كان الرواي قد طلب مني أن أكتب هذا النص تفسيراً لكوابيسه، لكنه رغم ذلك سيحشر أنفه في السرد كلما رغب، فهذا السرد يتضمن شكوكه ومخاوفه، التي قد تكون أنت جزءاً منها، أو قد لا تكون؛ فإذا اشتبه عليك الأمر، وشعرت أن فيك النزعة ذاتها إلى الشك، فإن ذلك قد يكون متعمداً، أو قد لا يكون.
لو كان الإنترنت رجلاً لقتلته.
عدوى الشبه
يتكاثر الشبه حولك بالعدوى، فيكفي أن يكون في المكان جثة واحدة مصابة حتى تتوالى النُسخ؛ فالمرض هنا ماهويٌّ لا يقتصر على الجسد فحسب. مخيفٌ هو ذاك الشبه؛ رغم الاختلاف الطفيف الذي أصرت عليه [مكنة التصنيع] ساعةَ الخلق؛ اختلافٌ وظيفي، وليس جمالياً بحتاً.
الجلد ذاته، مرصوصٌ على جماجم يختلف حجمها وبناؤها؛ الطبيعة النسيجية ذاتها لحبال الصوت، بتردادت يختلف وقعها؛ التجعدات شبه المتقرنة ذاتها في نهايات الأصابع، ببصمات غير موحدة.
مكنةُ التصنيع ليست وحدها في دائرة التكرار الموحشة للقصة الأصل، ففي كل عصر وكلاء احتكروا دور الآلة لأنفسهم على كوكبنا الجميل المدعو بالأرض؛ استثمروا في الشنيع؛ في رُهابنا من العزلة.
«أشتاقُ إلى العزلة، غير أنه لا طاقة لي بها».
كابوس رقم 1
الصورة أعلى شاشة الهاتف يشوشها البيكسل؛ المتصل يدعى Dad؛ لكن الشخص الذي في الصورة ليس أبي حتماً، فلحية أبي لم تكن بيضاء منذ ثلاث سنوات.
قرية كونية
كانت الجنة، أو كما يُسمّيها المؤمنون بوجودها، لتكون النسخة الحقيقة عن ما نسميه القرية الكونية اليوم، غير أن آدم آثر اللحاق بحواء لأكل ما حُرِّم عليهما؛ هو الآخر كان خائفاً من العزلة، فماذا لو سقطت وحدها من ذاك الشاهق؟!. طُرِدا عقاباً على ثورتهما، وطُردنا نحن كذلك. خُلقنا مختلفي الشكل كي تميزنا [مكنة التصنيع] في حال تكررانا الثورة، فنُحاسَبَ كلٌّ على وزره المستقلّ، ثورته.
أبدعنا في تتبع خطوات الأصل مذّاك، ابتعدنا عن الخطيئة التجريبية، كلٌّ بمعاصيه الشخصية، مستهلكين نصيبنا من «الحرام» المعرفي لدرء الوحدة عن أنفسنا؛ وحدةٌ شخصيةٌ كذلك.
وكما كل المطرودين من نعيم ما، كان لا بدَّ لنا من نسخة دنيوية عن العالم القدسي؛ قرية كونية بمعايير بشرية، نرمم من خلالها شوقنا للعلوي، حيث لا أحد يعيش وحيداً، على أمل أنه لا عزلة في الجنة.
استثمروا في خوفنا، ثُرنا، فكانت الشبكة العنكبوتية إحدى النُسخ؛ كل ما تحتاجه لتكون فرداً في القرية هو هاتف ذكي، أو حاسوب، والقدرة على الاتصال بالإنترنت. أما المحرومون من نعيم التكنولوجيا فلا نصيب لهم من التلاحم، لم يثوروا بعد، فيستحقون لذلك البقاء على دكة المطرودين.
كابوس رقم 2
ترسل أمي صورة لوجهها عبر الماسنجر، وجهها مرتاح، لا بدّ أنها قد استعادت القدرة على النوم أخيراً. تتبعها سلسلة من الصور غير المفلترة، من الواضح أنها أُرسلت بالخطأ؛ عينان جاحظتان، لا يردعهما عن ترك الجمجمة غير افتقارهما لفكر مستقل، يصمدان في المحجرين كثقب أسود مبلوع. هو الأرق الذي لن ينتهي إلا يوم القيامة.
