لم يكن السلاح الكيماوي مجرد واحد من أدوات القتل المتنوعة التي استخدمها نظام الأسد، بل كان السلاح الذي تم استخدامه على نطاق واسع لإبادة السكان في المناطق الثائرة، وأداة الترهيب الأساسية التي تسببت بعمليات تهجير واسعة لمئات الآلاف من السوريين؛ يحاول هذا النص تتبّع العملية الموازية لجريمة استخدام السلاح الكيماوي في سوريا، التي حاولت تضليل الرأي العام العالمي وتشويه الحقيقة، لمساعدة النظام على إنكار استخدام أحد أسلحة الدمار الشامل ضد شعبه.
استخدم نظام الأسد السلاح الكيماوي ضد المدنيين وفصائل المعارضة 217 مرة منذ 23 كانون الأول (ديسمبر) 2012، حسب ما وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، حتى أصبح استخدام هذا السلاح أحد أبرز وجوه الإبادة التي يقوم بها النظام منذ انطلاق الثورة في سوريا وحتى اللحظة.
الاستخدام الأول لهذا السلاح كان في حي البياضة بمدينة حمص، حيث قامت قوات النظام باستهداف الحي بقذائف محملة بغاز السارين بهدف القضاء على مقاتلي المعارضة هناك، وأتبَعَ النظام هذه الهجمة بهجمات عديدة، استهدفت في معظمها المدنيين، وكان الهجوم الذي أوقع العدد الأكبر من الضحايا هو مجزرة الكيماوي في الغوطتين الشرقية والغربية، حين استهدفت قوات النظام، وبالتحديد الفرقة الرابعة، بلدات معضمية الشام في الغوطة الغربية وعين ترما وزملكا في الغوطة الشرقية بصواريخ محملة بغاز السارين، أدت خلال ساعات إلى استشهاد 1347 مدني في الغوطتين؛ كان مشهد الموت الجماعي بغاز الأعصاب مهولاً حتى بالمقارنة مع الكوارث والمجازر التي ارتُكبت قبل ذلك في سوريا.
شكّلت تلك المجزرة لحظة تحول كبيرة في بينة آلة القتل التي صنعها النظام لقمع السوريين، إذ كان قد سبقها تصاعدٌ في أعداد الشهداء الذين سقطوا خلال قمع الأمن للمظاهرات، أو خلال الاقتحامات التي نفذتها قوات عسكرية وأمنية لمناطق الاحتجاج، إلى أن وصلت خلال عام 2012 لتشمل عمليات قصف واسعة النطاق استخدمت فيها لاحقاً أنواع مدمرة من الأسلحة مثل صواريخ السكود والبراميل المتفجرة التي ترمى من الطائرات المروحية، لكّن لحظة المجزرة الكيماوية عنت أنّ القتل بهدف القمع والإخضاع قد تحول إلى الإبادة.
لم ينجُ النظام من العقاب بعد هذه المجزرة رغم التهديدات الأميركية والغربية فحسب، بل استمر في استخدام السلاح الكيماوي، بما فيه السارين الذي زعم أنه سلم كامل مخزونه منه بعد الصفقة الشهيرة التي عقدتها موسكو وواشنطن لتجنيب الأسد ضربة عسكرية كان الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما قد هدد بتوجيهها له إذا ما استخدم السلاح الكيماوي.
أصبح سلاح التدمير الشامل هذا أداة رئيسية لترهيب السكان وإبادتهم، وجاء غياب محاسبة النظام، وتراجع النظام الدولي عن تهديداته، ليعني أن الصور الرهيبة التي خرجت من الغوطة في آب (أغسطس) عام 2013 ستتكرر مراراً، كما حدث في خان شيخون في الرابع من نيسان (أبريل) 2017 وفي دوما في السابع من نيسان (أبريل) 2018، من دون أن تشكل الضربات التي وجهتها الولايات المتحدة ضد النظام إثر تلك المجزرتين أيّ رادع لنهج الإبادة الأسدي.
