إذا كانت الأحزاب اليمينية في أوروبا على عجلة من أمرها فيما يتعلق باتخاذ إجراءات جديدة بحق اللاجئين السوريين، يرقى بعضها إلى مستوى المطالبة بترحيل أعداد منهم إلى سورية رغم بقاء نظام الأسد، فإن رئيس حزب منتدى الديمقراطية الهولندي، تييري بوديه، يسابق الزمن للحصول على موافقة البرلمان من أجل بدء الترحيل فوراً، ودون أي تأجيل.
لم يكن حزب منتدى الديمقراطية من الأحزاب ذات الأهمية الكبيرة في هولندا حتى مطلع العام 2019، إلا أنه فجّر مفاجأة كبيرة عندما قفز إلى الصف الأول متقدماً في انتخابات المجالس البلدية الأخيرة التي أجريت في آذار (مارس)، ليحتل 12 مقعداً في الغرفة الأولى، وهو عدد المقاعد ذاته الذي يحتله حزب VVD الذي يقود الحكومة الحالية، ويصبح بذلك من أكبر الأحزاب المنافسة في هولندا.
شكّلَ صعود حزب منتدى الديمقراطية وتقدمه السريع صدمة في الشارع السياسي الهولندي، ذلك أن طروحات الحزب تقوم على أفكار متناقضة كلياً مع الثقافة السائدة في هولندا، فهو يقف بشكل حازم ضد اللاجئين واضعاً هذا الموضوع في قائمة أساسياته، سواء في مسألة رفض قبول لاجئين جدد، أو في تركيزه على عدم منح الإقامة الدائمة لمن وصل هولندا وحصل على إقامة مؤقتة.
إضافة إلى ذلك، تلتقي إيديولوجيا الحزب مع أطروحات اليمين الأوروبي في مسألة التغيرات المناخية، ورفض المساهمة في البرامج الدولية التي تسعى للحد منها. وفي كلا الحالتين، اللاجئون والمناخ، يدّعي الحزب أنه بدلاً من صرف مبالغ كبيرة على اللاجئين، أو على مشاريع حماية المناخ، فإنه ينبغي صرف هذه المبالغ على التعليم والصحة ورفاهية المواطن الهولندي.
فضلاً عن ذلك، يدعم الحزب خروج هولندا من الاتحاد الأوروبي، وكذلك يقف مع روسيا ويدافع عنها حتى في أكثر الشؤون حساسية، مثل حادثة إسقاط الطائرة الماليزية فوق أوكرانيا في العام 2014، والتي كان على متنها 170 راكباً هولندياً. ورغم أن جهات مختصة هولندية قامت بالتحقيق والبحث المطول، وتوصلت إلى نتائج قاطعة حول مسؤولية روسيا المباشرة عن الحادثة، إلا أن الحزب يصرّ على تبرئة موسكو.
قد يبدو أمر ترحيل اللاجئين في ظاهره مجرد أوراق انتخابية وأدوات ضغط سياسية، لا يمكن أن تتحول إلى واقع بسبب حصانة القوانين الأوروبية وتركيبتها المؤسساتية المنيعة، بيد أن حصول رئيس الحزب المذكور على الأغلبية من أصوات البرلمان الهولندي قد يكون كافياً لتحويل هذا التصور النظري إلى واقع عملي، ما يدفع باتجاه التعامل مع هذا الطرح بمزيد من الجدية، بحيث لا يتم تجاهله أو إلقاؤه في سلة النسيان.
ويبني تييري بوديه دعواته بخصوص مسألة اللاجئين على القول بانتفاء أسباب اللجوء، باعتبار أن «سورية أصبحت آمنة» كما يقول، وقد «وضعت الحرب أوزارها، وتم القضاء على التنظيمات الإرهابية»، ولم يعد ثمة ما يعيق أو يبرر تأجيل تلك العودة، بل إن من واجب السوريين، كما يرى، العودة إلى بلدهم للمشاركة في إعادة إعماره!
