمي والفعل السلمي الثوري بالإنجليزية، وكلّها مشحونة بالعنف مع العمل الثوري بعكس المراد منه في العربية، وخاصة في سياقات الكتب التي وصفت الأشهر الأولى للمظاهرات. بالإضافة إلى ذلك، إذا ما ترجمنا كلمة ثائر على أنه rebel فإن المعنى الإنجليزي هو أن من يقوم بهذا العمل هو شخص ضد شرعية معينة. وإن ترجمة كهذه تُعطي شرعية ضمنية للنظام. وكذلك الأمر إن ترجمنا كلمة ثورة إلى revolt، فبالإضافة إلى أنها تعطي شرعية للنظام فإنها كذلك تسم الثورة بالعنيفة طبقاً لمعناها بالإنجليزية. لأن المعنى في الإنجليزية هو “فعل عنيف ضد حكومة أو حاكم”. أما إذا ترجمنا كلمة النظام إلى government أو state فإننا أيضاً نجمل من هذه الكلمة ونعطي شرعية للنظام بهذه السمات. وهنا لا يمكنني أن أجبر المترجم على تغيير هذه التسميات، بل أن يأخذ بعين الاعتبار أن الخطاب الثوري الذي يترجم منه وأن يتوخى الحذر والإنصاف عند التعامل مع اصطلاحات وتسميات ذات حساسية معينة. فعلى سبيل المثال لترجمة «النظام القمعي» تم استخدام Repressive Violence of the State. ونرى أيضاً ترجمة «الثورة السورية» قد تُرجمت على أنها revolt. فعندما نرى أنه يوجد فصل كامل عن الفرق بين استخدام مجزرة حماة وأحداث حماة، فإن المقدمة تشير إلى مجزرة حماة على أنها(Events of 1982)، فهذا الوصف السابق في الإنجليزية، أؤكد على أنه غير مقصود لأن الفصل بأكمله يتكلم عن الاختلاف بين تسمية أحداث حماة ومجزرة حماة. وفي موقع آخر حيث أن الكتاب العربي يقول بشكل حاسم: «هناك فارق رئيسي بين مجزرة حماة 1982 وبين مايحدث الآن»سورية تتحدث 237. بينما في الكتاب الإنجليزي يقول:
Between 1976 and 1982 Hama had been the locus of an uprising against the regime of Hafez Assadsyria Speaks, 230.
فهذا العرض الذي يشوبه التردد في إطلاق تسمية مجزرة على ما حدث في حماة هو نقلٌ مختلفٌ عن النسخة العربية، مع العلم بأن النص الإنجليزي يُكمل ليقول بأن هذا العنف الذي حدث راح ضحيته بين 10000 و 25000 شخص فهو وصف بالترميز على أنها مجزرة، بعكس النص العربي الذي حدد الوصف منذ البداية. فدرجة المباشرة والوضوح هي ليست نفسها في اللغة العربية واللغة الإنجليزية. و«مقاتل من الثوار» تمت ترجمتها على a rebel fighter. كما ذكرنا في المقدمة هنا بأنه مهما فعل المترجم لتجنب الوقوع في الخطابات والسرديات الشخصية العامة المكونة لعالمه، فإنه حتى عندما يستبدل التعابير بتعابير أو وسوم محايدة مهنية، فهي توقعه مرة أخرى ضمن تصنيفات أخرى وسرديات وخطابات أخرى.
قصة مكان قصة إنسان
«قصة مكان قصة إنسان» هو الكتاب الأخير الذي وثّق أحداثاً مهمة في الثورة السورية، وعلى الرغم من أنه كتابٌ عام، إلا أنني أعتقد أنّ نشره هو الحل المختصر المفيد للثورة السورية؛ لأن مشروعاً كهذا يحتاج إلى مجلدات ليُطبع، فالكتاب هو ثمرة جهد سنوات من عمل فريق ذاكرة الثورة السورية في الأرشفة، وهو مهم لهذه الدراسة لأنه الكتاب الأخير، حتى هذه اللحظة، الذي يترجم لغة الثورة السورية ومنتجاتها. ملاحظاتي العامة على الترجمة هو أن الكتاب قد اتبع الترجمة الحرفية؛ حرصاً منه في أغلب المواقع على أن يحافظ على النص الأصلي. هذا الشيء لا نراه فقط في النص، بل أيضاً في الغلاف والعنوان اللذين حاكيا بشكلٍ مطابقٍ تقريباً بعضهما بعضاً.
ونرى في الجانب البصري من الكتاب أنه حاول أن يعطي مادة بصرية واحدة على الأقل لكل مدينةٍ كتب عنها، وبعد تحليل ومقارنة المواد البصرية، فإنّ ترجمة المواد البصرية في الكتاب تنقسم إلى قسمين؛ القسم الأول هو موادٌ بصريةٌ مترجمةٌ بشكلٍ جزئي، والثاني مواد بصرية من دون ترجمة.
في الصورة الأولىصورة1 قصة مكان قصة انسان، النسخة الانجليزية، ص 342 صورة 2 ص 60 صورة 3 ص 24 صورة 4 ص 188، وهي من مدينة الزبداني، تقول الصورة: «التطرف الديني والاستبداد السياسي وجهان لعملة واحدة، ولا يكفي أن نقلب وجه العملة، لا بل يجب أن نستبدلها». أما الترجمة، فلم تشمل القسم الثاني من اللافتة، الذي يقول «لايكفي أن نقلب العملة، بل يجب أن نستبدلها». برأيي إن القسم الثاني يحمل أهمية تعادل القسم الأول، حيث يؤكد بكلمة «يجب» أن تتم عملية الاستبدال، وعدم تكملة الترجمة، يعطي انطباعاً للقارئ بالاعتراف بتشابه الاستبداد السياسي والتطرف الديني فقط. أما المثال الثاني، فيُظهر وقفة احتجاجية للدفاع المدني، والتحدي في هذه الصورة هو أن هنالك عدة لافتات، ومن الصعب على القارئ أن يفهمها من دون ترجمة. والترجمة كانت «Activists from the civil defense, binnish,2014». علماً بأنّ مدينة بنش معروفة باللافتات المتحركة، متفرّدةً بذلك عن باقي المدن الثائرة السورية. أما بالنسبة للصورة الثالثة، فإن الاستعارة بين الـ«بوط» والبوطي كشخصية دينية لم يُفهم كترجمة في الإنجليزية؛ فالنقل الحرفي للافتة لا ينقل أيّ شيءٍ للقارئ، ولا سيما أنه لا يعرف من هو «البوطي»، ولايعرف مجاز «الحذاء العسكري» ككلمةٍ تُشير إلى الاستعباد الأسدي وتبسيط العقول المؤيدة للنظام. أما في الصورة الرابعة، فنرى بأن لافتة كفرنبل قد اختُصرت فقط بـ«يسقط كلّ شيء»، ولكن لا بدّ من أن نوضح بأن اللافتة موجودة بشكلٍ كاملٍ في النص، من دون التوضيح بأن هذه الترجمة هي لتلك اللافتة. كما نجد مثالاً آخر في صورة لافتة احتجاجية على إهمال حكومي تضع القارئ الأجنبي في لبس عدم التفريق بين الحكومة والأسد، مع أنّ هنالك فرقاً، وبكل تأكيد فإنّ الحكومة المقصودة في اللافتة هي ليست حكومة الاسد، بل الحكومة المؤقتة التابعة للمعارضة. إنّ الترجمة هنا لا توضح عن أي حكومة تتكلم اللافتة، وفي الوقت نفسه تُحذف اللافتة الأخرى الموجودة.
أما القسم الثاني، فهو عن المواد البصرية التي قُدمت إلى اللغة الإنجليزية من دون ترجمة، أو جرى تقديمها فقط طبقاً للتعليق المكتوب تحتها، من دون أيِّ شرحٍ أسفل الصورة. صورة1 «قصة مكان قصة انسان» النسخة الانجليزية ص 342 صورة 2 ص 60 صورة 3 ص 24 صورة 4 ص 188 صورة 5 ص 220
نرى في مواد هذه المجموعة أنها تعتمد على الجانب النصي والبصري أيضاً، ولذلك فإن تقديمها من دون ترجمة المحتوى لا يساعد القارئ في فهم مغزى رسالتها، ولا حتى بشكلٍ جزئي. اللوحة الأولى تتكلم عن مجزرة الحولة، وقُدمت هذه الصورة بالإنجليزية على أنها فقط Jana Traboulsi, Houla، بينما نرى في الأعلى أنّ الهدف من اللوحة هو تأبين أطفال بلدة الحولة وذكر المجزرة التي حدثت هناك. إن هذه الترجمة تحمل عنفاً على مستويين؛ الأول في عدم ترجمة المحتوى، والثاني في عدم توضيح عنف النظام. أما الصورة الثانية، فهي مترجمة بالأسلوب ذاته: فقط اسم العمل وصاحب العمل، علماً أن الكاريكاتور يحاول أن يُظهر وحشية الأسد وداعش، ولكن مع غياب الترجمة فقد غابت الرسالة، ولا سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار الضجة الإعلامية التي أحدثها تدمير أجزاء من تدمر. ونرى في الصورة الأخيرة طابعاً من طوابع الثورة السورية الذي يُعرّف به عن المدينة التي استحقت هذا الطابع، عن طريق ذكر المدينة وما حصل فيها. كذلك نرى بأن كلّ السرد التاريخي لمدينة موحسن قد تقلص فقط إلى طابعٍ غير ذي معنى بالإنجليزية.
