«أنا من طول عمري ما بحب الخبز السياحي، لا بيشبّع ولا طيّب» يقول أبو فاضل، أحد المُهجّرين من ريف دمشق، والذي يقطن الآن في مدينة غازي عنتاب جنوب تركيا. يعرف أبو فاضل أن الخبز السوري الموجود في هذه المدينة البعيدة عن بلدته هو نفسه الخبز السياحي الذي لم يكن يحبّه في سوريا، لكن هذا الاكتشاف لم يكن مُهماً بالنسبة له حتى سألته عن الأمر؛ صَمَت، ولم يكن ظاهراً أنه يريد المتابعة في الحديث حول هذا الموضوع، «كنت مفكر بدك تسألني عن يلي صار فينا حتى وصلنا لهون»؛ صمتُّ أنا هذه المرة.
في تركيا التي استقبلت ثلاثة ملايين ونصف المليون من اللاجئين السوريين، ازدهرت بشكل متسارع صناعاتٌ تُلبّي طلب السوريين على المنتجات الغذائية السورية، ورغم أن تداخل المطعمين التركي والسوري في كثير من الأطباق يُفترَضُ أن يجعل التعود على مأكولات جيراننا أمراً سهلاً، إلا أن ذلك لم يحصل في الحقيقة.
على العكس من ذلك، جرى الاحتفاء بالفروق التي قد تكون صغيرة للغاية، وهو ما ساهم في تعزيز مكانة الخبز السوري. وفي الوقت نفسه كانت تلك الفروق الصغيرة أو الكبيرة في إنتاج الطعام مركزيةً في إعادة إنتاج هوية السوريين في تركيا، وهي أيضاً دليلٌ على الرغبة بعدم التفاعل. بالنسبة لكثيرين هنا، السوريون ضيوف سيرحلون قريباً، وبالنسبة لكثير من السوريين خلال السنوات الأولى، كانت تركيا ملجأً مؤقتاً، إذ سنعود قريباً إلى سوريا. أولئك الذين يأسوا من ذلك باكراً كانت الهجرة إلى أوروبا طريقهم الرئيسي، بينما علقَ اللاجئون السوريون في تركيا في منزلة غير واضحة، إذ لا يبدو على كثيرين أنهم قرروا الاستقرار في تركيا نهائياً، ورغم ذلك أنشأوا مطاعمهم الخاصة، ومحالهم الخاصة، ومشاغلهم الخاصة، وإذا ما احتجت في غازي عنتاب إلى مُنتَج سوري مثل الخبز ولم تجده، فإن شوارع مثل الشارع «الإيراني» الذي أصبح في واقع الحال الشارع السوري، هي أمكنة ستجد فيها حتماً ما تريد، من المحال التي تبيع الأطعمة السورية، إلى مكاتب الحوالات السورية.
مصانعُ افتتحت في مدن الجنوب مثل غازي عنتاب ومرسين، وشركاتٌ للاستيراد كثيرة استفادت من سوق الأغذية السورية، إلا أن الحصة الأكبر منه على ما يبدو قد ذهبت إلى مُصنّعي الخبز، أصحاب الأفران الكبيرة التي بدأت إنتاج الخبز السوري بشكل واسع منذ 2013، العام الذي شهد تضاعف أعداد اللاجئين. ففي حين قد يجد اللاجئ الواصل حديثاً إلى المدن التركية بدائلَ معقولة عن الأطباق التي اعتاد عليها، إلا أن اختلاف الخبز التركي بشكل كبير عن السوري، خلق فجوة كانت عاملاً في إطلاق سوق عمل كبير يضم اليوم شركات وأفران وموزعين.
الخبز السوري الذي يُصنَع في تركيا اليوم هو ما كان يُطلق عليه في سوريا «الخبز السياحي»، وهو مختلف من ناحية قوامه عن الخبز السوري العادي الذي كان أكثر شيوعاً في سوريا واعتاد معظم السوريون على استهلاكه، لكن مع بقاء القاسم المشترك الأساسي بين الاثنين، وهو قدرة مستهلكه على استخدامه بعدة أوجه تفرضها عادات الأكل السورية، إذ يُستهلك بشكل رئيسي على الفطور والعشاء عندما تكون هذه الوجبات محضرة من أصناف من الطعام مثل الفول، أو «الحواضر»، أي الأكلات الجاهزة مثل «اللبنة» و«المسبحة» و«الزيت والزعتر»، وهي أطعمة تؤكل بالخبز حصراً.