حدود لينة
على عكس الحدود الجغرافية في العالم اللّافتراضي، الذي اعتدنا أن نصفه بأنه واقعي وحقيقي، قبل أن تخسر هاتان الصفتان جدواهما جرّاء تظافر كل أنواع الشك، يمنح العالم الافتراضي، العالمُ الضدُّ الخالي من الحقائق المُلزمة، مواطنيه حقاً متساوياً بالمواطنة والاشتباك مع مساحاته الرقمية.
حدود العالم الافتراضي تخريبية، تأتي على الجغرافية بمرونتها المطلقة، فها نحن اليوم قادرون على العبور إلى أي مكان في العالم دونما «باسبور»، مستبدلينه بـ «باسوورد»، تحمينا هوياتياً، تحمي انقلاباتنا على كل أشكال الفصل القائمة على القوة، التي يمتلكها مكان ولادتك، حكومتك، دولتك، نظام السلطة الذي تعترف به أو أُجبرت على الاعتراف به، والتي تحدد عادة مسار حركتك، مثل تلك المكنة العُلوية تماماً.
كابوس رقم 3
كولاج من الصور الفيسبوكية السريعة جداً، تتباطأ، وتنتهي بـ «زوم» على رجل وحيد على سطح الكرة الأرضية؛ يسقي شتلة، وثمة حبلٌ مرخي يتدلى من رقبته، منتهياً بعقدة مربوطة حول سويقة الشتلة. ينوي الانتحار على مهل، لأنه قد يجد آخرين مع مرور الوقت.
«لا شيء يحدث. لا أحد يأتي، لا أحد يذهب. إنه أمرٌ مريع».
الوجود التخريبي
أنا أثور، إذن أنا موجود.
في الرخاوة الافتراضية يفقد الديكتاتور سطوته، فهو ليس قادراً على فرض العزلة كنظام حكومي على المواطنين. في الثورات على الأرض، أي في العالم «الحقيقي»، بإمكان رجال الأمن سجنك، قمعك، عزلك في زنزانة منفردة حتى تفقد بقايا عقلك التي حافظت عليها رغم الحصار المفروض على كل ما هو جماعي، تلاحمي؛ الحصار الذي منهجه إِعزِل تَسُد، والذي لا يقوم على الفردانية طبعاً، بل على وحدة الفرد.
في زاويتك من الشبكة العنكبوتية، مستغلاً فُتحاتها المطلة على الواقع، باستطاعتك أن تخلق لنفسك هوية مختلفة، حساباً «وهمياً»، وكأن وجودك الواقعي ليس وهماً شَكَّلَهُ الـتأكيد المتكرر على أنك حقيقي فحسب؛ هناك تُنادي بالتخريب، بإسقاط الرئيس، تتضامن مع السترات الصفراء وتهلل للثورة في السودان، أنت لست وحيداً، أنت في قرية كونية، تعايش قمعاً كونياً، وثورات ضد القمع، كونية كذلك.
كابوس رقم 4
تم حذف الرسالة، تم حذف الرسالة، تم حذف الرسالة، تم حذف الرسالة، تم حذف الرسالة، تم حذف الرسالة، تم حذف الرسالة.
سبع رسائل واتساب محذوفة من قبل المرسل، الحبيب، متتالية زمنياً.
هل كانت الرسالة «أحبك»؟
آثار جانبية
فيما قد تنجو أو لا تنجو في العالم الحقيقي، لا احتمالات في العالم الافتراضي، أنت ناج لا محالة، فالجميع أبطالٌ قادرون على التغلب على الزنزانة، الشرطة، والشتات؛ الجميع قادرون على أن يخلقوا ذواتهم مراراً.
ولأن النجاة ليس سياسة فحسب، بل هي بشرية غريزية أيضاً، فإنه ينجم عنها هوسٌ لصيقٌ تختلف حدّته من شخص إلى آخر، فها نحن لسنا قادرين على التخلي عن قدراتنا الخارقة في التخريب، في السخرية من العجز الذي يفرضه الواقع، وها نحن نتحول إلى أنصاف آلالات.
أقرب ما يكون إلى قصة خيال علمي، نحن نُسخٌ تعمل بنظام الأندرويد؛ وأقرب ما يكون إلى النبوءة، ففي أحد تعاريفه، الأندرويد هو روبوت له شكل بشري؛ من منا يستطيع التخلي عن هاتفه، أو حاسوبه، أو إيقاف الانترنت. أي شعور بالوحدة سينجم عن هذا التخلي.
