«أُنتج هذا الفيلم بدعم من الاتحاد الأوروبي، ولا يعكس بالضرورة وجهات نظر الجهات الداعمة»، تظهر هذه العبارة في اللقطة الأولى من فيلم المخرج السوري الليث حجو الحبل السري، الذي أثار جدلاً بعد عرضه في عدة مدن، داخل سوريا وخارجها، وصولاً إلى الاتحاد الأوروبي. ويزداد حضور النقاشات العامة بين السوريين، اليوم، بعد ظهور الأعمال الفنية التي تُعيد رواية أحداث السنوات الماضية، ويزداد أيضاً تأثير هذه النقاشات المكوّنة لرأي عام ضاغط باتجاه ترسيخ أو نسف هذه الرواية أو تلك. تتصدر حرب السرديات مشهد اليوم، بالكاميرات والأقلام، بعد أن كانت بنادق الميدان قد تصدرت نقاشات السنوات الماضية.
انتقد كثيرون فيلم الليث حجو، الذي يحكي قصة مدنيين محاصرين، نعرف أنهم يتحركون في مدينة الزبداني، أو أنهم لا يتحركون في الحقيقة، بسبب طلقات القناص التي تخترق حتى رغيف الخبز المتنقل بين البيوت. حول هذا العجز عن التنقل، تتمحور قصة امرأة حبلى يأتيها المخاض، ويعجز الجيران عن الوصول إليها ومساعدتها بسبب وجود القناص، الذي لا نعرف هويته. القناص «مجهول» الهوية، لا يبدو منه شيء باستثناء عينه وإصبعه على الزناد، ويشتمه زوج المرأة الحبلى بـ«كس أمك» و«يا منيك». سيناريو مفتوح بإمكان من شاء إكماله بما شاء، لعب عليه الليث حجو، دافعاً عدداً من النشطاء المعارضين إلى انتقاد الفيلم باعتباره بروباغندا للنظام وتزويراً للحقيقة عبر إخفاء جانب رئيسي منها، ودافعاً آخرين بالمقابل إلى استهجان الموقف المتشدد منه، قائلين إنه «يعرض صراع إرادتي المدني والعسكري، ولا يتطرق إلى التفاصيل، ما يجعله مقبولاً في الأوساط الغربية».
عُرض الفيلم، الذي يُعتبر مخرجه ومعظم من ظهروا فيه من الموالين للنظام، في دار الأوبرا في دمشق وفي حمص، بحضور شخصيات تابعة للنظام، ثم في مهرجانات عالمية وعربية، منها مهرجان مالمو للأفلام العربية. وقد أدت كل هذه المعطيات إلى إثارة جدل واسع، بسبب حساسية وضع المنطقة التي تدور فيها أحداث الفيلم، وحساسية القضية التي يتناولها.
وكتب المخرج السوري علي الأتاسي على صفحته في فيسبوك تعليقاً على عرض الفيلم: «من المعيب أن ندين استخدام دمار مدينة الزبداني كلوكيشن لتصوير فيلم عن حرب 2006 في لبنان. وفي الوقت ذاته نسكت عن استخدام المدينة المدمرة ذاتها، والمهجر أبناؤها، كلوكيشن في فيلم روائي سوري يجول العالم ويدعي مخرجه الليث حجو بكل وقاحة أن فيلمه حيادي غير مسيس لا يريد نكأ جراح الماضي وتحديد هوية القاتل، لكنه في الوقت ذاته يصول ويجول ويصور في مسرح الجريمة وبإذن رسمي، ولا ينفك يعرض الفيلم في قصور الثقافة السورية ودار الأوبرا برعاية وزارة الثقافة السورية. هذا ليس تطبيعاً ثقافياً، هذا اسمه مشاركة بالجريمة وتواطؤ مع سردية القاتل وعبث بمسرح الجريمة وبذاكرة الضحايا».
كما نشر علي دياب، ابن مدينة الزبداني، صورة من الفيلم على فيسبوك، يظهر فيها بيته بمدينة الزبداني بادياً من عدسة القناص الموجهة إلى حارته، مُديناً «تزوير الفيلم لرواية ما جرى وعدم تحديد المسؤول عن دمار المدينة وتهجير أهلها»، وطالب بـ«إلغاء عرضه» في اسطنبول، وهو ما حدث لاحقاً فعلاً تحت ضغط نشطاء سوريين في المدينة.
بالمقابل انتقد الفنان السوري خليل يونس الطلبات بمنع عرض الفيلم على صفحته في فيسبوك، وقال في حديث للجمهورية حول موقفه هذا إن «السعي لمنع عرض الفيلم من خلال الضغط على المؤسسات الغربية وإرضاخها لذلك، قد يكون منعاً لحرية التعبير التي طالب بها السوريون. من الممكن انتقاد الفيلم وتشريح روايته، دون أن يكون ثمة مصادرة لآراء الآخرين ووجهات نظرهم. كانت مشكلتنا الأساسية في السابق هي قمع الحريات والتضييق على كل أنواع الموسيقا والمسرح والسينما، وكان هذا واحداً من الأسباب التي خرج لأجلها السوريون».