خلاصة
الهدف من هذه الورقة ليس تقييم الترجمة، ولكن ملاحظة العناصر المهمة التي استطاعت الترجمة أن تحققها، وباعتبار أن هذه الكتب بالعربية قد انبثقت من الخطاب السوري الثوري، فمن المتوقع أن تُنقَل لخطابٍ مماثلٍ للخطاب الأصلي، لكننا نرى أن الكتب الثلاثة اشتركت في ثلاثة عناصر بشكل متباين في تقديم اللغة الثورية والمنتجات الثورية إلى اللغة الإنجليزية: الأول هو العنف المضاف، إذ نرى في كتاب «سورية تتحدث» عدة أمثلة تضيف العنف بكلمات دالة عنه فقط في اللغة الإنجليزية؛ كما في الغلاف والعنوان. العنصر الثاني هو الأسلمة، فعلى الرغم من أن السياق العام للكتب الثلاثة هو أنها كتب ثورية، إلا أن كتاب يزبك، ومن خلال ثلاث ترجمات، أضاف معانٍ إسلامية غير موجودة في الكتاب العربي، أو أنها فُسرت بشكلٍ مغاير، على الرغم من احتمالية أنّ هذه الترجمة هي إحدى جوانب النص الأصلي، إلا أنها قد اختزلت المعاني فقط إلى المعنى الإسلامي. قد نتفق أو نختلف على إلصاق صفة «العذرية» بالنساء الحرائر، ولكن تبرير المترجم لهذا الاستخدام كان مقتبساً من حديثٍ دينيٍّ محل تشكيك، وفعل الترجمة هنا بدأ منذ البداية بإضافة كلمة عذراوات، والتي هي غير موجودة في النص الأصلي، وامتد بعد ذلك إلى النص الإنجليزي، بعد إظهار يزبك أن المعنى يحمل دلالة إسلامية. أما الجزء الثاني، فهو ربط النساء المتظاهرات بالإخوان المسلمين. ونرى الشيء نفسه في ترجمة «الله أكبر»، أو إضافة «أمير جبلة». أما العنصر الثالث، فهو التطييف والطائفية، وهو ظاهر من خلال ترجمة «من طائفتين مختلفتين» إلى «علوي وسني»، وهي أيضاً غير موجودة في النص العربي. أما العنصر الأخير فهو الظاهر في التحيّز الجنساني للمرأة. هذا العنصر يظهر من خلال الرقابة التي وضعها كتاب «سورية تتحدث» (ليس بالضرورة من قبل المحررين، بل أيضاً دار النشر لها دور أقوى، وهي تسيطر على قرار المحررين أحياناً بشكلٍ تعسفي، وتتحكم بالترجمة) على بعض المواد البصرية ، والتي تظهر في الوقت نفسه في ترجمة عنوان كتاب يزبك، فالعنوان بالإنجليزية ملحوق بـ امرأة، ليصبح العنوان «امرأة في تقاطع النيران»، بدلاً من تقاطع النيران، والسبب في هذا هو أن تسويق كتب لنساء من الشرق الأوسط، وخاصةً عبر الترجمة، يلقى ترحيباً أعلى. ربما يكون هذا مُبرراً على كل الأحوال، لكنه لا يخلو من نظرة شبقة وغير صحيحة تجاه المرأة. وعلى الرغم من أنّي من المرحبين بشدّة بتمكين المرأة العربية بشكل عام، لكنني ضدّ استخدامها كثيمة استهلاكية سوقية، وهنا أتكلم عن الشعرة الفاصلة بين التمكين وبين التحيّز الجنساني الذي يُعطي نتيجة معكوسة لغاية سامية هي إبراز دور المرأة.
ربما لشرح هذا المثال، تمكن الاستعانة بمثال «بيتر كلارك»، حيث أنه كان قد اقترح على إحدى دور النشر الغربية أحد أعمال عبد السلام العجيلي، فكان رد الناشر: «هو كبير في السن، هو ذكر، ويكتب القصة القصيرة، هل تستطيع أن تجد لنا روائية شابةClark, Peter. “ Arabic Literature Unveiled: challenges of Translation”. Durham: University of Durham Press. 2000. P.3.. نرى هنا أن ردّ الناشر لا يبحث عن المضمون، بل شكل المضمون ومن يكتبه، وذلك بتركيزه على «روائية شابة». أما الكتاب الأخير، فعكَسَ بعض هذه العوامل المذكورة بعدم وضع الترجمة بشكلٍ كليٍّ أو جزئيٍّ في بعض المواد البصرية.
ما يهم في هذه العناصر الموجودة في الترجمات هو ليس فقط غرابة موقعها بين النسخ العربية والإنجليزية، ولكن هي وسوم وأفكار يمكن أن تكون خطاباً يصف خطاباً آخر. ثمة مجموعة من الخيارات التي يمكن أن نسمها عنفية، قام بها مترجمون وشكّلت سرديّة من السرديات وجزءاً من الخطاب عن سورية. عملياً، فعل الترجمة ليس فعلاً منعزلاً، فهو محاط ويؤثّر ويتأثّر بما يجري تداوله في سوق الناشرين، ولتكوين معرفة دقيقة عن ديناميكية هذا السوق، لا بدّ من قراءة متأنّية للترجمة من العربية إلى الإنجليزية من أجل فهم الشحّ الموجود في ترجمات سورية إلى اللغة الإنجليزية. ما هي أعداد الترجمات؟ وما هي الكتب المترجمة؟ ولماذا هذه الكتب الثلاثة مترجمة بالأساس؟ حيث أن الاطلاع السريع على سوق الترجمة سيُساعد في الإجابة عن هذه الأسئلة، ويُحدّد موقع هذه الكتب الثلاثة في الخطاب العام في اللغة الإنجليزية.
عصر الترجمة بغياب الترجمة
الاطّلاع على الأرقام والإحصائيات بخصوص ما تمّ نقله وترجمته من اللغة العربية إلى الإنجليزية بشكلٍ عام ربما يكون مفاجئاً للقارئ العربي، وإنَّ مروراً سريعاً على الدراسات التي تكلّمت عن حركة الترجمة من العربية إلى الإنجليزية تُظهر لنا أن ما يُترجم، بشكلٍّ عام، ما هو إلا رقمٌ ضئيل. إحصائية Literature across Frontiers تُشير إلى أن عدد الترجمات من العربية إلى الإنجليزية في الولايات المتحدة الأمريكية هو Gutherie, Alice. “Literary Translation from Arabic into English in the United Kingdom”. In “Literature across Frontiers” 2018. (Last Access 02-04-2019:
أما عدد الترجمات من العربية إلى الإنجليزية في المملكة المتحدة وإيرلندا فهو:
طبعاً هذه الأرقام ضئيلة جداً مقارنةً مع ما يتم نشره كل عام في سوق الكتب العربية، والذي يُقدر بـ17000 عنوان النشر في الوطن العربي.. واقع متردي ومستقبل غامض”. في مجلة البيان، 17-12-2010. (آخر تصفح 02-04-2019)، الأمر الذي يعطي انطباعاً بأنه ثمّة علاقة ما بين اللغة بحد ذاتها وقيمتها واطلاع الغرب بشكلٍ عامٍّ عليها. يصف إدوارد سعيد هذه الحالة ويقول: «العربية ما تزال غير معروفة بشكل نسبي وغير مقروءة… في وقت أن التفضيلات (للقراءة) هنا (في الولايات المتحدة الأميركية) قد شهدت تطوراً أكثر من السابق» . Said, Edward. “Embargo Literature” in the Nation, 17-09-1990. (Last Access 02-04-2019.
أما حسام أبو العلا، فيكمل ما قاله سعيد: «لربما تكون السوق الأدبية الأميركية غير مهتمة ومتجاهلة للأدب العربي المعاصر أكثر منذ 11 عاماً إلى الآن». ثم يأتي بيتر كلارك ليؤكد ويقول «إن الأدب العربي، وبشكلٍ كبير، متوافر فقط للمختصين في دراسات الشرق الأوسط، ولم يخرج حتى الآن من الغيتو»Aboul-Ela, Hosam. “Challenging the Embargo: Arabic Literature in the US Market.” Middle East Report, no. 219, 2001, pp. 42–44. JSTOR,. كل هذه الدراسات شكت وتذمّرت من عدم انتشار ترجمة الأدب إلى الإنجليزية، وفي سبيل فهم أكبر لهذه الظاهرة، وكذلك شحّ الترجمة إلى العربية، فإننا سنرى العلاقة المتداخلة بين اللغة العربية وسوق الترجمة.
تقدم باسكال كازانوفا هذه العلاقة، وتبيّن أنّ أحد أهم مقومات اللغة هو «الأدبية» (The Literariness)، تقول: «من المعروف أن علم الاجتماع السياسي للّغة لا يدرس استخدام اللغة (أي قيمتها النسبية)، إلا في الحيز السياسي الاقتصادي، متجاهلاً ما يُحدِّد قيمتها اللغوية الأدبية في الحيز الأدبي… فإننا نجد في العالم الأدبي لغات تشتهر بأدبيتها أكثر من سواها»كازانوفا، باسكال. الجمهورية العالمية للآداب. ترجمة: أمل الصبان. القاهرة: المشروع القومي للترجمة. 2002 ص 25. ولذلك نرى بأن مرتبة اللغة العربية وآدابها تقع في مرتبة متدنية، فهي لاتُظهر السمة «الأدبية» فيها، لا لأسباب متعلقة باللغة بحد ذاتها، ولكن بسبب عدم قدرتها على التنافس على عرض «هيبتها» بالأساس، ولأن ذلك يلزمه: أولاً موادٌ ومنهجيةٌ غير موجودة لتطوير الرأسمال الأدبي في الوطن العربي مثل الصالونات الأدبية، والدعم الحكومي للنشر ولقاء الفنانين والكتّاب، وإعطاء مساحة من الحرية، وتسخير الإعلام في خدمة الرأسمال الأدبي.
أما جوهان هايلبورن، فيرى أن ثمة نظاماً عالمياً للترجمة، وهذا النظام حسب تعبيره: «هو نظام تراتبي يتكون من لغات مركزية ولغات شبه هامشية ولغات هامشية» Heilborn, Johan. “Translation as a Cultural World System”. In Perspectives: Studies in Translatology. 2000. (Last Access 02-04-2019). فاللغة العربية هي من اللغات الهامشية، بالإضافة إلى لغات أخرى كالصينية واليابانية والبرتغالية، حيث أن مجموع رصيدها في سوق الترجمة مجتمعةً هو أقل من 1%. هذه النسبة هي نسبة صادمة مقارنةً بأعداد متحدثي اللغة الصينية في العالم على سبيل المثال، أو عدد متحدثي اللغة العربية الذي يقدر بـ 423 مليون متحدثاً Arab Countries, In World Population review (Last Access 02-04-2019).