كان غاز السارين (الأعصاب) وغاز الكلور بحالته المركّزة، السلاحين الأكثر استخداماً من قبل النظام، لتحقيق أكبر ضرر ممكن في صفوف المدنيين، وأدى الاستخدام الممنهج لسلاح الإبادة هذا إلى تحقيق أهداف النظام بتهجير السكان وترهيبهم، فقد كان لمجزرة الكيماوي في دوما عام 2018 تأثيرٌ مباشرٌ على مسارعة مناطق خارجة عن سيطرة النظام إلى التسليم عبر اتفاقات تمّت برعاية روسية، تم بموجبها تهجير أعداد كبيرة من مقاتلي الفصائل والمدنيين من مناطق القلمون الشرقي وريف حمص ودرعا إلى الشمال؛ كان جواب الأهالي هناك تلقائياً، لا نريد أن نموت بالكيماوي، كان هذا الكابوس سلاح النظام الأمضى في مواجهته مع المناطق الثائرة عليه.
وبالتوازي مع تطور استراتيجية الإبادة التي اتبعها النظام، مرّ شكل دعايته المضادة حول تلك الأحداث بعدة مراحل، رافقتها طوال الوقت عمليات أمنية استخدمت الترهيب والتهديد بالقتل، وتنفيذ الاغتيالات. أولى ردود أفعال النظام على اتهامه باستخدام السلاح الكيماوي في سوريا، كانت اتباع الإنكار التام لاستخدامه هذا السلاح، ونفيه لوقوع هذه الحوادث، ومنذ بداية العام 2013، اعتمد خطاب النظام الرسمي على رواية أساسية تقول إنه كان هو ضحية السلاح الكيماوي، من خلال اتهام فصائل المعارضة باستخدام هذا السلاح في بلدة خان العسل في شهر آذار (مارس) 2013. وقد تم الاستناد إلى هذه الحادثة، التي استُخدم فيها غاز السارين ضد بلدة تقع تحت سيطرة قوات النظام، باعتبارها دليلاً على براءة النظام من هذه العمليات، ووردت الإشارة لها في مرات عديدة، من بينها كلمة مندوب النظام في الأمم المتحدة بشار الجعفري رداً على الإحاطة التي قدمها الأمين العام للأمم المتحدة حول مجريات التحقيقات في مجزرة الكيماوي بالغوطة الشرقية التي وقعت في شهر آب 2013؛ كما قال رأس النظام بشار الأسد خلال مقابلة له مع صحيفة إكسبرسن السويدية في شهر نيسان (إبريل) 2015 إن الغرب يتحدث عن استخدام الأسلحة الكيماوية دون أن يكون لديه دليل واحد، ثم عاد ليقول إن الدليل الوحيد على استخدام السلاح الكيماوي هو تقرير لجنة التحقيق التابعة لمنظمة حظر الأسلحة الكيماوية عن استخدام غاز السارين في الغوطة الشرقية في آب 2013، مستطرداً أن اللجنة لم تحدد الفاعل في تلك الحادثة، وأضاف أن النظام هو من دعى الأمم المتحدة للتحقيق في استخدام هذا السلاح بعد حادثة بلدة خان العسل.
حتى تلك اللحظة كان النظام يبني استراتيجيته على الإنكار، واتهام المعارضة حين لا يستطيع الإنكار، وقد اتسمت تلك المرحلة من خطاب النظام بالاضطراب الشديد وإطلاق روايات مفضوحة للغاية، مثل حديث مستشارة بشار الأسد بثينة شعبان الشهير حول قيام فصائل المعارضة باختطاف أطفال من قرى اللاذقية شمال غرب البلاد، واستخدام السلاح الكيماوي ضدهم في الغوطة الشرقية لاتهام النظام.
كانت تلك الروايات موجهةً بشكل رئيسي للجمهور الموالي للنظام، إذ كان النظام في وضع يعرف فيه أنه يخسر المعركة في مواجهة الحقيقة، ما جعله يحاول إطلاق دعاية مضادة تتضمن تحريض طائفياً صريحاً، من خلال الإشارة إلى أن الأطفال المقتولين مخطوفون مناطق ذات غالبية علوية.