وأشار خليل إلى أن «من يطالب بالحرية عليه أن يكون على قدر مسؤولية ذلك. كل شيء له ضريبة، والحرية لها ضريبة. على المطالب بها الإيمان بأن ما يحق له يحق لغيره بغض النظر عن رأيه أو من يمتلك رأياً صحيحاً. هذه الضريبة يجب أن تُدفع ويجب أن يتحمل الشخص سماع ما لا يحبه. حرية التعبير يجب أن تُصان دون “لكن” أو “بس”، وهذا لا يعني إطلاقاً أنني أتفق مع ما جاء في الفيلم».
من جهته، تساءل المخرج السوري زياد كلثوم في حديث للجمهورية عن «هدف تمويل الاتحاد الأوروبي لفيلم يدّعي أنه لا يُمثل وجهة نظره»، مضيفاً أنه كان يجب على الاتحاد، قبل تمويل عمل كهذا «السؤال عن القائمين على هذا العمل وخلفياتهم ومواقفهم وسيرهم الذاتية. هذا المخرج كان في الصف الأول عند أداء بشار الأسد للقسم عام 2014، ولا يمكن قبول موقفه المتراخي في وصف ما جرى».
وأضاف كلثوم: «من هو هذا القناص؟ لماذا لم تتم الإشارة إلى هويته؟ من هؤلاء المحاصرون، ومن يحاصرهم؟ الليث دخل إلى مسرح الجريمة وحرَّكَ كادره فيها دون الإشارة إلى المسؤول الحقيقي عنها. إضافة إلى أن الموضوع ليس متمحوراً فقط حول ما يقوله الفيلم، وإنما حول مأسسة إنتاجه، التي قد يكون وراءها نية بتبييض صفحة النظام سياسياً من خلال تعويم وجهات النظر التي تدعي الحيادية، وتسعى لإسقاط المسؤولية عن المجرم». مشيراً إلى أن «جود سعيد يقوم ببروباغندا مباشرة للنظام، ولكن الليث حجو يقوم ببروباغندا مبطنة وخفية، وهذا أقذر. ما الذي سيكون جوابه حين يسأله أحد الحاضرين في دمشق عن هوية القناص؟ هل سيقول إنه جندي للنظام؟ ألن يُعتقل بعد قول ذلك فوراً؟ هذا التفاف حول القصة. ممنوع أن تكون حيادياً في هذه الظروف. وأن تقف في المنتصف وتقول أنا يهمني الإنسان فهذا هراء».
لكن كلثوم قال إنه رغم ذلك «لا يؤيد منع عرض الفيلم، وإنما يدعو إلى عرضه شريطة وجود أجواء يمكن فيها نقاش محتواه مع المخرج وسؤاله عن كل ما ورد فيه دون قيود، وتمكين الجمهور من خلق وجهة نظر متكاملة عن العمل وظروفه وموقف الليث من النظام».
وكان فيلم مسافرو الحرب للمخرج السوري جود سعيد، الذي يروج لرواية النظام بطريقة مباشرة، قد مُنع من العرض في مهرجان مالمو بعد ضغوط على إدارة المهرجان، لكن فيلم حجو لم يُمنع باعتباره لم يتخذ موقفاً مباشراً. ويأتي عرض هذا الفيلم بعد أسابيع من صدور فليم جدار الصوت للمخرج اللبناني أحمد الغصين، الذي أثار عاصفة من الانتقادات جراء دخوله بإذن من النظام وحزب الله، إلى القلمون، واستعارة الخراب الذي أحدثه النظام وحلفاؤها هناك لتصوير فيلم عن حرب تموز في لبنان.
وقبل أيام قليلة، أصدر فنانون سوريون وعاملون في مجال السينما بياناً يدين «استخدام المدن المدمرة في تصوير الأفلام التي تحاول التطبيع مع النظام في ظل استمرار الجريمة»، مُدينين أيضاً «التعفيش السينمائي والتلاعب بذاكرة الأماكن والناس، من خلال التواطؤ مع المجرمين»، كما جاء في البيان: «نحن لن نساوم على سرديتنا ولن نقبل التلاعب بقصصنا وأمكنتنا وصورنا. هذه المنازل المُتَداعية والخالية من سكانها، لم تكن ولن تكون يوماً أطلالاً نبكي عليها، إنها جزء من حكايتنا التي سنصونها ونرويها ونتوارثها إلى أن تتحقق العدالة ويُحاسَب القَتَلَةْ».