رغم كثرة التقارير الحقوقية والصحفية عن وقائع مذبحتي قرية البيضا وحي رأس النبع في بانياس السورية، إلا أن هناك تفاصيل كثيرة لم تروَ بعد، لا تزال حبيسة في ذاكرة شهود ناجين، يخشى حتى مقيمون خارج البلاد منهم من الخوض فيها علناً، خوفاً على من تبقى من ذويهم في المنطقة، وفي أحيان كثيرة لا تشجعهم حتى الطمأنة بأنهم سيكونون تحت حماية أسماء مستعارة.

ثمة أسباب وجيهة لهذا الخوف، فمسرح الجريمتين، الذي ما يزال على حاله المشوّه، محاطٌ بمناطق شارك كثير من أبنائها في أعمال القتل تحت راية «الدفاع الوطني»، وكثيرون من هؤلاء القتلة معروفون لدى سكان المنطقة، وما يزالون مقيمين في مناطقهم نفسها.

«الريس البحري» هو لقبٌ مستعارٌ لواحد من أبناء بانياس، غادر سوريا قبل المذبحة، وظل على تواصل مكثف مع أبناء المدينة. وهو يصف بانياس بالأنثى التي كانت معتقلة لوقت طويل، وتم اغتصابها في الثاني والثالث من أيار/مايو 2013، في أعمال القتل الجماعي والنهب في البيضا ورأس النبع، وصولاً إلى الاعتقالات المهينة في القريتين القريبتين من البيضا، المرقب وبساتين إسلام، أو «بساتين الأسد» حسب الشاخصات الزرقاء على أتوستراد طرطوس-اللاذقية.

قبل المذبحة بيومين، علم «الريس» باستعداد الأجهزة الأمنية لتنفيذ حملة في حي رأس النبع، دون سبب مباشر، وحالما حذر معارفه الكثر في الحي من البقاء، سارعت العديد من العائلات إلى محاولة الخروج، ليقوم حاجز الجسر المؤدي إلى القسم الغربي من مدينة بانياس، بمنعهم وإعادتهم إلى الحي، وتبدأ بعدها حالة من الترقب والقلق، خاصة مع توارد أنباء متتالية عن بدء قصف البيضا، ثم قتل من لم يستطع الهرب من أهلها، صغاراً وكباراً.

«سليم» هو اسمٌ مستعارٌ أيضاً، لواحد من سكان إحدى القرى المجاورة للبيضا، وهو يصف مشهد أعمدة الدخان الأسود التي ظلت لأكثر من يومين تملأ السماء جراء حرق البيوت؛ يقول: «تكررت مشاهد النزوح الجماعي لأهالي بعض القرى المتخوفة من مصير مماثل، نظراً لمشاركة مناطقهم في المظاهرات سابقاً، واعتقال المئات من أبنائهم منذ 2011. كانت وجهة النزوح مدينتي بانياس وطرطوس، ومن لم تسمح له الحواجز بالمرور كان يضطر لطلب مساعدة أهالي قرى أخرى لاستضافته. بعضهم لجأوا إلى كنيستي الحي المسيحي في البيضا وقرية المراح، والمؤكد أن أحداً من النازحين لم يفكر بالتوجه إلى قرية يسكنها علويون. كان العداء الطائفي يوم الثاني من أيار 2013 قد وصل مرحلة يستحيل بعدها التفكير في إمكانية التعاطي بشكل طبيعي بين السنة والعلويين. المذبحة تردد صداها المؤلم سريعاً، وخيّم الرعب إلى درجة أن أحداً منا لم يجرؤ على الاستفسار من أي نازح عما حدث. خشينا سماع حقيقة نعرفها».

