تدخل العملية العسكرية التركية في شمال شرقي سوريا أسبوعها الثاني اليوم، وكانت الحصيلة الميدانية لأسبوعها الأول سيطرة الجيش التركي والفصائل السورية التابعة له على مدينة تل أبيض شمال محافظة الرقة على الحدود مع تركيا، بالإضافة إلى عشرات القرى والبلدات في محيط مدينتي تل أبيض ورأس العين/سري كانييه وعلى طول الشريط الحدودي الواصل بينهما، وصولاً إلى أجزاء واسعة من طريق الحسكة حلب الدولي في عمق الأراضي السورية على بعد نحو 30 من الحدود.

وتستمر المعارك متفاوتة العنف على جبهات عديدة أبرزها جبهة مدينة رأس العين، التي تمكن مقاتلو قسد من استعادة السيطرة عليها بعد أن كان مقاتلو «الجيش الوطني» المدعومين من أنقرة قد سيطروا على أجزاء واسعة منها في وقت سابق، بالإضافة إلى معارك على محور قرية هوشان المؤدي إلى مدينة عين عيسى جنوب تل أبيض، ومعارك على الطريق المؤدي إلى مدينة تل تمر جنوب رأس العين.

على الجانب الإنساني، أسفرت العملية العسكرية التركية عن عشرات الضحايا المدنيين حتى الآن، قال المرصد السوري لحقوق الإنسان إن عددهم بلغ حتى يوم أمس 71 شخصاً، فيما أسفر القصف المضاد الذي نفذته قوات سوريا الديمقراطية على مناطق تقع تحت سيطرة الفصائل الموالية لأنقرة في ريف حلب، وعلى عدة مدن في الأراضي التركية، أبرزها نصيبين وأغجا قلعة، عن عشرات الضحايا والجرحى في صفوف المدنيين أيضاً. كذلك تتصاعد حركة النزوح من مناطق عدة جراء الحملة العسكرية، حتى تجاوز عدد النازحين ربع مليون نسمة حتى مساء أمس بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، وتعيش أعداد كبيرة منهم ظروفاً بالغة الصعوبة نتيجة غياب الدعم والاستجابة الأولية الطارئة.

بالتزامن مع هذه العمليات، بدأت واشنطن منذ يومين عمليات انسحاب واسعة من الشمال السوري، إذ انسحبت القوات الأميركية المتمركزة في مدينة منبج، لتدخل إليها قوات تابعة للنظام السوري بموجب اتفاق مع قيادة قسد. وتتحدث تسريبات عن أن هناك مفاوضات بين قيادة قوات سوريا الديمقراطية والنظام السوري برعاية روسية، بهدف تسليم جميع جبهات ومناطق سيطرة قسد لقوات النظام السوري. وليس ثمة ما يؤكد أن هذا الاتفاق قد أُنجز فعلاً، غير أن مواصلة القوات الأميركية لانسحابها سيجعله أمراً مرجحاً في الأيام القادمة، وهو ما يؤكده انتشار قوات النظام السوري في عدة مناطق، من بينها منبج ومحيطها، واللواء 93 قرب عين عيسى وسط محافظة الرقة، وبلدة تل تمر ومحيطها شرق محافظة الحسكة، ومواقع عسكرية قرب مدينة الطبقة وسد الفرات.

وليس مؤكداً بعد مدى الانسحاب الأميركي من المنطقة، وما إذا كان سينتهي إلى انسحاب كامل من الشأن السوري ميدانياً وسياسياً، إذ تواصل الولايات المتحدة محاولاتها لضبط الأوضاع، من خلال الضغط على الجانب التركي لوقف إطلاق النار، وهو ما رفضه الرئيس التركي يوم أمس بشكل قاطع؛ وكذلك من خلال إظهارها تشدداً بخصوص دخول قوات الأسد إلى مناطق بعينها مثل كوباني، في الوقت الذي مرت فيه أرتال القوات الأميركية إلى جانب الشاحنات التي تنقل عناصر قوات النظام المتجهين نحو منبج. وفي هذا السياق، كان رتل تابع لقوات النظام قد تعرض لقصف من قبل طيران مجهول قرب قرية العسيلة بريف منبج، كما أن قوات التحالف الدولي تواصل تأكيد حضورها في ريف دير الزور بالنيران، من خلال الغارات المتكررة على ميليشيات مرتبطة بإيران هناك.