وفي الوقت الذي كانت تلك الدعاية المضادة من النظام تتعرض للسخرية، كان النظام يستمر في إنكار استخدامه للسلاح الكيماوي بالتوازي مع المجازر التي كان يرتكبها باستخدام هذا السلاح بشكل ممنهج، قبل وبعد الصفقة الكيماوية المشينة التي تعهد ضمنها بتسليم كامل مخزونه الكيميائي مقابل تهربه من المحاسبة، ما عنى أن تلك المرحلة لم تكن بحاجة إلى حملة دعاية دولية منظمة، إذ أن النظام قد نجا من المحاسبة بعد مجزرة مروعة ارتكبت في الغوطة، وهو ما أعطاه فترة من الراحة جعلت استراتيجيته في الكذب كافية للاستهلاك الذاتي، فيما كانت سابقة كذب الولايات المتحدة حول أسلحة الدمار الشامل في العراق تخدم رواية النظام أمام جزء من الجمهور العالمي حين كانت واشنطن تؤكد استخدامه لهذا السلاح.
وقد بدأت المرحلة الثانية من تطور استراتيجية التضليل لدى النظام مع نهاية العام 2016 وبداية العام 2017، وهي الفترة التي شهدت دخول رئيس أميركي جديد إلى البيت الأبيض، كانت تصريحاته حول سوريا ترتكز على انتقاد سياسات أوباما، ومن بينها التراجع عن ضرب النظام بعد مذبحة الغوطة الكيماوية. وفي سياق محاولاته لإظهار نفسه أكثر حزماً من سلفه، كانت تصريحات دونالد ترامب تحاول التشدد في ملفات المنطقة ومن بينها سوريا، وتركّز على التزامه بالخطوط الحمراء التي نسيها أوباما.
كانت مجزرة خان شيخون التي استخدم فيها النظام غاز السارين ضد المدنيين، ما أوقع عشرات الشهداء في نيسان (أبريل) 2017، الاختبار الأول لتصريحات ترامب، الذي رد بقصف مطار الشعيرات بمحافظة حمص، باعتباره المطار الذي انطلقت منه الطائرة التي قصفت خان شيخون بالسارين. كان ذاك الرد العسكري المحدود هو الأول من قبل الولايات المتحدة ضد النظام السوري منذ بداية الثورة، مما وضع النظام في موقف يحتاج فيه إلى حملة علاقات عامة دولية، تساعده على تجنب ضربات مماثلة مستقبلاً.
وتركزت دعاية النظام المضادة في هذه المرحلة على رواية أساسية، وهي اتهام الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء) بالارتباط بالنصرة، وبالتنسيق معها لتحضير ما أسماه النظام «تمثيليات» المجازر الكيماوية في سوريا. وقد قام الإعلام الموالي للنظام بتكرار هذه القصة مراراً عند أي اتهام للنظام باستخدام السلاح الكيماوي، كما قام فنانون موالون له بإنتاج أعمال فنية تُظهر فرق الدفاع المدني بوصفها جهات تقوم بفبركة لتلك الأحداث بالتعاون مع مقاتلين مناوئين للنظام، مثل فيلم «رجل الثورة» الذي أخرجه نجدت أنزور، وإحدى حلقات مسلسل كونتاك الذي أنتجته شركة سامر فوز، وهو من بطولة الممثلة السورية الشهيرة أمل عرفة.
إلا أن التحول الأساسي خلال هذه المرحلة كان في الدعم الروسي الواسع لهذه الرواية، والإدارة الروسية لعملية التضليل على المستوى العالمي، فقد تم استخدام شخصيات معروفة على نطاق واسع لتمرير هذه البروباغاندا، مثل المغني الشهير روجر ووترز، الذي توقف عن الغناء في إحدى حفلاته ليتحدث عن اصطناع تمثيليات للكيماوي في سوريا، متهماً خلال حديثه الخوذ البيضاء باستخدام السلاح الكيماوي ضد المدنيين، وتزييف صور حول المجازر.