الخبز السوري بشكله التقليدي هو رغيف مدور وكبير يتألف من طبقتين، دون وجود طبقة عجين كما في الخبز التركي أو الفرنسي مثلاً، وكانت الأفران الخاصة والحكومية المنتشرة تصنعه بشكل رئيسي، مع وجود مُنتَج آخر شبيه، أصغر حجماً وتُضاف له كميات أكبر من الحليب والسكر يسمى في سوريا الخبز السياحي، الذي كان سعره ضعف سعر الخبز العادي وفي حالات عديدة أكثر من ذلك. كلمة «السياحي» هنا تأتي من أن هذا المنتج لم يكن يخضع للسعر المفروض والثابت للخبز السوري، كما أنه كان متوفراً على مدار الساعة ولا يحتاج الذهاب إلى الفرن لشرائه، إذ يمكن الحصول عليه من البقاليات. وفيما كانت الأفران الحكومية الكبيرة، التي تُدعى «الأفران الاحتياطية»، تفتح شباك البيع في الصباح الباكر أمام أعداد كبيرة من المشترين، كان شراء الخبز السياحي وسيلة لتجنب الإذلال الصباحي اليومي، خاصة في التسعينات. تراجعَ مشهد الذل هذا لاحقاً لصالح مشاهد أخرى، لكنه مع ذلك استمرَّ بطريقة ما كجزءٍ من ثقافة السوريين.
كان الخبز السياحي بشكل ما أداة تمييز طبقية في سوريا، أما اليوم فقد أصبح في تركيا أحد أدوات الحفاظ على الهوية، ذلك أنه مع انطلاق إنتاج الأطعمة السورية في تركيا، أصبح الانتباه للفروق المناطقية أكثر وضوحاً، إذ يبيع محل سوري في الحي الذي أسكنه مثلاً «لبنة شامية» و«لبنة حلبية»، إلا أن الخبز نجا من هذه الفروق، ويبدو أنه سيحافظ على هذا الحياد، ليظل الطعام المشترك دون فروق طبقية أو مناطقية بين السوريين في تركيا.
يحقق الخبز السوري اليوم انتشاراً كبيراً في تركيا، وخلال عملي على هذا النصّ أجريتُ تقصيّاً على عشرة بقاليات تركية في منطقة 23 نيسان في مدينة غازي عنتاب، وهي منطقة تشهد كثافة متوسطة للاجئين السوريين. تسعة منها تبيع الخبز السوري، فيما قال العاشر إنه يريد التواصل مع موزّع الخبز قريباً.
هذا الانتشار الواسع لم يدفع الأتراك إلى تغيير عاداتهم، حتى أن واحداً من أصحاب تلك البقاليات قال إن هناك مواطنين أتراك يشترون الخبز السوري بين الحين والآخر، لكن أعدادهم قليلة جداً. حرصَ جميع أصحاب البقاليات على إطلاعي على الزاوية التي خصصوها للمنتجات الغذائية السورية، والتي تأخذ ركناً من الدكان يجمع الخبز مع القهوة والمعلبات السورية، بالإضافة إلى أشياء متفرقة أخرى. بعضهم يبيع المتة دون أن يعرف حقاً ما هي، ولم تساعدني لغتي التركية على شرح طريقة شربها لصاحب ذلك الدكان المُسنّ. ويعتمد أصحاب المحال التجارية الأتراك والسوريون على موزعين يعملون كمندوبين للشركات والأفران، أو على موزعين يعملون بشكل مستقل، ويقومون ببيع منتجات أهمها المعلبات السورية.
تقول آخر الإحصاءات حول أعداد اللاجئين السوريين في تركيا، إن الجارة الشمالية تضم 3 ملايين و506 آلاف و532 لاجئاً، بينهم 350 ألفاً يعيشون في ولاية غازي عنتاب، أي أنهم يشكلون خُمس السكان فيها على الأقل. لكن هذا الوضع لم يدفع السوريين والأتراك في المدينة إلى مزيد من الاندماج، إذ تبدو العلاقة بينهم في المدينة كالعلاقة بين جارين يُديران ظهرهما لبعضهما بعضاً طوال العمر، أحدهما يعرف بوجود الآخر، لكنهما غير مرتاحين تماماً للاعتراف بذلك. للأتراك موقعُ قوة أكيد في هذه العلاقة، ويُمكنهم في كثير من الأوقات التعبير عن انزعاجهم بألفاظ وتصرفات شديدة العنصرية. منذ عدة أسابيع وقعت اعتداءات واسعة في مدينة أورفا التركية على أحياء يقطنها سوريين نتيجة جريمة قتل ارتكبها سوري هناك، والنتيجة كانت تنفيذ هجمات منظمة من قبل شبان أتراك على الأحياء والبيوت والمحال السورية، التي تعرض بعضها للتخريب والحرق. كل ذلك انتهى الآن، كأن شيئاً لم يحصل، لكن ذلك لا يعني أنه لن يتكرر مجدداً.