القراءة السابقة مُطبّقة فقط على ترجمة الكتب الأدبية من العربية، وللأسف ليس هذا هو موضوع الورقة، فالكتب التي تكتب عن اللغة الثورية هي ليست بالضرورة كتبٌ أدبية، بل أقرب لأن تكون كتباً سياسية أو كتب متخصصة بمواضيع معينة. إنّ هذه الإحصائيات والأرقام التي ذكرتها لا تتضمن الكتب غير الأدبية، ولهذا السبب، وفي محاولةٍ مني لمعرفة عدد الكتب المترجمة من العربية إلى الإنجليزية، حاولت أن أبحث عن الترجمات التي تمت من العربية إلى الإنجليزية، وذلك عن طريق قراءة أرشيف موقع arablit.org وتسجيل كلّ كتاب جديد تم إعلانه هناك، إضافةً إلى تجميع أسماء كل الناشرين الذين كانوا قد نشروا، على الأقل، كتاباً عربياً واحداً مترجماً عبر المواقع الإلكترونية مثل أمازون وغيرها. النتيجة كانت أنني استطعت أن أجمع 104 من أسماء دور النشر، وتواصلت مع أغلبها، وتصفّحت الكتالوجات الخاصة بها وجمعت نحو 800 عمل مترجم من العربية إلى الإنجليزية.
بقراءة مفصلة لهذه الأرقام عن العناوين والكتب ومحتوياتها، وجدت أن الأغلبية الغالبة، كما سبق أن بيّنت، تهتم فقط بنشر الأدب، والأرقام منذ 2009 حتى 2019 هي كما يلي:
نلاحظ في الجدول أعلاه، وعلى الرغم من أن هذه الأرقام غير رسمية، أن الأعداد فعلاً ضئيلة في ما يتعلق بترجمة الكتب غير الأدبية إلى الإنجليزية، وإذا ما ذهبنا إلى محتوى هذه الكتب في عام 2009، نرى أن الكتب المترجمة هي خمسة كتب. هذه الكتب هي لكلٍّ من: ابن بطوطة، إسحاق بن سليمان الإسرائيلي، ابن طفيل، أحمد بن عجيبة، وكتاب للإمام أحمد السباعي. في عام 2010 أيضاً كان لدينا خمسة كتب كذلك، وهي لـ: ابن حنبل، الغزالي، بن عبد الحكم، ابن خلكان، وكتاب عبد الجبار المسلم عن المسيحية في القرن العاشر الميلادي. وفي السنوات التي تليها فإنّ عناوين هذه الكتب لا تتغير تقريباً من حيث المحتوى، فأغلبها مُترجم من مرحلة ما قبل عصر النهضة الأوربي، ما يُعطي مؤشراً بأن ما يهم دور النشر والمؤسسات الغربية هو ليس المعرفة المعاصرة، بل الكتب الكلاسيكية العربية القديمة والكتب الدينية. وفي ما عدا ذلك نجد ترجمة الأدب، وبعض الاستثناءات لترجمة بعض الكتب العربية التي لا تقع في خانة الأدب. وهنا بكل تأكيد لا أقلل من قيمة الأدب، بل أتساءل حول عدم ترجمة الكتب العربية من الأنواع الأخرى، وهل يوجد بالأساس مؤلفات كُتبت بالعربية تتكلم عن سورية على سبيل المثال؟
اللغة العربية بوصفها لغة إنتاجٍ معرفي
شُحُّ الكتب المترجمة يُحيل إلى التساؤل حول الأسباب وراء التوقف النسبي لحركة الترجمة من اللغة العربية إلى الإنجليزية. هل يوجد بالأساس إنتاج معرفة باللغة العربية، سواء في الوطن العربي بشكل عام أو في سورية بالتحديد؟ للأسف لا نتوفر على مصادر توثّق أعداد وأرقام البحث العلمي والدراسات المنشورة في اللغة العربية، لكن وبكل تأكيد ثمة عجلة علمية جارية على الرغم من الصعوبات التي تواجهها. وهنا لا بدّ لنا من ذكر بعض المراكز العربية، وهي كثيرة بجميع الأحوال، التي تهتم بنشر الدراسات، وبعض المبادرات للترجمة من وإلى العربية، ومنها، على سبيل المثال لا الحصر، مشروع كلمة مشروع كلمة (آخر تصفح 02-04-2019)، ومركز الدوحة للدراسات Doha Institute for Graduate Studies, in Qatar. (Last Access: 02-04-2019، بلومزبيري/جامعة حمد بن خليفة دار نشر جامعة حمد بن خليفة (آخر تصفح 02-04-2019)، إضافة إلى مراكز ومبادرات أخرى، ولكنّ الملاحظ هو أنّ عدم نقل المعرفة العربية إلى اللغة الإنجليزية يقطع جسور التواصل، وهذه هي إحدى صفات الخطاب المسيطر، والذي يُقلل من نشر سرديّات أخرى تشكّل عوالم الأفراد. بالمقابل نلاحظ أن ثمة حركة ترجمة أكبر من الإنجليزية إلى العربية، لكن طبقاً للنظام العالمي للترجمة، وعلى اعتبار أن العربية هي إحدى اللغات الهامشية، فإنّ اعتبارها مصدراً للمعرفة هو أمرٌ غير وارد؛ فالموضوع متمركز أساساً على ثِقَل اللغة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، عبر إظهار مدى أدبيتها وهيبتها التأليفية كما يصف كتاب كازانوفا.
هذا الأمر نراه ربما أقرب إلى أن يكون متعمداً، أي أن يتم تجاهل اللغة العربية أو مشاركتها في إنتاج المعرفة، فإذا لم تكتبْ بلغةٍ لها سطوة كبيرة في خطابها، فلن يقرأك أحد، وعلى سبيل المثال وبمراجعة كتابات إدوارد سعيد، فإنني استطعتُ أن أحصي له 102 مقالة كُتبت باللغة العربية في صحيفة الحياة، طبقاً لأرشيفها الممتد من عام 1998 حتى وفاة سعيد عام 2003. أغلب هذه المقالات ليس له أي أثر في اللغة الإنجليزية، بينما يسطع ما ألّفه الكاتب نفسه باللغة الإنجليزية، وهذه الحال لا تنطبق على سعيد فحسب، بل إن عدداً كبيراً من الكتاب والمثقفين الذين يكتبون دراسات ومقالات تقريباً بشكل دوري من دون أن تعطي أي أثرٍ يذكر في اللغة الإنجليزية، إما لتجاهلها أو لعدم نقلها إلى الإنجليزية.
هذا التساؤل حول وجود معرفة مكتوبة باللغة العربية، وبالتحديد عن سورية، قادني إلى محاولة إحصاء عدد الكتب العربية التي كُتبت عن سورية، واستطعت أن أحصي 154 كتاباً كُتبت عن سورية منذ عام 2000 حتى الآن. لكن للأسف لا تتوافر أعداد دقيقة للكتب الصادرة، فحاولت أن أستخدم جميع السبل الإلكترونية المتاحة من متاجر إلكترونية على مواقع دور النشر، وأيضاً مساعدة بعض الأصدقاء المهتمين بهذا الشأن. هذا العدد الكبير نسبياً من الكتب يجعلنا نريد أن نعرف ما هو عدد الكتب الذي كُتب عن سورية من دون ترجمة وفقط في اللغة الإنجليزية، وكيف كُتبت هذه الكتب، وهل يمكن مقارنتها بالكتب التي كُتبت بالعربية، ولذلك، فإن القسم الثاني من الورقة سيتضمن الحديث عن الصفات العامة للكتب الإنجليزية عن سورية، ومقارنتها بالكتب العربية، ومن بعد ذلك سنعود إلى بوصلة الورقة وموضوع الترجمة وهذه الكتب.
قرأتُ بهذا الخصوص أكثر من أربعين كتاباً عن سورية، ولاستحالة عرض هذه الكتب هنا، وضعتُ بعض المعايير التي ساعدتني على أن أستثني بعضها: المعيار الأول هو اللغة بكل تأكيد وهي الإنجليزية، والمعيار الثاني هو أن يكون كتّاب هذه الكتب أكاديميين، باحثيين، علماء سياسة و/أو مؤرخيين، إيماناً مني بأن المعرفة الأكاديمية دائماً ما تكون مؤطرة بحدود علمية ومنهجية بحثية تنظّم استخراج المعرفة. أما المعيار الأخير، فهو تنوع البلدان؛ فالكتّاب المختارون هم من ألمانيا وهولندا والمملكة المتحدة، والكتب هي للكتّاب كارستين فيلاند (من ألمانيا)، نيكولاوس فان دام (من هولندا)، وجون مك هوجو (المملكة المتحدة).
كارستين فيلاند
يُعرّف فيلاند عن نفسه كمؤرّخ وعالم سياسة وصحفي أيضاً. نشر كتابه الأول تحت عنوان Ballots or Bullets، أي «الاقتراع أو الرصاص». الكتاب صادر عام 2006 عن دار Cune للنشر. أما كتابه الثاني عن سورية فهو A Decade of Last Chances الصادر عام 2012 عن دار نشر Cune أيضاً.
نرى بأن العنصر الأول الذي يشكل حجر زاوية لتحليل سورية عند الكاتب هو الطائفية والعنصرية الدينية، فهو يخصص حوالي 14 صفحة ليتحدث فقط عن التركيبة الطائفية في سورية، على الرغم من استعراضه لآراء السوريين: «السوريون بكل فخر يذكرون بأن ثمة عشرات المعتقدات والأديان عاشت بعضها مع بعض لعقود». وبعد ذلك يأتي دوره ليعرض عكس هذه الفرضية التي ذكرها بتخصيص عدة صفحات فقط للحديث عن التكوين الديني والإثني للسوريين، وهذا عن طريق وضع أرقام ونسب لهذه المجموعات.