حملة الكذب تلك كانت استجابة لأوضاع جديدة فرضها رد إدارة ترامب على استخدام النظام للسلاح الكيماوي، كما كانت في الوقت نفسه استغلالاً لأسلوب جديد من التضليل، يعتمد على ترويج الأخبار الكاذبة على وسائل التواصل الاجتماعية، وهي طريقة سبق واستخدمتها موسكو للتأثير على الانتخابات في أوروبا والولايات المتحدة. وقد كشف تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية رعاية موسكو لمنصّات تدعم نظريات المؤامرة، وتعمل على بثّ أخبار كاذبة تشوه سمعة منظمة الدفاع المدني السوري، التي تقوم بإنقاذ المدنيين الناجين من القصف الوحشي للنظام.
مع الاستمرار في ترويج هذه الرواية، كانت موسكو تحضر لعملية استخباراتية للتأثير على التحقيقات الدولية حول استخدام النظام للسلاح الكيماوي، فقد كشف تحقيق نشرته الجمهورية بتاريخ 22 آذار (مارس) 2019 عن أن موسكو لم تقف عند حملة الدعاية المضادة تلك، بل قامت بتنفيذ عملية استدراج وتجنيد لطبيبين من الغوطة الشرقية منذ بداية تدخّلها في سوريا، لتستخدمهما بشكل مباشر منذ بداية العام 2018 لتهديد الكوادر العاملة في المجال الطبي والمجال الإنساني بشكل عام، ولإخفاء الأدلة حول استخدام الكيماوي وإسكات الشهود الموثوقين مثل الأطباء والعاملين في المجال الإنساني، بالإضافة إلى الصحفيين الذين وثّقوا بشكل مباشر تلك المجازر.
وفي التفاصيل أن إدارة المخابرات العامة المعروفة باسم أمن الدولة، قامت بإخراج كل من الطبيبين سيف خبيّة وعدنان طباجو من الغوطة الشرقية بداية العام 2018، بعد عملية استدراج وتجنيد بدأت منذ العام 2015، ليقوم هذان الطبيبان بالتواصل بشكل مباشر مع الكوادر الطبية بعد كل ضربة كيماوية، مثل الضربات المحدودة على حمورية والشيفونية في شباط (فبراير) 2018، وضربة دوما في 7 نيسان (أبريل) 2018، وتهديدهم بعائلاتهم الموجودة في مناطق النظام، أو تهديدهم بحياتهم بشكل مباشر، لدفعهم إلى إخفاء كل الأدلة وعدم التحدث للإعلام ونفي وقوع الضربات. وقد نجحت هذه الاستراتيجية إلى حد كبير في الضربات الأولى، إلا أن نشر صور ومقاطع فيديو عن الإصابات في دوما بعد المجزرة نجح في تشجيع تلك الكوادر على تسجيل شهاداتهم للمنظمات الحقوقية ونشرها على الإعلام، لكن من دون الإشارة إلى أسمائهم على عكس المرات السابقة التي كان الأطباء فيها يظهرون بشكل مباشر على وسائل الإعلام لفضح انتهاكات النظام.
استمرت هذه العملية بعد تهجير جزء كبير من سكان الغوطة الشرقية ودوما تحديداً، عبر استدراج عدد من الكوادر الطبية إلى دمشق بحجة تسليم المنشآت الصحية في دوما لهم كي يستمر عملها في خدمة السكان بعد سيطرة النظام على المنطقة، وجرى نقل هؤلاء الأطباء والممرضين إلى فرع الخطيب التابع للإدارة العامة للمخابرات، وتصوير لقاءات معهم للتلفزيون السوري بعد تهديدهم، أنكروا ضمنها استخدام السلاح الكيماوي في دوما، لتقوم موسكو لاحقاً بنقل عدد من هؤلاء الكوادر بالإضافة إلى مدنيين بينهم أطفال بطريقة أشبه بالخطف إلى لاهاي حيث مقر منظمة حظر الأسلحة الكيماوية، بهدف تعزيز دعايتها المضادة المبنية على إنكار مجزرة دوما، ومن ثمّ اتهام الخوذ البيضاء بتصوير «تمثيليات» عن الكيماوي، أو التعاون مع النصرة لاستخدام هذا السلاح فعلاً ضد المدنيين.