تقول السيدة «أم محمود» عن بعض تفاصيل الحقيقة التي كان كثيرون يخشون سماعها: «توسلتُ كثيراً للقتلة بأننا أبرياء ولم نفعل شيئاً نستحق عليه الموت، وكان بينهم شابٌ بدا وجهه مألوفاً بالنسبة لي؛ استجديته كثيراً فنهرني بقسوة قبل اقتيادي مع أخريات. كانوا قد فصلوا زوجي وابني عني، وأبعدوهما إلى مكان آخر».

كانت هذه الأم ممن تظاهروا بالموت لحظة إطلاق النار، لكن هذه الطريقة لم تكتب النجاة لآخرين جربوها، إذ ذكر ناجون أن القتلة كانوا يعمدون إلى إشعال النار في العديد من الجثث المكومة التي يصعب التأكد من موت أصحابها بسبب كثرتهم. وبهذه الطريقة احترق الكثيرون أحياء، وكانت عذاباتهم تضج بالحركة على مرأى من قاتليهم. تعرفت أم محمود على ولدها المتفحّم من شقّ في ظفره لازمه منذ الطفولة.

بعد مذبحة البيضا جاءت مذبحة رأس النبع، ويذكر «الريس البحري» تفاصيل معرفته بوقائعها: «كنت في تواصل مباشر عبر الإنترنت مع اثنين من معارفي في رأس النبع في اليوم المشؤوم. كان التواصل مليئاً بالجزع وطلب الدعاء، ورواية ما شاهدوه من النوافذ، وتحديد هويات الأشخاص الذين سُمعت أصوات صراخهم قبل أن يصمتوا إلى الأبد. كان تواصلي معهم ينقطع بمجرد قولهم: “عم يدقوا بابنا.. ادعيلنا”. لحظات عجز لا يمكنني وصفها وأنا أعلم أن دعائي لن يحمل الطمأنينة إلى قلوبهم، ولن ينقذهم من فتك الرشاشات والأسلحة البيضاء والحرق».

تم توثيق وقائع المجزرتين وأعداد الضحايا فيهما ووقائع الأيام اللاحقة لهما في عشرات التقارير، التي أجمعت كلها على أن جميع من طالتهم أيدي عناصر ميلشيات النظام قد قتلوا، رجالاً وأطفالاً ونساءً، حتى أن عنوان تقرير هيومان رايتس ووتش عن المذبحة كان «لم يبقَ أحد».

شهدت الأيام التي أعقبت المجزرتين خروجاً آمناً وسالماً لعشرات البرادات والغسالات والأدوات المنزلية الأخرى من بيوت رأس النبع والبيضا وبساتين إسلام، إلى القرى المجاورة التي اشترك العديد من أبنائها في القتل الممنهج، فضلاً عن 67 معتقلاً في قرية بساتين إسلام ما زال مصيرهم مجهولاً.

youtube://v/JgMP3dGO3pU

تم إقفال الملف إعلامياً بزيارة محافظ طرطوس وجهات حزبية وأمنية لقرية البيضا بحضور الإعلام الحكومي وشبه الحكومي، حيث انقضَّ مراسل تلفزيون الدنيا على أحد الأهالي العائدين، أو المجبرين على العودة لتمثيل دور ما، وأرغمه دونما جهد على استعادة الرواية الحكومية أمام الكاميرا، تلك الرواية التي يحفظها السوريون جميعاً، على اختلاف انتماءاتهم، ويمكنكهم سردها غيباً دونما تلقين، مصحوبة بالهتاف للجيش والقائد.

في تشرين الثاني/ نوفمبر 2013، شهدت البيضا زيارة رسمية أخرى، هذه المرة بحضور مفتي البلاد أحمد حسون، الذي جاء حاملاً رواية أُريد لها أن تكون مؤثرة، وعنوانها العريض كان المصارحة فالمسامحة فالمصالحة. وفي تفاصيل الحكاية أن حسون زار قتلة ابنه سارية في السجن، وسمع اعترافهم، وسامحهم، ومن هنا دعا أهالي بانياس إلى التسامح مع بعضهم بعضاً!