ولكن يبقى أن الاتجاه العام يشير إلى أن ترامب مصرّ على مغادرة سوريا نهائياً، وهو ما يواجه ممانعة من قبل دوائر في البنتاغون والكونغرس الأميركي، ومن حلفاء واشنطن الرئيسيين في التحالف الدولي، وخاصة بريطانيا وفرنسا اللتين أعلنتا مواقف أكثر حزماً من العملية التركية، لكن مسؤولين فيهما تحدثوا في الوقت نفسه عن أن الدولتين قد تسحبان عناصرهما من سوريا أيضاً قريباً. وقد دعا وزير الخارجية الفرنسي إيف لوديريان إلى اجتماع للدول الأعضاء في التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش، لمناقشة الخلافات بين الأوروبيين والولايات المتحدة حسب ما صرح الوزير الفرنسي.

موسكو من جهتها قالت إنها منعت حدوث اشتباكات بين القوات التركية وقوات النظام السوري التي بدأت تنتشر على مقربة من مناطق المعارك، ولا يبدو حتى اللحظة أن هناك خطة لسيطرة النظام السوري بشكل كامل على مناطق سيطرة قسد التي انسحبت منها القوات الأميركية بشكل مفاجئ تاركة إياها تحت رحمة العمليات التركية، كما أن النظام لا يملك لوحده قوات كافية للسيطرة على مناطق واسعة كهذه، وهو ما يفتح الباب على تفاهمات محتملة بين نظام الأسد والجانب التركي برعاية روسية.

وبخصوص هذه المسألة، قال الرئيس التركي للصحفيين خلال عودته من باكو عاصمة أذربيجان يوم أمس إن «دخول النظام إلى منبج ليس تطوراً سلبياً جداً بالنسبة لنا. لماذا؟ لأنها أرضهم»، ويلتقي هذا التصريح بشكل أو بآخر مع ما قاله يوسف الحمود، الناطق باسم «الجيش الوطني» المعارض المدعوم من أنقرة، عندما تحدّث عن أنه «لا وجود لعناصر تابعة للنظام في منبج، بل قام عناصر قوات سوريا الديموقراطية بتغيير بدلاتهم ورفع علم النظام»، وهو ما يعني أن هذه القوات ليست بصدد الاشتباك مع قوات النظام حال تأكدها أن هذه القوات ليست تابعة لقسد.

وتأتي هذه التطورات في الوقت الذي تتفاعل قضية الانتهاكات والإعدامات الميدانية التي ارتكبتها قوات سورية مدعومة من تركيا في سياق العملية، ومن بينها إعدام السياسية الكردية هيفرين خلف، التي تم توجيه الاتهام للفصائل الموالية لتركيا بتصفيتها منذ لحظة اغتيالها، غير أن أياً من هذه الفصائل لم يعلّق على الأمر حتى يوم أمس، بعد أن حصلت صحيفة الواشنطن بوست على معلومات حول اغتيالها، وبعد أن انتشر تسجيل مصور يظهر إعدامها ميدانياً على يد فصيل «أحرار الشرقية» المشارك في العملية التركية.

وفي تعليقه على هذه المعلومات، قال حسان الشامي الناطق باسم «أحرار الشرقية»، إن هيفرين لم تكن سياسية بل «جاسوسة أميركية»، وأضاف: «نشارك في أحرار الشرقية وفصائل الجيش الوطني السوري الأخرى في عملية نبع السلام مع الإخوة الأتراك. الهدف من هذه العملية هو محاربة الإرهاب (…) إذا وجدنا إرهابياً أو جاسوساً، ماذا تتوقع منا أن نفعل؟». وتأتي هذه التصريحات لتؤكد مسؤولية هذه المجموعة عن ارتكاب جريمة قتل السياسية السورية الكردية، كما أن العبارات التي استخدمها الشامي لتبرير هذه الجريمة تؤكد مسؤولية الفصيل الكاملة عنها وليس مسؤولية عناصر فيه فقط، ومن ثم مسؤولية قيادة «الجيش الوطني» الذي يتبع له هذا الفصيل.

يبدو أن استمرار المسار الحالي للأحداث سيقود إلى اقتسام السيطرة على الجزيرة السورية بين تركيا والقوات السورية الموالية لها من جهة، وبين النظام السوري وحلفائه من جهة أخرى، مع بقاء قوات سوريا الديمقراطية في بعض المناطق تحت رعاية روسية ريثما يتم الاتفاق النهائي على مصيرها. غير أن الوصول إلى هذه النتيجة ليس محسوماً بعد، خاصة في مناطق الكثافة الكردية في محافظة الحسكة حيث يُحتمل أن تواجه القوات التركية مقاومة أكثر شراسة، وفي مناطق ريف دير الزور الخاضعة لسيطرة قسد، التي قد لا ترغب الولايات المتحدة بمغادرتها خشية وقوعها تحت سيطرة ميليشيات إيرانية، والتي خرج أهلها في مظاهرات اليوم رافضين لدخول قوات النظام إليها.