عبر هذه السنوات، انتقلت استراتيجية النظام من النفي التام، إلى اتهام فصائل معارضة، ومن ثم القيام بعمليات استخباراتية لتهديد الشهود وإسكاتهم، بالتوازي مع حملات بروباغندا هندستها ودعمتها موسكو، للتشويش على الحقائق ونشر الأكاذيب على مستوى عالمي، بالإضافة إلى عمليات إخفاء الأدلة في المناطق التي تعرضت لهجمات كيماوية ثم عادت إلى سيطرة قوات النظام، مثل الغوطة الشرقية.
*****
بدأت التحقيقات الدولية في استخدام النظام للسلاح الكيماوي خلال ربيع العام 2013، حين تم التوافق في الأمم المتحدة على تشكيل فريق من المحققين، مهمتهم تحديد إذا ما تم استخدام هذا السلاح في سوريا، دون صلاحية تحديد الأطراف التي استخدمته. وقد قام الفريق بعدة زيارات إلى سوريا، من بينها الزيارة التي حدثت خلالها المجزرة الكيماوية في الغوطة خلال شهر آب 2013، ما دفع مجلس الأمن إلى الطلب من النظام تسهيل مرور أعضاء اللجنة إلى المواقع التي حدثت فيها المجزرة، ونتيجة الضغط الدولي، استطاعت اللجنة الوصول إلى الغوطة الشرقية وسحب عينات، أثبتت التحاليل المخبرية لها، والتحقيقات المرافقة في الأماكن المستهدفة، استخدام غاز السارين المعبأ ضمن رؤوس صواريخ أرض-أرض، إلا أن صلاحيات اللجنة لم تشمل توجيه أي اتهامات للنظام السوري.
عقب الصفقة الكيماوية التي رعتها كل من موسكو وواشنطن، تم تشكيل البعثة المشتركة بين منظمة حظر الأسلحة الكيميائية والأمم المتحدة في السادس عشر من شهر تشرين الثاني (أكتوبر) 2013، بعد أسابيع من المجزرة في الغوطة، وكانت مهمة هذه اللجنة هي الإشراف على تدمير مخزون النظام من السلاح الكيماوي.
وقد قامت كلّ من اللجنة الدولية للتحقيق في سوريا (IICI) المنبثقة عن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، والآلية الدولية المحايدة المستقلة (IIIM) المنبثقة عن قرار للجمعية العامة للأمم المتحدة، بجمع الأدلة حول استخدام السلاح الكيماوي في سوريا بشكل منفصل. وأيضاً في العام 2014 تم إنشاء بعثة تقصي الحقائق التابعة لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية (FFM)، بغرض إثبات استخدام المواد الكيميائية السامة في سوريا، ولم تمتلك هذه البعثة أيضاً صلاحية تحديد الفاعلين، إلا أن عملها كان الأساس الذي استندت إليه لاحقاً آلية التحقيق المشتركة بين منظمة حظر الأسلحة الكيميائية والأمم المتحدة (JIM)، وهي هيئة مستقلة أنشأها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في القرار 2235 بتاريخ 7 آب (أغسطس) 2015، وامتلكت الصلاحيات اللازمة لتحديد الفاعلين بخصوص جرائم الكيماوي. ويبدو أن روسيا قبلت بتمرير هذا القرار نتيجة ضغط غربي لم تستطع مقاومته، ولإبعاد الشبهات عن نفسها بعد أن بات إصرارها المتكرر على رفض منح لجان التحقيق الأممية صلاحية تحديد الجهات المنفذة قرينةً على مسؤوليتها المباشرة عن الهجمات الكيماوية إلى جانب النظام. على أي حال، انتهت صلاحية هذه الآلية في تشرين الثاني (نوفمبر) 2017، بعد أن أكدت مسؤولية النظام عن هجوم خان شيخون الذي تم فيه استخدام غاز السارين، وبعد أن رفضت روسيا نتائج عملها وشككت فيها، ثم استخدمت الفيتو ضد اقتراح بتجديد عملها.