يوضح أحد الإعلاميين الذين واكبوا زيارة المفتي أن الزيارة جاءت أساساً بعد أحداث قرية المتراس السنية في ريف صافيتا، طرطوس، والتي لم تتطور أحداثها الى مذبحة، حيث تعرض أبناء القرية لحصار واعتقالات بتهمة إيواء أفراد من فصائل معارضة لجأوا إليها من حمص. يقول الإعلامي: «استقبل أهالي المتراس المفتي بلهفة شاكرين له “وساطته” لإطلاق سراح عدد من أبنائهم، متوسلين إليه التدخل للإفراج عن الباقين. هتفوا للدولة كما لم يهتف المؤيدون في ساحة السبع بحرات بدمشق، ورشوا أرزاً كثيراً على الضيوف، وعندما قالت إحدى الأمهات الباكيات لوفد الإعلاميين: “الله يحميكن”، رد عليها أحد الزملاء: “الله يحمينا منكن”، وانفجر الجميع بالضحك».

يضيف الإعلامي: «كانت البيضا هي المحطة الثانية في الجولة. بلدة خصبة ذات إطلالة جميلة، لا ينقصها إلا السكان. بيوتها محترقة من الداخل ولم يبدُ أن أي جهد قد بُذل للترميم. أبدت إحدى الإعلاميات إعجابها بالطبيعة هناك، مع عبارة تعجب “حدا عندو هيك جمال بيعمل هيك ببلدو؟”. حالما وصل الجميع الى ساحة البلدة، بدأ الإعلاميون الذين رافقوا الزيارة الرسمية الأولى إلى المنطقة باستعادة مشاهداتهم وروايتها أمامنا، ومن ذلك، عشرات الجثث لـ”الإرهابيين الأجانب” التي تم إحراقها في أحد المحلات التجارية. أحدهم كان أكثر تحديداً حين قال: “كانوا شيشاناً وأفغاناً”. تجرأت إعلامية أخرى على سؤاله من باب المشاركة في الحديث، لا التشكيك: “كيف عرفت جنسياتهم؟”، فردَّ المراسل: “كانوا شقراً”، علماً أن هذا المراسل أشقرٌ أيضاً. تساءلتُ كثيراُ في نفسي عمّا إذا كانوا يصدقون ذلك من كل قلبهم، أم أنهم مستعدون لتصديق أي شيء يُملى عليهم. كنتُ وما زلتُ أميل إلى التفسير الثاني، فهم غير معنيين بالحقيقة ولا بالعدالة».

يروي الإعلامي أيضاً كيف امتلأ مسجد البيضا بالحضور الرسمي وعناصر الأمن وأعضاء من مجلس الشعب ممثلين عن بانياس، لسماع محاضرة المفتي. سيدتان محجبتان ترتديان الأسود كانتا المكون المدني الوحيد في المشهد، تجلسان بعيون خالية من أي تعبير. تمسك إحداهما ورقة فيها أسماء ذكور فُقدوا او اعتُقلوا، كانت تنوي تسليمها للشيخ الضيف. يقول: «بدا الارتباك على المفتي في هذا الحرم المنكوب، رغم كل الحضور الذي يفترض أن يطمئنه. افتتحت الجلسة بتلاوة قرآنية بلسان ابن الشيخ المقتول عمر بيّاسي، الذي سرت أنباء عن قتله على أيدي الشبيحة في المجزرة ذاتها. حالما انتهى الابن من التلاوة أجهش بالبكاء، فنهض المفتي محتضناً إياه وشاركه ببعض الدموع. كان مشهداً مُهيناً وقاسياً».