يستطرد ويقول إنّ أحد أسباب ارتفاع أو انخفاض حدة التوتر الديني يعود إلى الدولة العثمانية أو الاحتلال الفرنسي، ثم بعد ذلك يطرح فكرة التسامح الديني، فيذكر دور النظام في ذلك عبر «زيارة جون بول الثاني للجامع الأموي في دمشق، والتي كانت رغبة سياسية من قِبل النظام في نشر وإظهار التسامح الديني»Wieland, Carsten. “Ballots or Bullets?: Democracy, Islamism, and Secularism in the Levant”. Seattle: Cune Press, 2006. P. 33. لكنه ما يلبث أن يقول على الرغم من ذلك: «إنّ العلاقة بين المجموعات الدينية ما تزال ذات طابع موزاييكي هش»Ibid P. 36. ولكي يؤكّد على هذه النظرية، فإنّه يذهب إلى أحداث عام 1860 والمناوشات التي حدثت بين الدروز والمسيحيين، ومع أنه كان محقاً في ما ذكره عن التوتّر الديني وإرجاعه إلى الدولة العثمانية أو الاحتلال الفرنسي، إلا أنّني أعتقد أنّ الحدثين التاريخيين المذكورين اتسما بتأثيرٍ فعّالٍ على سورية بوصفها نسيجاً اجتماعياً، لكنّه يبقى محدود التأثير. ربما كان أكثر جدوى للتأكيد على الطائفية والعنف الطائفي في سورية لو أنّ الكاتب استقى أمثلةً أكثر مُعاصرةً، وليس من الأزمنة السحيقة. المشكلة في هذا العرض ليس في صحته من عدمها، بل هو يُظهر للقارئ الغربي بأن سورية هي دائماً ملتهبة بهذا التوتر الطائفي، وهذا التوتر مستمر منذ عام 1860 حتى الآن، متناسياً أن يذكر أي أحداثٍ تؤكد هذه الفرضية أو تدحضها من التاريخ المعاصر لسورية.
بعد ذلك يذهب لينتقد الدستور السوري، بأنه لا يسمح إلا للمسلم أن يصبح رئيساً للجمهورية Ibid,، متناسياً أن الدستور السوري مُعطّل بالأساس، وطريقة وراثة الأسد الابن من دون أي صعوبات، بغضّ النظر عن الدين أو العمر هي أكبر دليل، وذلك من دون أن ينسى إعطاء نصائحه لبشار الأسد بأنه لو تقدم إلى انتخابات حرة فإنّها ستكون من نصيبه، لسببٍ بسيطٍ، وهو «أن الأسد حامي الأقليات التي تقدر بحوالى ثلث الشعب السوري، وهذه النخبة ستصوت له، وهو بالنهاية سيحتاج إلى 51% ولديه دعم الأقليات التي تُحسب على أنها ثلث الشعب السوري»Ibid.
في كتابه الثاني، يكتب فيلاند كتابه مستنداً على كتابه الأول، وحتى مع تغييراتٍ طفيفةٍ في أسماء الفصول، وهو بكل تأكيد إعادة إنتاج للكتاب القديم، ولكن مع بعض التفاصيل الصغيرة ربما في عقل الكاتب. فبينما يذكر فيلاند إصلاحات الأسد خلال المظاهرات، فهو يركّز فيها على الجانب الديني، مع أنه يقول: «أنه كان لها تأثير قليل على المتظاهرين»Wieland, Carsten. “A Decade of Lost Chances: Repression and Revolution from Damascus Spring to Arab Spring”.. Seattle: Cune Press. 2012. P 31، المتمثلة بإعادة المنقبات إلى الوظائف وافتتاح قناة دينية هي بالأساس لم تكن مطلباً من مطالب المحتجين منذ البداية في أغلب المدن الثائرة، وعدم توضيح ذلك يؤكد على أن أحد مطالب الثورة هو افتتاح قناة دينية وإعادة المنقبات إلى الوظائف، مما يعد نوعاً من أسلمة الثورة قبل أسلمتها بوقت طويل.
أهم ما يميز كتاب فيلاند هو خلوه من المراجع التي يستند إليها في سرد أحداث الثورة، فنرى أنه يروي الأحداث وكأنه كان موجوداً يراقب الحدث، ولهذا السبب يقع في بعض المغالطات في التواريخ وبعض الأحداث التي يتناولها: «فمثلاً يذكر عن بداية التظاهرات في درعا بأن الأسد أمر بإطلاق سراح الـ 15 طفلاً اللذين كتبوا على الجدار»Id, P, 41، ولكن من دون أن يوضح بأن القرار الإعلامي للنظام بإطلاق أطفال درعا لم يحدث إلا بعد مضي نحو ثلاثة أشهر شهادة سامر الصياصنة أحد أطفال درعا المعتقلين: “شهادة لأحد أسباب تفجر الثورة السورية”. قناة الجزيرة على اليوتيوب. تاريخ الرفع 27-03-2108.. ولا ينسى الكتاب دائماً أن يُلحق كل شخصية سياسية تُذكر بطائفتها الدينية، فمثلاً يقول «عارف دليلة (علوي)، ميشيل كيلو (مسيحي)، كانوا بجانبه (معاذ الخطيب المعرف على أنه أمام مسجد)» Wieland, 41.. ويعيد ويكرر مشورته التي قالها لبشار الأسد في كتابه الأول، ولكن مقتبساً إياها من سامي المبيض، ومغيراً فيها بتركيزه على الإخوان المسلمين «كممثلين عن سنة سورية، لا الـ10% من السكان المسيحيين ولا الـ2% من العلويين ولا الـ2% من باقي الطوائف ستصوت للإخوان المسلمين» Ibid, 295. بالطبع فإن هذا العرض يُري العالم أن السوريين لا يستطيعون أن يصوتوا إلا للإسلاميين أو لنظام الأسد، وهو في الوقت ذاته اختزالٌ يعتبر أن الإخوان المسلمين هم ممثل السنّة بكل حال، ولا يمكن للسوريين أن يجدوا حلّاً إلا عبر تكويناتهم الطائفية والإثنية.
أما في حال أننا ذهبنا إلى قائمة المراجع، فإننا نرى فيلاند قد اعتمد في كتابه على المراجع الإنجليزية، باستثناء مرجعين كُتبا بالعربية؛ الأول لـ سمير عبدو حول المسيحية في سورية، والمرجع الثاني هي ورقة للكاتب نفسه ترجمها إلى العربية أحمد عيد تفاريق، وقائمة مراجع كهذه لا يمكن أن تدلل سوى على تجاهل كلّ ما يصدر في اللغة العربية عن سورية قبل وبعد 2011.
نيكولاوس فان دام
فان دام هو دبلوماسي هولندي، كتب كتابه الأول «صراع على السلطة في سورية»، حيث كان ثمرة رسالة دكتوراه، ونُشر الكتاب بطبعات مختلفة، الأولى كانت 1978، وبعد ذلك بعدة طبعات 1981، 1996، 2011. يُعتبر هذا الكتاب من أكثر الكتب بحثاً في الشؤون السورية، لكونه أولاً رسالة دكتوراه، وكذلك لاضطلاع الكاتب في الشأن السوري والدبلوماسية الشرق أوسطية. وكما الكتاب الأول لفيلاند، ولكن بشكل واضح وصريح في هذه الحالة، فإن اعتبار أساس الصراع على سورية متعلقاً بالقضية الدينية الطائفية والإثنية كان الركيزة الأساس للكتاب، ولذلك نرى بأن الجملة الأولى تبرر اعتماده على الدور الديني والإثني، فيقول: «الولاءات الطائفية والمناطقية والقبلية لها دورٌ لا يمكن نكرانه في تاريخ سورية في القرن العشرين» Van Dam, Nikolaos. “The Struggle for Power in Syria: Politics and Society under Assad and the Ba’th Party”. Fourth Edition. London: I.B Tauris. 2011. P.vii. يقدم فاندام بهذه الجملة المفتاحية كتابه الأول، وكذلك تبدأ أسماء كلّ فصوله إما بطائفة أو أقلية، من الزاوية التي يرى بها سورية، وتفسيراته جميعها هي دائماً دينية مع ذكر بسيط لأسباب أخرى لا يتم نقاشها عن هذا الصراع، مثل الصراعات الطبقية والاقتصادية التي أوصلت سورية إلى سورية الأسد وما قبل هذه المرحلة.
في كتابه الثاني بعنوان «تدمير أمة: الحرب الأهلية في سورية»، الصادر في عام 2017 عن دار I.B Tauris وهو كتاب يحمل أهمية أكبر من الأول؛ لأنه يصف حالة سورية والثورة، نرى أن فان دام اعتمد على المنظار الطائفي بالدرجة الأولى، ويرفض أن يرى الفرق بين سورية قبل مرحلة البعث وبعدها، وذلك لأن «سورية تكاد لا تعرف شيئاً سوى الدكتاتوريات أو أنظمة الحكم الاستبدادية طيلة مدة وجودها لآلاف السنين» فان دام، نيكولاوس. تدمير وطن: الحرب الاهلية في سوريا. ترجمة: لمى بوادي وآخرون. بيروت: دار جنى لدراسات. 2018.. هذه الجملة موجودة فقط للقارئ العربي في النسخة العربية، أما في النسخة الإنجليزية، فلا يحتاج القارئ لذلك فهو يعرف بشكل مسبق من خلال خطابه المسيطر والسرديات التي تكوّن عالمه بأن سورية هي دولة الدكتاتوريات منذ الأزل، وبهذا الاعتماد، وبشكلٍ مكثّف أكثر من فيلاند، يعدُّ انقلاب البعث الأول انقلاباً للأقلية السورية على الأغلبية، ويستشهد بذلك فيقول: «تكوّنت اللجنة العسكرية من خمسة ضباط: ثلاثة منهم علويون (محمد عمران، صلاح جديد وحافظ الأسد)، وجرى لاحقاً توسيع القيادة إلى 15 عضواً، خمسة منهم علويون وإثنان إسماعيليون، وإثنان دروز، وستة سنّة». Van Dam, Nikolaos. “Destroying a Nation: The Civil War in Syria”. London: I.B Tauris. 2017. P. 14. وعلى الرغم من أنه يذكر أمثلة كثيرة على حد تعبيره، إلا أن السوريين يفخرون بأن شخصية مثل فارس الخوري تقلدت مناصب كثيرة، وأنّ حسني الزعيم وأديب الشيشكلي كانوا أكراداً، ولكن «هذه الأمثلة لا تقل كثيراً عن حال المسيحيين في الماضي بشكل عام، دون أن أذكر وضع الأكراد الذين جُردوا من جنسيتهم عام 1962… لذلك فإن الموزاييك السوري، إذا ما قورن ببلدان شرق أوسطية أخرى، فإنه لم يكن ذا طابعٍ مسالم»Ibid 15. وعلى الرغم من أن التعميم الذي استنتجه مدعماً بالحجج المضادة لخطابه، إلا أنه لم يذكر أي معلومة تدعم فرضيته، وفي مكانٍ آخر يقول واصفاً النظام: «من الأقلية العلوية الذين هم تقليدياً مضطهدون من قبل الأغلبية السنية» Ibid. P, 65..