وكانت أوضح تصريحات بوديه في هذا الشأن قد جاءت في جلسة للبرلمان الهولندي، تمت بناء على طلبه بهدف مناقشة موضوع إعادة اللاجئين في آذار/مارس الماضي، وقال فيها إن نسبة 95٪ من سورية باتت آمنة، معتمداً في ذلك على تصريحات وزير الداخلية السوري، ومطالباً بالبدء الفوري في عملية الإعادة.
وفي ردّهم على طرح بوديه، تجنب جميع أعضاء البرلمان الهولندي، بمن فيهم اليساريون، أي حديث عن الأسد وعن شرعية استمراره كرئيس لسورية، وعن مصير اللاجئين حال عودتهم، حتى أن أحداً منهم لم يتحدث عن أن جذر المشكلة السورية لم يُعالج ولم يُقتلع بعد، وبدَوا متفقين على أن الحديث عن سورية الآمنة أصبح من البديهيات السياسية، وأن ما ينقص فقط هو تقرير الأمم المتحدة المنتظر في بداية الصيف، فإذا أكد التقرير أن سورية بلد آمن، سيُتخذ عندها قرار الترحيل بالإجماع. وتُصدر الأمم المتحدة تقارير دورية بهذا الشأن عبر لجنة مختصة، وقد أكدت كل التقارير السابقة على استمرار حالة الحرب في سورية وعلى كونها بلداً غير آمن، والأرجح أن هذا هو السبب الذي دفع بوديه للمطالبة بإعادة اللاجئين دون انتظار تقرير الأمم المتحدة الجديد، لعدم ثقته بمطابقة نتائج التقرير لمشروعه حول اللاجئين السوريين.
غير أن بوديه، ومن ورائه الأحزاب اليمينية الأخرى، يحاججون الحكومة من زاوية مغايرة، فانتظار التقرير لعدة أشهر أخرى سيؤدي إلى حصول آلاف السوريين على الإقامة الدائمة في هولندا، وستصبح إعادتهم إلى بلدهم صعبة للغاية بحكم القانون، وبالتالي فإن الإسراع بالتنفيذ سيوفّر على هولندا كل تلك الأعداد من طالبي الإقامة الدائمة والجنسية.
فيما يتعلق بالإطار القانوني، تتبّعُ هولندا تصنيف المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، التي لا تزال تصنف سورية بلداً غير آمن، وحسب تصريحات رئيس اتحاد محاميّ اللجوء الهولندي فيل آيكلبوم، فإن ذلك يعني عدم السماح بإعادة اللاجئين بالإكراه، فاللاجئون السوريون هناك يحملون جميعاً تصريح إقامة لمدة خمس سنوات، ولكن إن تم تصنيف الدولة التي جاء منها اللاجئون على أنها آمنة، فبالإمكان تغيير الوضع القانوني لتصريح الإقامة، وبالإمكان سحبها.
بالطبع، ثمة استثناءات تتصل بوضع اللاجئ نفسه، إذا أثبت أنه مطلوب للنظام السوري، أو إذا كان طالباً أو لديه أي ظرف آخر يعطيه الحق في البقاء، غير أن رئيس الحزب لم يشر إلى هذه الاستثناءات، بل تحدث عن اللاجئين ككتلة واحدة لا تمايز بينها.
القضية هنا تتصل مباشرة بمحاولة اليمين إخضاع الحالة القانونية للأجندات السياسية، ولكن الأمر لا يتوقف فقط عند حجم المأساة التي يمكن أن يفجرها قرار مثل هذا بالنسبة للّاجئين السوريين، فثمة مأساة أخلاقية موازية تلوح في الأفق، وهي تتجاوز مسألة إعادة تأهيل الأسد إلى الترويج لانتصاره الأخلاقي أيضاً، وذلك بالاستناد إلى راديكالية بديله المفترض وتوجهاته الإسلامية، وإلى جرائم فصائل مناوئة للأسد، باتت تتحدث عنها الميديا الأوروبية تباعاً متناسية بالتدريج جرائم النظام.