بالمقابل يعيش السوريون في محيطهم السوري، لا يفكرون بما يحصل خارجه، ويختارون التجمع في أحياء بعينها، لأسباب اقتصادية في الغالب، لكنّ ذلك بدأ يتعدى تلك الأسباب، إذ يمكن اليوم ملاحظة أسواق سورية، وأحياء سورية. الجيرة لا تعني الاختلاط، واختلاف اللغة يشكّل بالتأكيد العائق الأكبر، لكنّ عدم الاختلاط يبقى حتى مع زوال هذا العائق في كثير من الحالات، إذ لا توجد سياسات إدماج حكومية في تركيا، تُعنى بتعليم اللغة وتأهيل السوريين لسوق العمل التركية. ثمة سياسات إجبارية تفرض الدخول في دورات اللغة والتأهيل على السوريين في أوروبا، فيما لا توجد سياسات مماثلة أبداً في تركيا، التي ترفض فيها غالبية الأحزاب السياسية الكبيرة فكرة الإدماج النهائي للاجئين السوريين في البلاد، وتعتبر أنهم ضيوف يجب أن يعودوا من حيث أتوا.
الخطابات الرسمية والدعايات خلال الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة استخدمت هذه الفكرة التي كانت شبه موّحدة بين الجميع، حيث يسود خوفٌ ما من «التوطين» إذا ما استخدمنا مصطلح اليمين اللبناني حول قضية اللاجئين الفلسطينيين. قد يكون غريباً أن تجد موقفاً مشتركاً كهذا بين اليمين القومي التركي واليمين اللبناني، إذ كيف يخاف حزب قومي في بلد يبلغ تعداد سكانه أكثر من ثمانين مليون، من الأمر نفسه الذي يخيف حزباً يمينياً يعتاش على الفروق الطائفية الدقيقة في بلد يبلغ تعداد سكانه أكثر من ثلاثة ملايين بقليل.
يبدو أن الاثنين يجمعهما الانحباس في صراعات تاريخية متراكمة، العيش في تلك الصراعات والإدمان عليها هو ما وفّرَ لهما البقاء، والاستثمار في صراعات تاريخية جديدة يمكن أن يكون الاستثمار الأنجح اليوم.
وبينما تنتشر تلك الدعايات الانتخابية بين الأتراك، تحافظ بعض «القوى السياسية» السورية في تركيا على ميلها الواضح تجاه حكومة العدالة والتنمية، وتحافظ على نقل جزء من تلك الدعايات بما يخدم موقفها، أما المجتمع السوري، فيحافظ على ميله الواضح لحكومة العدالة والتنمية بناءً على مخاوف جزءٌ منها في الواقع حقيقي، يتعلق باحتمال تعرّضهم لإجراءات تعسفية إذا ما تغيرت الحكومة في تركيا. غير أن الإجراءات القانونية تجاههم خلال الفترة الأخيرة، مثل تصعيب إجراءات التنقل بين الولايات التركية على السوريين الحاملين لبطاقة الهوية التركية الخاصة بـ«المواطنين الأجانب تحت الحماية المؤقتة» التي يطلق عليها «الكيملك»، والذين يشكلون النسبة العظمى من السوريين في تركيا، تلك الإجراءات بدأت تدفعهم تدريجياً نحو موقف اللامبالي، كما بدأت تدفعهم للعيش أكثر ضمن غيتوهات مُفترضة، يحاولون فيها إعادة نسخ طرق حياتهم في سوريا.
مازن شاب من حلب، وهو اليوم عاملٌ في أحد الأفران الكبيرة في مدينة غازي عنتاب، يقول للجمهورية: «مصلحتي طلعت الحمد لله عليها طلب، أكتر حتى من الخياطين، أنا كنت أشتغل بفرن بحلب، واليوم عم أشتغل مع الناس نفسهن هون بعنتاب. ما اختلف عليي شي». ضحكَ عندما قلتُ له: «بس ما يكون الراتب نفسو كمان؟». لم يُجِب على سؤالي، لكن كل الشهادات من زملاء لمازن أو عاملين في هذا القطاع ضمن مدينة غازي عنتاب تقول إن الأجر في معظم الأحيان يقلُّ عن الحد الأدنى للرواتب المفروض في تركيا وهو 1500 ليرة تركية، أي ما يعادل اليوم قرابة 300 دولار أمريكي.