أما عندما ينتقل ليتكلم عن المظاهرات، فيتكلم عن المجازر الطائفية، ويقول في الكتاب: «كجزء من القتال الذي حدث بين النظام والمعارضة، فإنّ التطهير العرقي دار بين أحياء سنية وعلوية»Ibid, 73.، ويضع ملاحظة في آخر الكتاب، ويشرح فيها توصيف ما حدث من مجازر مثل البيضا والتريمسة… إلخ، ويقول إنّ الاتهامات دارت بين المعارضة والنظام، ويذهب ليؤكد بأن «أغلب هذه المجازر تمت عن طريق تزوير راية المقاتلين، فاتُهم بها النظام، وأغلب الظن بأن وحدات من الجيش الحر قامت بتنفيذها». Ibid, 194 على الرغم من أنه لا يقول صراحةً إنّ المعارضة المسلحة ارتكبت هذه المجازر، ويصرّح بأن لا أحد يعلم الحقيقة، إلا أنه يخفي هذا الانطباع عبر الدراسة التي قدمها، وكذلك عبر قوله أن المعارضة ادعت ذلك. ثم عندما يذهب إلى الطرف الآخر ليعرض وجهة النظر، فإنّه يُعطي صدقيّةً أكبر، فيقول طبقاً لإحساني (اسم مستعار لضابط مقرب من النظام). في هذا الوصف تقديم رأي المعارضة بأنه ادعاء، بينما يدعم الفرضية الأخرى بإعطاء صدقية أكبر للشهادة الثانية، ويدعمها في الملاحظات بالإشارة إلى دراسة قام بها تيم أندرسون عن أن قوات المعارضة قامت بهذه المجازر عن طريق تغيير الرايات، وأخذ راية النظام أثناء تنفيذ المجازر.
يحاول فان دام أيضاً، في موقع آخر من الكتاب، أن يُخفّف من ادعاءات إطلاق سراح الإسلاميين في أول الثورة، ويقول بأن النظام فعل ذلك بضغطٍ من المعارضة لإطلاق المعتقلين السياسيين، ولا يرى بأن القصد من ذلك إطلاق العنان لأسلمة الثورة. Ibid P 80, 81. وعندما يصف المظاهرات، فهو يعترف بسلميتها لكنه يعترف أيضاً بوجود جماعات على الخط كانت مسلحة، وهو ينفي بكلّ الأحوال حاجة النظام إلى أن يرسل مسلحين إلى داخل المظاهرات، لأنه «كان يستطيع أن يفعل ما يشاء». Ibid,86 ويعلن بأنه بعد تاريخ حزيران/يونيو 2011، فإنّ «الثورة قد خُطفت من الإسلاميين». Ibid 87. وعلى الرغم من التدخل الإيراني والسعودي في الثورة السورية، إلا أن فان دام لايرى التدخل الإيراني مدفوعاً بأسباب مذهبية؛ متمثلاً بدخول حزب الله، بينما يرى أن التدخل السعودي هو لنشر الوهابية في سورية. Ibid 89 تنتهي الثورة عند فان دام والمظاهرات وأثرها بعد تاريخ حزيران/يونيو 2011، ومن بعدها أغلب شرحه للكتاب يتبلور فقط على محاور طائفية، ليبدأ بأسلمة الجيش الحر، الأمر الذي حدث بالفعل لاحقاً.
نرى فان دام في محاولة غير ناجحة يحاول أن يفسّر سبب هل يمكننا أن نطلق على ما يجري في سورية «حرب أهلية»؟ فيقول إنّه، بما أنّ دعم الجيوش والميليشيات هو من دول أخرى، فلذلك إنّ اصطلاح «الحرب الأهلية» لم يعد مناسباً ولا سليماً… فلذلك هي «حرب بالوكالة». Ibid, 64 وعلى الرغم من أنه يعترف بأنه غير مناسب وصحيح، إلا أنه في أغلب الأوقات يصف ما يحدث بالحرب الأهلية، ولدينا كمثالٍ واضحٍ عنوان الكتاب نفسه. السؤال هنا: هل هو فعلاً واعٍ لهذه التسمية وتفكيكه لها في كتابه ونقد نفسه، أم أنه استخدمها كما هو مناسب ومقبول في الخطاب الذي يكتب انطلاقاً منه؟
أحد نقاط القوة في الكتاب هو المعرفة الكبيرة للكاتب باللغة العربية، الأمر الذي انعكس بشكلٍ جيدٍ على قراءة سورية، ولكن ليس للكتب الصادرة بعد تاريخ 2011؛ فنرى في قائمة المراجع أن جميع الكتب العربية المستخدمة هي مواد أولية كشهادات، لكنّ جميعها كُتب قبل 2010، ولم تضم قائمته إلا كتاباً واحداً من الفترة التالية لعام 2011، وهو مذكرات فاروق الشرع الذي صدر في عام 2015. ويعتبر ذلك أيضاً تمسكاً واضحاً بتجاهل أغلب النتاج المعرفي باللغة العربية، على الرغم من أن توقيت إصدار الكتاب كان متأخراً، وقبل إصداره كان يوجد العديد من الكتب الصادرة بالعربية بعد 2011، لذا نرى بأن قائمة مراجعه متضمنة لأغلب الكتب الإنجليزية لِما بعد هذا التاريخ، ولكن ليس الكتب العربية.
جون مك هوجو
جون مك هوجو منتسب كـ senior fellow لمركز الدراسات السورية لجامعة سانت أندروز. كتب كثيراً من الكتب عن العالم العربي والإسلامي، وعنوان كتابه هو Syria a Recent History الصادر عن دار ساقي عام 2014. يقوم مك هوجو بتقديم سورية منذ الاستعمار حتى الوقت الحالي، لكنّه يتجنب إعطاء أي تفاصيل عن مرحلة 1950 حتى 1958، ويصف هذه المرحلة فقط بجملة واحدة «هذه كانت النهاية الحقيقية للمرحلة الديمقراطية وحزب البعث القديم في سورية» Mchugo, John. “Syria a Recent History”. London: Saqi Books. 2015. P. 140 ، من دون أي توضيح حول الفرق بين حزب البعث القديم والجديد، وما هي مرحلة الديمقراطية التي اختصرها في جملة وردت في الكتاب. كما لا ينسى أن يصف شكري القوتلي بنشره للوهابية، بسبب الزيارة التي قام بها للمملكة العربية السعودية Ibid P. 96 طبعاً اعتمد مك هوجو كغيره من الكتّاب المذكورين على التفسير الطائفي، بل ذهب أبعد بكثير ليصف الإسلام في سورية على أنه وهابي، ويُظهر أن الصراع لم ينتهِ بين الصفوية والسنة على مدار التاريخ.
بالنسبة للثورة، فإننا قلّ ما نرى أن ثمة مراجعاً يُستشهد بها للأحداث التي يتكلم بها، فدائماً عنده تاريخ مقرّب لوصف ما حدث، مما أوقعه في كثير من المغالطات عن مبدأ التواريخ وبعض الحوادث، وبينما يرى على سبيل المثال، أن أطفال درعا كانوا قد كتبوا على جدران مدرستهم في أوائل شهر آذار/مارس Ibid, 221، فإن أغلب المراجع العربية تقول بأن اعتقال أطفال درعا كان في السابع والعشرين من شباط/فبراير، وذلك يعني أن فعل الكتابة على الجدران تمّ قبل هذا الوقت((الكثير من المراجع العربية والانجليزية تقول بأن التاريخ هو ليس المذكور في الكتاب Hanano, Amal. “The Syrian schoolboys who sparked a revolution”. In the National. 30-03-2012. (Last Access 01-09-2019).
مجلي، هند. “أطفال درعا أين هم في الذكرى الخامسة لاعتقالهم”. في شبكة المرأة السورية. 2016. (آخر تصفح 01-09-2019)
Sterling, Joe. “Daraa: The spark that lit the Syrian flame”. In CNN. 01-03-2012. (Last access 01-09-2019)
اللافت للانتباه هو استخدامه المفرط لمصطلح وهابي، ولا سيما في مرحلة الثورة، فيقول: «إنّ إصلاحات الأسد كانت موجهة إلى الناس في درعا، والأكراد، والإسلاميين الوهابيين». Mchugo, John. “Syria a Recent History”. London: Saqi Books. 2015. P. 224 وللمفارقة، فإنه عندما يصف معاذ الخطيب يقول: «هو صنف من الإسلاميين الذين ينادون بالديمقراطية والتعددية لسنوات عديدة». Ibid, P 229. بينما يذهب بعد عدة صفحات ليتكلم عن جبهة النصرة، فيصفهم بالقول: «إن إسلامهم لم يكن مختلفاً بشكلٍ أكبر من معاذ الخطيب». Ibid, P 230 وفي معرض حديثه عن أسلمة الثورة السورية يتكلم عن شيخ دمشقي محترم ومعروف اسمه محمد اليعقوبي، دعا إلى عشاء لجمع التبرعات في شهر كانون الثاني/يناير 2013، وبأنه «قام بدعوة الشباب المسلمين للقتال في سورية». Ibid, 234 وذلك للأسف دون القدرة على الوصول إلى مصدر المعلومة التي أوردها. وفي رؤيته أيضاً للصراع الدائر في سورية، يُشاطر مك هوجو فان دام وجهة النظر القائلة بأن الصراع طائفي من طرف واحد، فالقوى الشيعية التي شاركت إلى جانب النظام «شاركت ليس بسبب انتمائها الديني، بل لمحاربة أمريكا وإسرائيل، ولخوفهم من السيطرة الإسلامية الوهابية السلفية للمعارضة السورية». Ibid, P 234 أما إذا ما ذهبنا إلى لائحة المراجع، فلا نرى ولا حتى مرجعاً عربياً واحداً، أو حتى اقتباساً مأخوذاً من الأخبار العربية كمصدر للمعلومات المُقدّمة، وبهذا يمثّل كتاب جون مك هوجو المقاطعة الكاملة لاستخدام المعرفة باللغة العربية.