الملفت في الأمر، أن كل الحجج والذرائع التي يسوّق لها رئيس حزب منتدى الديمقراطية، هي الذرائع ذاتها التي كان يروّج لها ويرددها أبواق النظام، وأهمها فكرة البديل، البديل الإسلامي المتشدد الذي اعتمده النظام لضمان إبعاد مؤيديه التام عن أي حالة تعاطف قد تربطهم بالثورة. ورغم هشاشة حجج النظام التي أوردها في هذا السياق، ورغم ما خلقته من حالة سخرية في الشارع السوري آنذاك، فإن الفكرة ذاتها اليوم اعتُمدت في أوروبا ويتم ترديدها على لسان كبار سياسيي اليمين جهاراً، واليسار مناورةً، بوصفها رواية لا تقبل الجدل، بدليل تخليهم عن المطلب الذي تم تكراره عبر سنوات، المتعلق برحيل الأسد، والذي لم يعد أحد من القادة الأوروبيين يعلنه، موجهين تركيزهم فقط على ضرورة قتال التنظيمات الإرهابية، وهو بالضبط ما يريده الأسد.
لم يكن خطاب اليمين الهولندي مقنعاً للرأي العام، ولم يكن له مساحة ثقة عند الجمهور الأوروبي باعتبار أن أصحابه شعبويون ومتطرفون، ولكن هذا التيار بدأ يكبر ويتعاظم، وأصبح تأثيره في الحياة السياسية أكبر من أن تخطئه عين المتابع، كما أنه مرشحٌ للمزيد من الهيمنة على القرار في أوروبا ومصادرة الرواية السياسية واحتكارها، والقدرة على نشرها وتثبيتها، بما فيها تلك المتعلقة بسورية، حيث تعتمد تلك الأحزاب رواية النظام بحذافيرها كمرجع وحيد عن الحدث السوري.
غير أن بوديه يسبق أبواق النظام بخطوات في الدفاع المباشر عن الأسد، ففي سياق تبرير دعمه له ولفكرة استمراره، لا يتوقف عند مسألة التخويف بالبديل الإسلامي الراديكالي، بل يضرب على ما يعتقده الوترَ الحساس في أوروبا، ولا سيما في هولندا، فيحذّر من دخول أردوغان إلى سورية إن سقط الأسد؛ هو يخاف على سورية من ديكتاتورية أردوغان، محاولاً من خلال ذلك استغلال الرأي العام الأوروبي المتفق أصلاً على دكتاتورية أردوغان، والمختلف على ديكتاتورية الأسد، في مشهد كاريكاتوري قلّ مثيله.
ربما تكون هذه من الحالات النادرة التي يستميت فيها حزب يحمل في اسمه كلمة الديمقراطية دفاعاً عن ديكتاتور، وهو نوع جديد من التناقض السياسي الفاقع، لكن عين كثير من الأوروبيين لا تراه نظراً للمسافة المعرفية الواسعة التي تفصلها عن المشهد السوري.
ليس ثمة خلاف على خطورة قرار ترحيل اللاجئين وكارثيته إن تم اتخاذه، ولكن الأخطر هو أن تنجح محاولات غسيل الأسد وتبييضه وترسيخ انتصاره الأخلاقي، بعد سجّل الإجرام الطويل الذي لا يزال مفتوحاً، والذي لا يمكن أن يُغلَق طالما بقي على رأس السلطة في دمشق. ويبقى أن البحث عن التفوق الأخلاقي للأسد لا يتوقف عند اليمين المتطرف، فكثير من القوى اليسارية تشارك اليمين النظرة ذاتها، أقلّه في موافقته على طي سجّل الإجرام وإغلاق ملف الأسد تماماً، الأمر الذي يساهم في انهيار منظومة القيم الأوروبية، خاصة تلك المتعلقة بالحرية والعدالة وحقوق الإنسان.