تحمل المنطقة المعروفة بـ«الإيكاردا» في ريف حلب الجنوبي هذا الاسم، نسبة إلى «المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة»International Center for Agricultural Research in Dry Areas – ICARD. ، الذي كان مقرّه الرئيسي في الشرق الأوسط موجوداً هناك قبل اندلاع الحرب في سوريا. وقد شاع اسم الإيكاردا في سياق الحرب السورية بسبب موقعه الاستراتيجي المطلّ على طريق حلب دمشق الدولي، وبسبب المعارك العنيفة التي اندلعت في محيطها خلال مراحل متعددة من الحرب.
وكانت مؤسسة إيكاردا قد نقلت أعمالها من لبنان إلى سوريا عام 1977، إثر اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، واختارت الريف الجنوبي لمدينة حلب، وبالتحديد قرب قرية تل حديا، ليكون مقرها الرئيسي في الشرق الأوسط. ويعود ذلك الاختيار لأسباب تتعلق بالمناخ والتربة، أهمها ارتفاع المنطقة عن سطح البحر والهطولات المطرية الغزيرة وتنوع الأتربة، ما أهلها لتكون موقعاً مناسباً لأبحاث المركز الذي يهتم بتطوير المحاصيل في المجتمعات الزراعية النامية.
ولإيكاردا مكاتب إقليمية ومراكز أبحاث في الأردن ومصر ولبنان والمغرب وتونس وتركيا وأثيوبيا، إضافة إلى مراكز تتوزع على أربعين دولة حول العالم بالتعاون مع برامج وطنية في هذه الدول. وتتبع المنظمة للمجموعة الاستشارية للبحوث الزراعية المستقلة، التي يشرف عليها مجلس أمناء مستقل.
مع بداية الحرب السورية، وفي عام 2012، تم نقل جميع المعدات باهظة الثمن الخاصة بإيكاردا من سوريا إلى دول أخرى، وأرسل القائمون عليها نُسخاً من كافة بيانات التسجيل الخاصة ببنك الجينات الزراعية إلى بنك جينات «سفالبارد» في النرويج، وإلى بنوك جينات أخرى حول العالم، فيما تم نقل المقرّ الرئيسي لإيكاردا من حلب إلى مدينة الرباط في المغرب، كما تم إطلاق بنك «تربل» في لبنان في عام 2016، الذي يستضيف عشرات الآلاف من البذور اليوم، ليكون بديلاً عن البنك الذي كان موجوداً في مركز سوريا.
ويُعدُّ ريف حلب الجنوبي، وعلى وجه الخصوص منطقة الإيكاردا والقرى المحطية بها كالعيس وتل حديا ورسم الصهريج والزربة، السلة الغذائية الرئيسية لمحافظتي حلب وإدلب، إذ يضم عشرات آلاف الهيكتارات من الأراضي الزراعية البعلية والمروية. وفي عام 2014، كانت فصائل المعارضة تسيطر على معظم ريف حلب الجنوبي، إلا أن قوات النظام استعادت السيطرة على أجزاء واسعة منه في أوقات متفرقة منذ نهاية 2015 وحتى بداية 2018، أهمها تل الضمّان والحاضر وجبل الحص.
لا تزال فصائل المعارضة تسيطر على منطقة الإيكاردا اليوم، ويستثمر في أراضيها والأراضي المحيطة بها عدد من السكان المحليين، بعد أن شهدت المنطقة حالة من الاستقرار النسبي خلال العام الماضي؛ في حين تسيطر قوات الأسد وميليشيات مرتبطة بإيران على مساحات واسعة متاخمة للمنطقة، وهي كانت قد وصلت في العام 2016 إلى تخوم الإيكاردا بعد سيطرتها على قرية العيس المجاورة، قبل أن تتمكن الفصائل من استعادة القرية في نيسان من العام نفسه.
محاولات حثيثة لتفعيل الإيكاردا من جديد
مع بداية العام الجاري 2019، قام عدد من المهندسين الزراعيين السوريين بتأسيس «تجمع التنسيق الزراعي في منطقة إيكاردا»، بهدف تفعيل القطاع الزراعي في ريف حلب الجنوبي عامة، ومنطقة إيكاردا بشكل خاص، لتكون نواة لتحقيق الاكتفاء الذاتي بشقيه النباتي والحيواني، وتحسين سبل العيش لسكان المخيمات المحيطة بالمنطقة. ويضم التجمع عدداً من المهندسين الزراعيين والخبراء الفنيين والإداريين المختصين في الشأن الزراعي، أغلبهم من الذين تركوا العمل في مؤسسات النظام الحكومية بعد قيام الثورة.
يرأس المهندس الزراعي مجد حاج عمر هذا التجمع، كما أنه يشغل موقع مدير قسم الأعلاف في منظمة وحدة تنسيق الدعم/ACU، ويقول في حديث له مع الجمهورية إن أولويات التجمع تكمن في «التواصل مع الهيئات والمنظمات والفعاليات المدنية داخل سوريا وخارجها، وتوجيه أنظارها الى منطقة إيكاردا، إضافة إلى توعية المزارعين ومساعدتهم للبقاء في أراضيهم، وتنشيط القطاع الزراعي في ريف حلب الجنوبي، والعمل على تطوير الإنتاج الزراعي بما يساهم في تحقيق الأمن الغذائي، إضافة الى ضمان سبل العيش للفلاحين، سواء المقيمين في قراهم أو المهجرين في المخيمات، وتمكين المرأة الريفية لتكون قادرة على تحمل جزء من الأعباء الاقتصادية».