ملخص
نرى أن الكتب الإنجليزية، بغالبيتها، اعتمدت على عدة عناصر لترسم سورية: العنصر الأول هو أن هذه الكتب لا ترى سورية باعتبارها دولة إلا من المنظور الطائفي والتفرقة الدينية والإثنية بين الطوائف، وترفض أي توازن بين العوامل الإثنية والطائفية من جهة، وبين العوامل الأخرى الاقتصادية والاجتماعية؛ فالعنوان العريض للصراع بالأساس هو أنه صراع بين الأقليات الدينية والأغلبية السنية في سورية ممتداً عبر التاريخ. وكما رأينا أن العنصر الطائفي موجود بكل تأكيد في الكتب جميعها، ولكن درجة استخدامه وتوظيفه تختلف من كتابٍ إلى آخر. أما العنصر الآخر، فهو الوصف الخجول للمظاهرات والحركة السلمية للثورة، ودائماً المرور السريع عليها، مقابل إظهار الجانب العنفي وأسلمتها وإظهار عناصر السلفية والوهابية. هذه الأوصاف أقرب أن تكون الصفات التي أطلقها النظام على المتظاهرين، فعلى الرغم من أن المتابع للحدث لا يمكن أن يُنكر تأسلم الثورة لاحقاً وعسكرتها، إلا أن الفترة الزمنية المُناقَشة في البحث؛ أي الفترة السلمية، هي دائماً ممزوجة ومختصرة في أكثر الكتب التي أُلّفت بعد أن تبلوّرت عسكرة وأسلمة الثورة. ورأينا على سبيل المثال كيف لـ فان دام أن يصدق نوايا النظام الصادقة في إطلاق المعتقلين الإسلاميين، وحتى لو لم يكن هذا صريحاً. أما العنصر الثالث، فهو عدم استخدام المراجع العربية، والتي برأيي لو أنها استُخدمت لكانت غيرت ولو قليلاً من تدقيق الأحداث والتواريخ والأرقام وبعض التفصيلات التي ضاعت في السرد عن الثورة. أما العنصر الأخير، وهو الجامع لكلّ ما ذُكر، فيتمثل بالكتابة من خارج المكان، فسورية 2011 هي بكلّ تأكيد ليست سورية التي تنتمي إلى ما قبل هذا التاريخ، واستخراج المعرفة منها من خارج مكانها يعني الاستغناء عن المكان بوصفه مصدراً للمعرفة، كما يصفه إدوارد سعيد.
لكن، ولرؤية أوضح ولمقارنة هذه الكتب بالكتب العربية، سأعطي بعض الأمثلة عن كيف كُتبت سورية باللغة العربية في بعض الكتب والأبحاث.
الكتب العربية
بينما كان التركيز الأساس في الكتب الإنجليزية على الجانب الطائفي الديني الإسلامي المتطرف، نحاول أن نقدم هنا قراءة سريعة لبعض الكتب العربية، وذلك عبر نشر مقتطفات منها. نرى على سبيل المثال ياسين الحاج صالح يصف حزب البعث في كتابه سوريا من الظل، فيقول:
دون أن يكون الحزب دينياً، فإنه بعيد عن أن يكون معادياً للدين. هو حزب عربي عروبي، يجمع بين أعضائه مسلمين ومسيحيين، وسنيين وعلويين وإسماعيليين ودروزاً.. قبل أن يستولي على السلطة، واجتذب حتى أكراداً وسرياناً بعد استيلائه عليها، بالخصوص في عهد الرئيس حافظ الأسد». حاج صالح، ياسين. “سوريا.. من الظل”. الاسكندرية: دار جدار للثقافة. 2010 ص.170
أما كتاب آخر صدر في عام 2009، بعنوان مسارات السلطة والمعارضة، فإنّه يُقدم في 340 صفحة وصفاً دقيقاً لأداء المعارضة والأخطاء والتوصيات في ظل الاستبداد الموجود عليهم من قبل الأسد. ولم أرَ من خلال قراءتي إياه أيّ توصيف طائفي.
أما إذا أخذنا مثالاً آخراً من الكتب، ككتاب كمال ديب مثلاً، فيصف العنصر الطائفي ويقول: «إن الطبقة الوسطى السنية من التجار لم يكترثوا لما كان يؤمن به العلويون، ولكن تم استخدامهم كعمالة رخيصة». ديب، كمال. تاريخ سورية المعاصر: من الانتداب الفرنسي إلى صيف 2011 بيروت: دار النهار 2011. ص. 47 فهذا الرأي، وبغض النظر عن صوابه، ينظر إلى الأقليات من الجانب الطبقي والاقتصادي لها.
وإذا ذهبنا إلى كتاب جمال باروت، فإنّه يحلل على سبيل المثال انطلاق المظاهرات في بانياس بإعطاء أسباب متنوعة: «عدم تكيّف الفئات التقليدية السنية في المجتمع البانياسي مع نظام التعليم المختلط في مدارس بانياس (على خلاف المدن السورية الأخرى)، وصرف المُنقّبات من سلك التعليم، وعدم وجود مدارس للعلوم الشرعية،… تضرر الصيّادين، الذين يُمثّلون أحد أهم مكونات المجتمع المحلي البانياسي، من منافسة السمك التركي… الشكوى من ممارسات إدارة مرفأ بانياس… محدودية توظيفهم وتشغيلهم في الدوائر الحكومية». باروت، جمال. العقد الأخير في تاريخ سورية: جدلية الجمود والإصلاح. بيروت : مركز الدوحة لدراسة السياسات. 2012. ص229. نرى في التحليل السابق تنوّع الأسباب وتخصيصها، فالسبب ليس دينياً فقط، وإذا كان دينياً فهو يتعلق بفئات من المجتمع البانياسي، وهو مرفق، بالإضافة إلى ذلك، مع الظروف الاقتصادية للصيادين وسياسات النظام في استيراد السمك التركي، وقلّة التشغيل، والتعسف في المعاملة في المرفأ. نرى بأنّ باروت هنا لم يضع سبب الدين والطائفة على رأس الهرم، بل هو سبب من بين عدة أسباب، كما لم تكن أسبابه تشمل المجتمع البانياسي كله، بل فئةً معينةً حددها النص. أما في حال انتقلنا إلى كتاب هاشم عثمان، فإننا نرى أنّه يُعالج الموضوع السوري فقط من الجانب السياسي الاجتماعي والطبقي للشخصيات السياسية، مع تجاهل جزئي للجانب الديني والإثني والطائفي لسورية.
بالذهاب إلى كتاب الطائفية كعامل من عوامل النزاع، المُنجز بالتعاون مع مجموعة باحثين، فإننا نرى، أولاً، بأنّ العنوان يعترف أنّ العامل الطائفي هو عامل، وليس العامل الوحيد، ونجد في دراسة محمد ديب أنه يحلل هذا العامل في دراسة كاملة حول هذا الموضوع، ويتكلم هنا عن الطائفة العلوية والنظام، فيقول: «لم تستفد الطائفة من السلطة إلا بمقدار ما تحتاجه السلطة، كما لم يكن هناك اهتمام موّجه نحو الطائفة كطائفة»، ديب، محمد. “الطائفية كعامل من عوامل النزاع” في “عوامل السلم الأهلي والنزاع”. عامر، ناريمان وآخرون. مركز المجتمع المدني والديموقراطي في سوريا. من دون تاريخ. فيحاول أن يحلل مكتسبات الطائفة العلوية من كون «رئيس النظام علوياً»، كما تصفه الكتب الإنجليزية في أغلب الأحيان، فالعلويون استفادوا «كغيرهم من السوريين من الإجراءات التي قام بها البعث منذ وصوله إلى السلطة، والتي تمثلت بالإصلاح الزراعي والتعليم المجاني والاهتمام بالطبقات الدنيا والوسطى، إضافةً إلى توسّعه في بناء مشروعات صغيرة وأخرى ذات تكاليف عالية؛ الأمر الذي انعكس إيجاباً على الطبقات الدنيا الصاعدة في إطار حكم البعث، وهي طبقات عابرة للطوائف والإثنيات (بإستثناء الكرد…)». المرجع السابق ص 129. أما المكسب الثاني، فكان: «يتعلق بآلية السلطة لاعتماد النهج الطائفي في حكمها، فإن اعتمادها على أمننة المجتمع والدولة والجيش أدى إلى وجود هؤلاء في سلك الأمن والجيش والمناصب الحساسة بدرجة أولى. كان العلويون أول ضحايا هذه السياسة التي جعلتهم أداة التطييف في الدولة والمجتمع، وأضحوا جزءاً من آلية الفساد المُنتجة للسلطة وأدواتها لتحقيق أهدافها. فهم طبقة فقيرة جداً استغلتها السلطة وربطتها بها، وهم أيضاً طائفة تم تطييفها دون أن تكسب شيئاً على المستوى السياسي». نرى هنا، في هذا الشرح المقتضب، منظوراً آخر للطائفية في سورية، يبين طائفية نظام بحد ذاته، قد فُرضت على طائفة معينة أو طوائف أخرى.
الخاتمة
الكتب الإنجليزية والعربية المختارة ليست الوحيدة، لكنّها اختيرت على أنها عيّنة تُظهر تعدُّد الاتجاهات ووجهات النظر للمنظور الذي ينظر إلى سورية باعتبارها دولة، ومكاناً جغرافياً، وحدثاً، على الرغم من استحالة توصيف هذه الكتب المذكورة بأنها مُمثِّلة للخطاب كله. ونلحظ أنّه في كلّ لغة ثمّة عدة خطابات ضمن الخطاب الواحد، ولكن بالمقارنة بين الكتب العربية والأخرى الإنجليزية نرى بأن المنظور العربي لرؤية الحدث السياسي السوري مأخوذٌ من زوايا متعددة الأسباب، بعكس الكتب الإنجليزية التي تحللّ هذا الموضوع من منظور أضيق يرتكز أساساً إلى عدة عوامل تتمحور جميعها على العامل الديني الطائفي والإثني لسورية. ونرى كذلك المصطلحات المختلفة في وصف سورية، والبساطة وسذاجة شرح القضية السورية، وقصر التحليل، وإهمال المراجع العربية.