يضيف: «بعد كلام المفتي في مسجد البيضا عن التسامح والتسامي عن الضغائن، تقرر إلغاء محطة رأس النبع دون إيضاح السبب، والتوجه فوراً الى المركز الثقافي في مدينة بانياس، حيث تم تجميع الجمهور العريض المُحابي للشيخ الذي أتى ليمسح جروحهم ويطمئنهم إلى أن الإسلام بريء من الارهاب، وأن السوريين مدعوون بـ”حكمتهم” إلى مصارحة بعضهم بعضاً بالأخطاء، ثم المسامحة والمصالحة… إلخ. كان كلامه يحمل اعترافات مبطنة بالجريمة التي شارك فيها شباب من القرى المجاورة للبيضا ورأس النبع، لأنه إذا كان الإرهابيون الأجانب هم من ارتكبوا المجزرة، فما حاجة البانياسيين إلى المصارحة ومسامحة بعضهم بعضاً؟ وإذا كانت الحقيقة واضحة وحاسمة كما ادعى الإعلام الرسمي، ولم يقم أي سوري بقتل أخيه السوري، فبماذا سيتصارحون أصلاً؟».

يستذكر الإعلامي أيضاً حملات التأييد لبشار الأسد في طرطوس قبيل الانتخابات الرئاسية عام 2014. يقول: «تزامنت هذه الحملات مع الذكرى السنوية الأولى لأحداث البيضا. درجت العادة أن ينظم حزب البعث هذه الحملات لإظهار “شعبية” الأسد أمام منافسيه الشكليين، فكان أن اختيرت منطقة وطى البيضا الزراعية أدنى القرية المنكوبة لاستضافة إحدى هذه الفعاليات، على سبيل التنويع الطائفي في هذه الحملات الاحتفالية الجوالة، وإمعاناً في إهانة القرية الجريحة.

وبينما كان المسؤولون ومراسلو الإعلام السوري حريصين على عدم تفويت أي فعالية من هذا النوع، إلا أن أغلبهم امتنع هذه المرة عن تغطية الحدث، لاستخفافهم بأهالي المنطقة عموماً. لم يوجد بين الحضور بالطبع أحد من أهالي البيضا الذين لم يكن مسموحاً لهم بعد بالعودة وإصلاح منازلهم، وإنما كان الحضور مكوناً من بعض مسؤولي الصف الثاني أو الثالث حزبياً وحكومياً، وبعض المشايخ وأبناء وطى البيضا البعيد قليلاً عن موقع الحدث، إضافة إلى أبناء قرى أخرى مجاورة، وأغلبهم فتيان بسطاء في مقتبل العمر، راحوا يسألون فور وصولهم عن “البفلات” التي ستبثّ الأغاني من أجل الدبكة».

بعد ست سنوات على أيار الأسود، يستبعد «الريس البحري» أي تسامح حقيقي بعيد الأمد في بانياس، ما لم يُعاقَب مرتكبو المجازر العقاب المستحق. ويقول: «ما حصل في البيضا ورأس النبع، كما في كثير من المدن والقرى السورية، أكد أننا لا نتعامل مع دولة مؤسسات، بل مع عصابة يقوم نظامها على الدم، وتكريس الخوف والأحقاد الأبدية. كنّا نعيش في وئام مع العلويين قبل هذه الأحداث، لكن كثيرين منهم كشفوا عن حقد بدافع الخوف، الخوف حتى ممن كانوا يشاركونهم الطعام والأفراح والأتراح. لقد صدّقوا بسهولة أننا أعداؤهم، وذبحوا عشوائياً عائلات بالكامل بذريعة الردّ على مجموعة صغيرة حملت السلاح في أحد أحراش القرية».

يرى «الريس البحري» أن المنطقة ستشهد ذات يوم عمليات انتقامية من القتلة حتماً، لأن أكثرهم معروفون بالاسم ومكان السكن، وإذا لم يتم تقديمهم إلى العدالة، فلا أمان لهم في بلدهم. يؤكد: «لا يمكنك تخيل أن شخصاً فقد كل عائلته يمكن أن يتحمل جحيم الحياة طويلاً دون قصاص عادل».