وفي شهر حزيران (يوليو) 2018، قررت الأمانة العامة لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية (OPCW)، وهي جهة لا تخضع قراراتها لنظام حق النقض (الفيتو) المتبع في مجلس الأمن، إنشاء فريق التحقيق وتحديد الهوية (IIT)، الذي يقع على عاتقه تحديد مرتكبي جرائم استخدام السلاح الكيماوي في سوريا في كل الحالات التي تم الإبلاغ عنها سابقاً، وتحديداً الحالات التي لم تُصدر حولها اللجنة المشتركة مع الأمم المتحدة تقريراً. وقد ترافق ذلك مع تجديد صلاحيات البعثة المشتركة للتحقيق في استخدام السلاح الكيماوي في سوريا بين الأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيماوية، واستغرق تشكيل فريق التحقيق وتحديد الهوية عاماً كاملاً، حيث أعلنت الأمانة العامة لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية في شهر تموز (يوليو) من العام الجاري 2019، الانتهاء من تشكيل الفريق ليبدأ عمله المكلف به.
استطاعت فرق التحقيق في كثير من المناسبات إثبات استخدام السلاح الكيماوي في سوريا بشكل قاطع، كما وجهت بعض هذه اللجان الاتهامات للنظام السوري بالوقوف خلف تلك الانتهاكات عندما أتاحت الصلاحيات الممنوحة لها ذلك. بالمقابل، فإن هناك سمة واضحة طبعت عمل لجان التحقيق الدولية التي تشكلت للتحقيق في استخدام السلاح الكيماوي أو كشف الانتهاكات عموماً في سوريا، وهي البطء الشديد، وامتناعها عن مشاركة المعلومات والنتائج مع بعضها بعضاً في معظم الأحيان، ما جعل التحقيق في حادثة واحدة مثلاً يجري على أكثر من مستوى، الأمر الذي أهدر كثيراً من الجهود، ودفع كثيراً من الشهود إلى الشعور باليأس من عمل هذه اللجان، التي تتأخر تقاريرها أشهراً طويلة وربما سنوات، بينما يحتاج السوريون الذين يتعرضون لشتى أنواع الانتهاكات إلى قرارات دولية واضحة وسريعة لوقف المجازر بحقهم.
كذلك فإن آليات التحقيق لم تشمل حتى اللحظة أي برامج أو عمليات لحماية الشهود والناجين من المذابح الكيماوية، ما أتاح لروسيا والنظام إدارة عملية ترهيب منظمة بحق هؤلاء، تمنع كثيرين منهم من الإدلاء بشهاداتهم في العلن، وحتى من الإدلاء بشهاداتهم أمام لجان التحقيق، في ظل التجاهل الدولي لخطورة عملية الترهيب التي تقودها موسكو.
*****
مرّت البارحة الذكرى السادسة للمذبحة الكيماوية الكبرى في الغوطتين الشرقية والغربية، لم يحاسب حتى اليوم أحدٌ من مرتكبي هذه الجريمة، فيما يعاني الناجون منها والشهود عليها من أوضاع مأساوية بين التهجير والعيش تحت حكم قاتل أحبّتهم. ورغم توافر كل الأدلة، واتهام لجان التحقيق الدولية لنظام الأسد باستخدام السلاح الكيماوي، إلا أن المحاسبة لا زالت بعيدة جداً بالنسبة لنا، نحن أهالي ورفاق وأبناء بلد الضحايا، نحن الناجون من المذبحة والمفجوعون بها، الذين نعيش في عالم يشبه هذه المذبحة والصفقة الخسيسة التي أعقبتها، ونتجرّع كلّ يوم سمّ الخذلان بانتظار العدالة.