على الرغم من وجود كتب أخرى بالإنجليزية، تتناول أيضاً مسبباتٍ مختلفة لما شهدته سورية في 2011 بعد وقبل هذا التاريخ، إلا أن الشرح والنقطة المحورية هي الجانب الطائفي، وهي بذلك ترمي جانباً كلّ العوامل الأخرى التي قد تؤجج هذا العنف الديني، وتجمل النزاع بأنه دينيٌّ بالأساس، وليس سياسياً؛ فهي ترفض أن ترى سورية إلا من هذا المنظور الضيق الذي يُحيل كلّ شيء إلى صراع طائفي بين السنة والشيعة والطوائف فيما بينها عموماً، فيتم إسناد ذلك إلى حقائق تاريخية سحيقة وربطها بتسميات اختلقت في هذه الأعمال، فعلى سبيل المثال نلاحظ أن مك هوغو يعتبر ما يحدث في سورية امتداداً للصراع الصفوي العثماني، أو هو يراه بشكل مختلف، باعتباره مرتبطاً بصراع آل سعود ضد الهاشميين، وهو مرتبط بلا شك بالصراع الوهابي.
من السذاجة أن لا نعطي اهتماماً للجانب الطائفي في سورية، لكن من السذاجة أن يتم تعميمه على أنّه عاملٌ واحدٌ وجامعٌ دون إلحاقه بباقي العوامل التي سببته، والذي بدأ بشكلٍ ملحوظٍ بعد استلام الأسدَين لسورية. فعلى الرغم من أنّ الانقلاب البعثي الأول كان منوطاً بقادةٍ جزءٌ كبيرٌ منهم من الأقليات، لكن دون أن يُنظر إلى القادة السنة الذين شاركوا فيه، وربما أن الجامع لهذا الانقلاب قد يكون بوصفه انقلاباً ذا طابعٍ ريفي؛ أي أنّ قادته أتوا من الأرياف، وهذا المنظور بحد ذاته يحمل وجهين على الأقل: الأول طبقي اجتماعي اقتصادي، والثاني ربما يؤول على أنه ذا طابعٍ أقلوي، لكن ما يدحض هذه الفكرة هو وجود ضباط آخرين شاركوا في هذا الانقلاب من طوائف مختلفة، ويؤكد على ذلك تصفية حافظ الأسد لخصومه السياسيين من العلويين وغيرهم، بغض النظر عن طائفتهم. فلو أن الانقلاب (وليس ما بعد الانقلاب وسياسات الأسد) كان فعلاً ذا طبيعة أقلوية طائفية لما حدث ذلك، وقراءةٌ كهذه، وبعكس القراءات التي مررنا عليها، تعطي تعدداً للمعاني وتضيف تفسيرات ولا تتمسك بمبدأ الطائفة لوحده.
أما في ما يتعلق بالتسميات والاصطلاحات، فنرى بأن ما يُطلق على سورية تختلف تسمياته، فنرى بأن أغلب الثورات العربية أُطلق عليها ثورة في الخطاب الغربي بشكل عام، إلا في الحالة سورية، فقد أُطلق عليها مصطلحات متعددة، وذلك منذ البداية، وقبل أن يتطور الوضع إلى ما أصفه الآن بامتياز على أنه حرب بالوكالة كتعريفٍ معياري. إن مصطلحات مثل اضطراب Unrest، تمرد rebellion، وتمرد مسلح insurgency revolt، ونزاع conflict، ومصطلحات أخرى استُخدمت، باستثناء «ثورة»، الذي لم يُستخدم إلا نادراً. نرى بأن جميع المصطلحات المذكورة تحمل جوانباً سلبيةً عنفيةً ولا تدخل، ولا بأيّ شكلٍ من الأشكال، في الجانب السلمي الذي شهدته الثورة. وعلى الرغم من السلمية التي صمدت لأشهر كثيرة، تبقى القضية الأساس التي تحاول هذه الورقة الإجابة عليها، هي ليست إعطاء التسمية الصحيحة لما حدث لسورية، لكنّ الموضوع قد يكون أبسط من ذلك بكثير، وهو أنه لدينا خطابٌ يسمي نفسه «خطاباً ثورياً»، فكيف تتم ترجمة هذا الخطاب في الكتب الثلاثة وخلفية هذه الكتب، وهو الكتب الإنجليزية الأخرى؟ وهل مجازياً يمكننا أن نترجم الخطاب الثوري ليصبح في لغةٍ أخرى خطاباً غير ثوري أو خطاباً مُهادناً لخطاب النظام؟ اعتماداً على أن ترجمة مصطلح ثورة في العربية لا يعنيrevolt, conflict, rebellion, unrest، وغيرها من المصطلحات والتسميات، فإن الاختيار لما يوافقه في اللغة الإنجليزية هو خيارٌ ليس لغوياً فقط، ولكنّه خيارٌ، هو بالأصل، نابعٌ من دوافع سياسية، لا تبدأ بفعل الترجمة، بل بالموافقة على ترجمة النص المختار المتحيّز بالأساس للثورة، وأيضاً الخيار باستخدام الوسم الذي يختاره المترجم ليس هو بالضرورة المقابل اللغوي، ولكنه المقابل الثقافي والسياسي الموجود في عقله المكافئ لهذا التعبير أو المصطلح، والذي هو بالأصل متأثّرٌ بالخطاب والسرديات التي عُبّئت في رأس المترجم وتراكمت كرأسمال ثقافي خطابي بالأصل: «فبعض هذه الخيارات، خاصةً تلك المتعلقة بتسمية حدث، مكان أو جماعة، بالإضافة إلى الطريقة التي تضع الأفراد والجماعات في فضاء اجتماعي وسياسي، يسمح لنا بأن نؤطر السردية للآخرين». Baker, Mona. “Reframing Conflict in Translation. in: Critical Readings in Translation Studies”. Ed, Baker, Mona. New York: Routledge. 2010. P. 119 والمقصود بالسردية هنا هو القصة أو القصص التي تشكل عالمنا، فعالمنا مكوّنٌ من مجموعةٍ من «القصص التي نؤيد_نؤمن بها، أو على الأقل نفكر بها ملياً على أنها من المحتمل أن تكون صحيحةً، وبالتالي فهي تكوّن سلوكنا باتجاه الأشخاص والأحداث المُدمجين بها». Ibid, 117. فعلى سبيل المثال عندما نرى كلمة «دولة الاحتلال»، فإنّ المترجم، وعلى اختلاف السرديات التي تعرّض لها في حياته وكوّنت سلوكه يترجمها، مع العلم بأنه يعلم في داخله بأن «دولة الاحتلال» لا تحمل ترجمةً حرفية لـ«إسرائيل»، فالخيار الترجماتي الذي اتخذه المترجم بترجمتها حرفياً كما في اللغة العربية أو إلى إسرائيل يُعبّر بالأساس عن خيار سياسي أخلاقي، ولايمكن أبداً في هذه الحالة أن نصف هذه الترجمة، أو حتى الأولى بأنها ترجمة حيادية، وهي بجميع الأحوال تخرج عن فكرة تقريب وتغريب النص، لأنها تخدم أو تتماشى مع أجندة سياسية. لذلك، فإنّ ترجمة الثورة إلى المصطلحات الآنف ذكرها، أو إدخال مصطلحات عنفية أو جنسانية هو بالأساس قرار نابع (بشكل مقصود أو غير مقصود) من القصص التي تكوّن عالمنا كمترجمين على المستوى الأول، إذا ما أخذنا في عين الاعتبار بأن هذه القصص هي بالأساس جزءٌ من هذا الخطاب المسيطر. هذا الخطاب هو بالأساس مضاد للخطاب الآخر الناطق بالعربية على مستوى الترادف اللغوي والثقافي، فكيف له أن يعطي النتيجة نفسها وهو خطابٌ آخر؟
علاوةً على ذلك، فإننا نرى إعادة إنتاج للأفكار نفسها في الكتب الثلاث، فما يلفت للانتباه هو المراجعات التسويقية للكتب المذكورة. نرى بأن رأي فان دام مكتوبٌ على غلاف كتاب فيلاند. يقول: «كتابٌ رائعٌ تسهل قراءته، حيث أنه يقدم رواياتٍ لأحداث دراماتيكية في سورية خلال العقد الفائت وما قبله». وبالمقابل، نرى فيلاند قد وضع مراجعة على كتاب فان دام، واصفاً إياه: «صادقٌ جداً، وكتابٌ مرشدٌ ذو قيمة عالية». بينما نرى فان دام نفسه يقدم مراجعة تسويقية لكتاب مك هوجو ويقول: «رائع، وفي الوقت المناسب. مكتوبٌ بطريقةٍ تثير الإعجاب مع رؤية أصيلة». إنّ الخطاب يجدد نفسه بنفسه، ويعيد إنتاج نفسه، ولذلك فهو بحاجة إلى آراء منتجيه كما هو مذكور في الأمثلة السابقة.
أما البساطة وقصر التحليلات عن الحدث السوري المعقد، فنراهما ظاهرين في كتابات فيلاند أو مك هوجو، ويتمثّل ذلك في تقديم الأول استشارةً غير مباشرة للأسد في إجراء انتخابات، وهذا التحليل مبنيٌّ بالأساس على العنصر الأولي؛ أي العنصر الطائفي، فهو لا يرى، ولا بأيِّ شكلٍ، بأنه يمكن للسوريين أن ينتخبوا مرشحاً على الأساس الوطني، ولكن على الأساس الطائفي الديني. أما الأخير فيرى الموضوع بتمثيل المسلمين السوريين السنة بالوهابية أو الإخوان المسلمين والصراع الدائر بينهما وبين التيار الصفوي تاريخياً على أنّه الحجر الأساس في التحليل، غير مبالٍ بأي أحداث وطنية حصلت في سورية نَمَت على ديمقراطية أو حركة مدنية سورية منذ الانتداب حتى انقلاب البعث، بل التعميم على الحراك السياسي السوري. أما فان دام فلا يرى أيّ دورٍ ديمقراطيٍّ وطنيٍّ في سورية إلا انتخابات 1954. إنّ هذا قد أدى إلى تجاهل المصادر العربية ونبذ المعرفة بهذه اللغة، والتي بدورها أوصلت الكتابة إلى تغيير التفسيرات والاستنتاجات في شأن التواريخ؛ كمثال أطفال درعا أو اطلاق سراحهم، أو استخدام أنصاف الحقائق في التحليل العلمي أو السرد من دون مصادر للمعلومات، والذي بدوره يعيد إنتاج المعرفة عن سورية داخل الخطاب الإنجليزي.