كابوس رقم 5
هاتفي يسقط، يتحول إلى أشلاء، لا أستطيع الولوج إلى الإنترنت.
اللابطل
الراوي هو الآخر يعمل بنظام الأندرويد ولا يستطيع التخلي عن هاتفه أو حاسوبه، فكلاهما باتا جزءاً من تركيبه الخلوي تقريباً. وهو إذ يحمل نزعة تشكيكية في مفهوم البطولة، ويقاوم العزلة في نسختها المبنية على الحقيقة الجافة كمسلّمات، يعتقد أن في استخدام الشبكة العنكبوتية نيةً مبطنة، يقبع خلفها موظف ماركتينغ من الصف الأول، للالتصاق بهذا العالم وتركه يُغلّفك لتنسى أنه ليس كلي القدرة. فعلى الرغم من أن كل فكرة في هذا العالم حقيقةٌ شخصيةٌ مصدرها الإيمان بأنها كذلك، غير أن أن الأفكار كلّها حقائق مسطحة، قاصرة وغير مكتملة حسياً، فهي لا تُنصف الذاكرة، أو أنها قد تتراخى أمامها أو تنحل في ثغراتها، تهددها المرونة التخريبية ذاتها، وانقطاع أو ضعف شبكة الإنترنت القسري.
البيكسل مثالاً
في مكالمات الفيديو إشباعٌ من نوع ما، فهي ترأبُ مسافة جغرافية أنت مجبر على عدم قطعها عكسياً، كلاجئ أو هارب من حرب، ليس فقط لأنك لا تريد، بل لأنك خائف من الزنزانة المنفردة التي قد تتسلمك ما أن تطأ الحدود.
ولكن البيكسل، أو التشوه الذي يصيب الصورة أثناء المكالمة بسبب ضعف في الإنترنت، مُخرّباً الدقة العالية لبطولتك الرقمية، هو صحوة على هيئة فجوة زمنية، تحضر من خلالها آخر اللقاءات الفيزيائية المُخلَّلة في الذاكرة، اللقاءات الأخيرة التي كنت فيها تستطيع توظيف حواسك كلّها بما في ذلك اللمس والشم. عبر فجوة البيكسل، تندمج صورة الأشخاص كما كانت عليه في وقت مضى، مع صورتهم الآنية المشوهة خلال المكالمة، ومع صورتك التي أنت عليها جرّاء التشوه ذاته. وخلافاً لما تظهره الصورة غير المبكسلة التي لا تنبه عينك، فأنت تشعر أن شيئاً لم يتغير.
في الحرمان من مواكبة تغيير ما، كالبياض التدريجي الذي يغزو لحية الأب، عزلةٌ من نمط آخر.
الحذف مثال آخر
حذف الرسائل، خاصية تتيحها بعض التطبيقات، تشبه نوعاً ما الفلتر. وبينما للأخير وظيفة تجميلية، تتجاوز حدود ظرافة المظهر إلى تنقية العيوب، في سعي للحصول على تقبل الآخرين، لفت أنظارهم، أو الانتماء إليهم تبعاً لما هو رائج من إكسسوارات رقمية تزينية، فإن الحذف فضاء لا أحد مُسيّر فيه، حيث يمكن للخطّائين التراجع عن ذنوبهم، هفواتهم، رسائلهم المعادة التوجيه، أو المرسلة دون أو عن قصد.
أليست القدرة على محو الأخطاء مطلباً بشرياً منيعاً على الإنسان في كل حيز باستثناء ذلك الافتراضي، وبسبب هذا يضطر إلى مواجهة عقوبة أو إلى دفع كفارة، يمكن أن تكون مستحيلة الإيفاء أحياناً.
في غياب التسامح أو القدرة على التغاضي عن الخطأ، الغفران، أو قابلية الاستفسار عن المحذوف؛ ألن يكون الشخص على الضفة الأخرى ممّا تم حذفه في عزلة مع احتمالات لا متناهية عن ماهية الخطأ المحذوف، أو أمل كاذب في تعاطف مُختلق، مثل «أحبك» مفترضة في علاقة حميمة منتهية الأجل.
كلمة أخيرة للراوي: كبطل مُرهَق، أجترّ قواي الخارقة يومياً لمواجهة رُهابي؛ فمن منظور عزلتي، ليس هذا الكوكب سوى الأرض الصفر، مكانٌ تروعُ أغلبَ قاطنيه قنبلةٌ من وحدة وعَبَث.