وفي سبيل ذلك، قام التجمع بالتواصل والتنسيق مع مؤسسة إكثار البذار العاملة في مناطق الشمال السوري الخارجة عن سيطرة النظام، وذلك بهدف القيام بجولات كشفية على الأراضي الزراعية في منطقة إيكاردا، تم بعدها اختيار ثلاثة قطع من الأراضي التجريبية، تبلغ مساحتها ما يقارب عشرين هكتاراً، والقيام بعمل أولي هو زراعة ثلاثة عشر صنفاً من القمح الإكثاري بهدف الحفاظ على الأصناف المحلية في سوريا، والحصول على بذار قمح ذات نقاوة صنفية مرتفعة وجودة عالية، بالإضافة إلى زراعة الشتول ضمن البيوت البلاستكية، وعلى وجه الخصوص شتول الخيار والبندورة من نوع «ألكروا هجين»، وشتول الجبس من نوع «أمبالا هجين»، في الأراضي المخصصة لذلك.
كذلك قام التجمع بزيارة عدد من المجالس المحلية، وخصوصاً في القرى والبلدات المحيطة بمنطقة إيكاردا، مثل العيس وتل حديا ورسم الصهريج، من أجل تعزيز التواصل والتعاون معها في سبيل خلق فرص عمل للسكان، والحصول على إحصائيات عن أوضاعهم سواء في القرى أو في المخيمات المحيطة بإيكاردا، بالإضافة الى تنفيذ عدّة ندوات توعوية في هذه المناطق، تمحورت حول أهمية الأسمدة ومكافحة الأعشاب الضارة لمحصول القمح، بحسب الحاج عمر.
البداية من الصفر
يقول رئيس التجمع إنهم عندما شرعوا في العمل، كانت منطقة الإيكاردا فارغة من أي شيء يمكن الاستناد إليه، وهو ما أدى إلى الانطلاق من «نقطة الصفر»، بدءاً من رسم المخططات الكروكية الزراعية ومخططات البنى التحتية، إضافة إلى توصيف المواقع وغير ذلك من الأمور الإجرائية، وتقديم الدراسات والمشاريع للمنظمات والمؤسسات الداعمة، التي لم تُبدِ أي استجابة حتى اللحظة
يأمل القائمون على التجمع، من خلال الاتصالات التي يجرونها مع مركز إيكاردا الدولي، استعادة الدعم اللوجستي والبحثي في المنطقة، ويرى المهندس الزراعي أحمد الأحمد أنه لإعادة تفعيل الإيكاردا أهمية بالغة على الواقع الزراعي في المنطقة، لما لها من دور في «تحسين الأصناف الموجودة، واستنباط أصناف جديدة مقاومة وذات إنتاج عالي وبشكل مستمر ودائم»، مؤكداً أنه في حال نجاح هذه المساعي، فإن هذا «سينعكس بشكل إيجابي على الواقع الزراعي في المنطقة ككل، ويوفر العديد من فرص العمل ويدفع نحو التنمية الزراعية والاقتصادية». ويشرح الأحمد ذلك من خلال مثال هو التالي: «بعض المزارعين يقومون بتخزين البذار اللازم للسنوات القادمة من إنتاجهم المحلي، وهذا يؤدي إلى ظهور صفات سلبية للبذار بعد عدة سنوات من زراعته، ومن ثم يتدهور الصنف، وهو ما ينعكس بالتالي على ضعف الإنتاج. حالياً تقوم مؤسسة إكثار البذار بتحسين الأصناف الموجودة، لكن هذا ليس كافياً».
يقول الأحمد إن هناك «غياباً للرقابة، وغياباً للمخابر اللازمة لفحص البذور المستوردة المنتشرة في الأسواق، التي يعتمد عليها المزارعون في المنطقة، ولفحص الأسمدة والمبيدات التي يأتي أغلبها قليلة الفاعلية وبمواصفات متدنية، فضلاً عن انعدام الدراسات الجدية حول الأمراض المنتشرة وطرق علاجها ومقاومتها، وهو ما كان مركز إيكاردا يلعب دوراً كبيراً في إنجازه في السابق».
ألحقت الحرب السورية أضراراً فادحة بالقطاع الزراعي، وصلت خسائرها إلى ما يزيد عن 16 مليار دولار بحسب تقرير نشرته منظمة الأغذية والزراعة في الأمم المتحدة (الفاو) في نيسان 2017، إلّا أن التقرير كان قد أشار أيضاً إلى إمكانية دفع قطاع الزراعة إلى الأمام بما يساهم في تقليل الحاجة للمساعدات الإنسانية وتخفيض نسبة الهجرة، وهو ما يسعى «تجمع التنسيق الزراعي» لتحقيق جزء منه بإمكانيات متواضعة، كما يسعى إلى لفت النظر لأهمية استعادة مشروع الإيكاردا، في سبيل تحقيق الأمن الغذائي والاكتفاء الذاتي في المنطقة.