العرض السابق لا يؤكد بالأساس حيادية كاتب هذه الورقة، وأنا لا أجادل على أنه يوجد حقيقة استطعتُ أن أقدمها هنا، ومن دون أي شك، فإنّ القراءة السابقة والتفسيرات للترجمات والكتب، هي وجهة نظر صادرة من خطاب وسرديات أكتب عنها مرةً أخرى، فأنا أؤكد في الخاتمة على أن التحليل السابق النابع عن المقارنة بين الترجمات وخلفياتها والكتب العربية يُظهر لنا الخطابات والسرديات المتنوعة في اللغة الواحدة على سبيل المثال.
إن الترجمات الثلاث لمواد الثورة السورية تُفهم بشكلٍ واضحٍ من خلال الخطاب المهيمن على الكتابة الإنجليزية عن سورية، فهي بالأساس مكتوبة للقارئ الانجليزي، وما يثبت ذلك هو صدور الأعمال مترجمة قبل الأعمال الأصلية، فكتاب يزبك صدر بالألمانية طبقاً لموقع آمازون للكتب (آخر تصفح 02-04-2019) في شهر شباط/يناير 2012، أما نسخته الانجليزية فصدرت في آب/أغسطس 2012، طبقاً لموقع آمازون للكتب (آخر تصفح 02-04-2019) والنسخة العربية صدرت في كانون الأول 2012؛ طبقاً للموقع الذي يرصد تاريخ صدور الكتب (آخر تصفح 02-04-2019) أي بعد 10 شهور من نسخته الألمانية وأربعة شهور من نسخته الانجليزية. أما كتاب سورية تتحدث فصدرت النسخة الإنجليزية في تشرين الثاني/نوفمبر 2014 طبقاً لموقع أمازون. (آخر تصفح 02-04-2019.، أما نسخته العربية فصدرت بعد أشهر من صدور الإنجليزية طبقاً لما يُسمى سياسات نشر وتسويق الكتاب طبقاً لدار النشرمقابلة مع زاهر عمرين.؛ لذا فإنّ السبب هو ليس كتّاب ومحررو الكتب، بل سياسات دور النشر على الأغلب، بعكس ما نراه في كتاب قصة مكان، الذي صدرت نسخته العربية والإنجليزية في التوقيت والعام نفسهما.
بالرغم من الملاحظات التي أدليتُ بها عن الترجمة، إلا أنّ هذه الترجمات، وبكل تأكيد، هي فعل مقاومة يثير الانزعاج والقلق من الخطاب الإنجليزي. هي فعل مقاومة لأنّ هذه الترجمات تمّت عن طريق دعم فردي لأشخاص كانوا موجودين في أوروبا، وهم من قادوا المشروع بشكلٍ فرديٍّ أو جماعي. نرى بأن زاهر عمرين قام بإنشاء كتابه في المملكة المتحدة، وسمر يزبك في فرنسا بعد أن اتخذتها منفىً لها، وسنا اليازجي أيضاً، المتمثلة بفريق الذاكرة الإبداعية للثورة السورية، من فرنسا. كلّهم عملوا بشكلٍ منفردٍ، وبمبادراتٍ شخصية لنقل ما يرونه مهماً إلى الإنجليزية، وهذا بحدّ ذاته مثيرٌ للإعجاب، وذلك على الرغم من بعض الاختلافات التي كنتُ قد ناقشتها، وهي في الوقت نفسه فعلٌ عنيف، تسلخ الخطاب الثوري وتضعه في خطابٍ آخر، فتتغير معالمه جزئياً، ليواكب ويستمر ضمن السرديات وعناصر الخطاب المسيطر.
*****
قائمة المراجع باللغة العربية
ابن ماجه. سنن ابن ماجه تصنيف أبو عبدالله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني. في باب تزويج الحرائر والولود .عمّان: بيت الأفكار الدولية. من دون تاريخ.
باروت، جمال. العقد الأخير في تاريخ سورية: جدلية الجمود والإصلاح. بيروت : مركز الدوحة لدراسة السياسات. 2012
حاج صالح، ياسين. سوريا.. من الظل. الاسكندرية: دار جدار للثقافة. 2010
ديب، كمال. تاريخ سورية المعاصر: من الانتداب الفرنسي إلى صيف 2011 بيروت: دار النهار 2011
ديب، محمد. «الطائفية كعامل من عوامل النزاع» في «عوامل السلم الاهلي والنزاع». عامر، ناريمان وآخرون. مركز المجتمع المدني والديمقراطي في سوريا. من دون تاريخ.
عمرين، زاهر و هالسا، مالو و محفوظ، نوارة. «سوريا تتحدث: الثقافة والفن من أجل الحرية». بيروت: دار ساقي. 2014.
قصة مكان قصة انسان: بدايات الثورة السورية 2011-2015. بيروت: موقع الذاكرة الإبداعية للثورة السورية ومؤسسة فريدريش ايبرت. 2017.
كازانوفا، باسكال. الجمهورية العالمية للآداب. ترجمة: أمل الصبان. القاهرة: المشروع القومي للترجمة. 2002
يزبك، سمر. تقاطع النيران: من يوميات الانتفاضة السورية. بيروت: دار الآداب. 2012.
قائمة المراجع باللغات الأجنبية
Baker, Mona. “Reframing Conflict in Translation. in: Critical Readings in Translation Studies”. Ed, Baker, Mona. New York: Routledge. 2010.
Bassnet, Susan. and Harish Trivedi Post-colonial translation: theory and practice. London: Routledge. 1999.
Clark, Peter. “Arabic Literature Unveiled: challenges of Translation”. Durham: University of Durham Press. 2000.
Foucault, Michel. “the Archeology of Knowledge & Discourse of Language”. Tran, Smith, A.M. Sheridan.New York: Pantheon Books, 1972.
Halsa, Malu, et al. “Syria Speaks: Art and Culture from the Frontline”. London: Saqi. 2014.
Mchugo, John. “Syria a Recent History”. London: Saqi Books. 2015.
Mills, Sarah. “Discourse”. London: Routledge.
Somers, Margaret R. And Gibson, Gloria. “Reclaiming the Epistemological “Other”: Narrrative and the social constitution of identity”. in Craig Calhoun (ed.) Social Theory and the Politics of Identity, Oxford: Blackwell. 1944.
Spivak, Gayatri. “Can Subaltern Speaks? In: Marxism and the Interpretation of Culture”. Ed, Cary, Nelson and Grossberg, Lawrence. Illinois: University of Illinois Press. 1988.
“The Story of a Place: the Story of a People”. Beirut: Friederich-Ebert Stiftung and The Creative Memory of the Syrian Revolution Website. 2017.
Thiong’o, Ngugi Wa. “Decolonizing the Mind: the Politics of Language in African Literature”. London: Heinemann, 1986.
Van Dam, Nikolaos. “Destroying a Nation: The Civil War in Syria”. London: I.B Tauris. 2017.
—- “The Struggle for Power in Syria: Politics and Society under Assad and the Ba’th Party”. Fourth Edition. London: I.B Tauris. 2011.
Venutti, Lawrence. “The Translator’s Invisibility: a History of Translation”. London: Routledge. 1995.
Wieland, Carsten. “A Decade of Lost Chances: Repression and Revolution from Damascus Spring to Arab Spring”.. Seattle: Cune Press. 2012.
—- “Ballots or Bullets?: Democracy, Islamism, and Secularism in the Levant”. Seattle: Cune Press, 2006.
Yazbek, Samar”. “A Woman in the crossfire: the Diaries of the Syrian Revolution”. Trans. Max Wes. London: Haus Publishing. 2012.
مراجع إلكترونية باللغة العربية
النشر في الوطن العربي.. واقع متردٍ ومستقبل غامض. في جريدة البيان، 17-12-2010. (آخر تصفح 02-04-2019)
مئات الجثث جراء إعدامات ميدانية: داريا تشهد أكبر مجزرة وتحصد أقل الادانات. في صحيفة البيان. 26-08-2012. (آخر تصفح 29-07-2019).
مجلي، هند. «أطفال درعا أين هم في الذكرى الخامسة لاعتقالهم». في شبكة المرأة السورية. 2016. (آخر تصفح 01-09-2019)
معجم لسان العرب من خلال موقع الباحث العربي. (آخر تصفح 05-09-2019)
فان دام، نيكولاوس. تدمير وطن: الحرب الاهلية في سوريا. ترجمة:لمى بوادي وآخرون. بروت: دار جنى لدراسات. 2018.
مراجع الكترونية باللغات الأجنبية
Aboul-Ela, Hosam. “Challenging the Embargo: Arabic Literature in the US Market.” Middle East Report, no. 219, 2001, pp. 42–44. JSTOR,
“Arab Countries”. In World Population review”. (Last Access 02-04-2019)
Gutherie, Alice. “Literary Translation from Arabic into English in the United Kingdom”. In “Literature across Frontiers” 2018. (Last Access 02-04-2019)
Hanano, Amal. “The Syrian schoolboys who sparked a revolution”. In the National. 30-03-2012. (Last Access 01-09-2019).
Heilborn, Johan. “Translation as a Cultural World System”. In Perspectives: Studies in Translatology. 2000. (Last Access 02-04-2019)
Online Cambridge Dictionary (Last Access 05-09-2019)
Said, Edward. “Embargo Literature” in the Nation, 17-09-1990. (Last Access 02-04-2019)
Sterling, Joe. “Daraa: The spark that lit the Syrian flame”. In CNN. 01-03-2012. (Last access 01-09-2019)