ليس أرباب العمل السوريون هم وحدهم من يدفع للعمال السوريين أقلّ من الحد الأدنى للرواتب ودون أي تسجيل قانوني، وعلى الرغم من أن الحكومة التركية أتاحت تسجيل العمال من اللاجئين السوريين وسمحت بعملهم بشكل قانوني، بناءً على الوثائق التركية التي تعطى لهم مثل هوية الحماية المؤقتة «الكيملك»، إلا أن أعداداً قليلة جداً من أرباب العمل الأتراك والسوريين قرروا تسجيل عمالهم. جميع العمال الذين التقيتهم ممن يعملون في مخابز مدينة غازي عنتاب هم غير مسجلين رسمياً، كما أن أكثر من عامل في معامل تركية في المدينة ذكروا أنهم لا يحصلون على الحد الأدنى للراتب وأنهم غير مسجلين، أي أن بإمكان رب العمل طردهم في أي لحظة. وهم كثيراً ما يتعرضون للطرد فعلاً، خلال المواسم التي يقلّ فيها الإنتاج غالباً، خاصةً إذا ما تحدثنا عن معامل وورشات الخياطة والألبسة.
يتم توزيع أكثر من مئة وخمسين ألف ربطة خبز يومياً في مدينة غازي عنتاب، بسعر موحد هو 2.5 ليرة تركية، ولم تنجح حتى الآن عدة حملات بدأت على مواقع التواصل لمقاطعة الخبز السوري نتيجة الارتفاع المتكرر لأسعاره، وقد برّر أصحاب الأفران دوماً هذا الارتفاع بانخفاض سعر صرف الليرة التركية أمام الدولار في الأشهر الماضية، مما رفع تكلفة المواد الأولية التي يقول مالكو الأفران إنها مستوردة في معظمها.
وقد تحدث مالكو الأفران مراراً للصحافة، كما أعلنوا عن تشكيل لجنة منهم لتوحيد سعر الخبز السوري، وتنتشرُ في الصحف والمواقع السورية عدة شهادات من هؤلاء حول هذه الإجراءات التي اتخذوها، لكن أحداً لم يُشِر إلى أن هؤلاء من خلال اتفاقهم على الأسعار وتقسيمهم للمناطق والقطاعات في المدن (سُجِّلت هذه الإجراءات بشكل واضح في مدينتي غازي عنتاب وإسطنبول على الأقل)، إنما يخالفون قانون حماية المنافسة التركي رقم 4054 عام 1994، الذي ينصّ بشكل واضح على أن الاتفاق بين المنتجين بطريقة تمنع المنافسة هو أمرٌ مخالف للقانون. وعلى الرغم من أن الناس «ما تغيّر عليها شي» كما قال مازن، إلا أن هذه الإجراءات هي عملياً احتكار يخالف القوانين التجارية في معظم البلدان، كما أن ظروف العمل المخالف والأجور دون الحد الأدنى هي تجاوز آخر تجاه العمال السوريين. الأسوأ في هذه القصة أن هذه التجاوزات معلنة في الصحافة وفي أحاديث التجمعات التي تضم مالكي الأفران منذ أكثر من عام.
لكن في الحقيقة لا يبدو أن ذلك سيجذب أي اهتمام حكومي تركي. السوريون هنا يعيشون في غيتو مُتخيّل، يديرونه بالطريقة التي تناسبهم، وحتى بعد أن تراجعت الهوامش القانونية التي مُنحت لهذا الغيتو المُتخيّل، استطاعت مثل تلك التجمعات، التي تضم منتجين سوريين يقومون بشكل رئيسي ببيع منتجات يستهلكها السوريون فقط، احتكار العمل في تلك السوق دون أي عوائق. لا توجد أسوار تحيط بأحياء السوريين في غازي عنتاب أو إسطنبول، لكنها موجودة بشكلٍ ما إذا نظرنا إلى الأمر من هذه الزاوية.
كان أبو فاضل هو الشخص الأخير الذي قابلته خلال عملي على هذا النص، وعندما حاولَ أن ينقل الحديث إلى قصة تهجيره، قاومتُ السؤال في البداية، لكنني سألته أخيراً بعد أن انتهيتُ من الحديث في موضوعي الرئيسي، لأكتشفَ أن أبو فاضل خسر أحد أولاده عندما قصف طيران النظام الفرن الذي كان الأهالي يجتمعون أمامه صباحاً لشراء الخبز.