لم تقف ظاهرة المخيمات عند حدود القضية الفلسطينية، بل امتدت لتشمل بلداناً عربية أخرى أبرزها سوريا، في تكرار لمشهد يبدو قابلاً للتوسع في كل يوم، باختلاف المسببات والظروف. كذلك يتكرر وجه آخر لتجربة اللجوء والنزوح، عندما لا يقف الأمر عند حدود السكن المؤقت في خيام، بل يتعداها إلى محاولة الاستقرار والبحث عن وطن بديل جرّاء طول الأمد واليأس من العودة القريبة، وهو ما يظهر من خلال تجارب لتحويل المخيمات إلى سكن دائم، كان آخرها ما أطلق عليه نازحون سوريون اسم «رتيان الجديدة»، مُحاكاة للاسم القديم لقريتهم التي سيطرت عليها قوات الأسد منذ شباط 2016.
على جدران مدرسة رتيان الجديدة، التي بُنيت بالقرب من مخيمات دير حسان السورية بريف إدلب الشمالي، رسوماتٌ لأطفال بألوان زاهية، ومربعاتٌ كُتبت في داخلها أرقام وأحرف أبجدية، وبيت من الشعر بخط عشوائي، بينما لا نجد على جدران بيوتها سوى اسم «رتيان الجديدة»، لتغيب عنها كلمات لطالما ارتبطت بذاكرة السوريين خلال مرورهم في المخيمات الفلسطينية العديدة في البلاد، تؤكد على عروبة فلسطين وحق العودة، ومعها رسومات لـ «حنظلة». لعلّ عبارات كهذه سترسم مرحلة لاحقة من حياة القرية «الجديدة».
وليس بعيداً عن «رتيان القديمة»، وعلى تلة تشرف على الطريق المؤدي إليها، أقيم مخيم حندرات للاجئين الفلسطينيين منذ خمسينات القرن الماضي. «لم تكن خياماً منذ البداية»، يروي أبو محمد الذي هو واحدٌ من سكان المخيم الذين شهدوا النكبة عام 1948، إلّا أن ارتباط كلمة «مخيم» بالخيام حتى في حال غيابها جاء ربما من الخيمة الأولى التي سكنها المهجرون الفلسطينيون في مخيم عين بيت الماء بالقرب من نابلس، التي تناسلت فيما بعد لتتوزع في بلدان اللجوء، سوريا ولبنان والأردن، والتي زاد عددها عن ثمانية وخمسين مخيماً تحتضن الشتات الفلسطيني، ليلتصق الاسم بعمليات التهجير، ثم تلدَ المخيمات الفلسطينية مخيمات أخرى كثيرة، لجنسيات عربية مختلفة ولأسباب متنوعة، بدأت من هناك ولم تنتهِ بمخيمات السوريين، سواء كانوا «لاجئين» أم «نازحين».
وإذا كان ليس ثمة فرق بين التسميتين، سوى لجهة أن النازحين هم أولئك الذين هُجّروا من بيوتهم وما زالوا يعيشون في مناطق أخرى من بلادهم نفسها لأسباب أمنية أو عسكرية، إلّا أن شعوراً بعدم العودة بدأ يتنامى بين هؤلاء النازحين، ويدفعهم إلى البحث عن «وطن بديل»، إذا صحّت التسمية. هكذا تتحول الخيام المؤقتة إلى سكن دائم، أو يبدأ البحث عن أماكن أخرى للعيش، مع الحفاظ على الحنين والرغبة بالعودة.
هل بات على السوريين أن يطالبوا بحق العودة بوصفه حلماً بعيد المنال، وفق المعطيات الراهنة على الأقل؟ وهل ستكون تجربة بناء «رتيان جديدة» فاتحة لتناسل تجارب جديدة لـ «غوطة ودرعا وداريا و….» تتكون في الشمال السوري محتفظة بالحق في الاسم القديم، والذاكرة، والحفاظ على العادات والتقاليد والديموغرافيا السكانية، وحتى مفاتيح البيوت القديمة.
لعلّ المقاربة هنا مشروعة، حتى وإن اختلفت الظروف بين المُهجرين الفلسطينيين والسوريين، فالفلسطينيون الذي ناضلوا من أجل حق العودة المكفول بالقرارات الدولية يرون أن «الحلم بعيد المنال»، ويسعون منذ سنوات طويلة لتثبيت هذا الحق في المحافل الدولية، وفي نفوس أبنائهم أيضاً من خلال توثيق ذلك في كتاباتهم وأفلامهم وأحاديثهم العامة. يقابلهم في ذلك اتفاق دولي على شرعية هذا الحق، على الورق فقط، ودون أي إجراءات تذكر. ثمة رهانٌ على الزمن هنا، سواء لنسيان هذا الحق، أو لتحقيقه، وفي سياق هذا الرهان كان التحوّل من «المؤقت» إلى «الدائم»، من خلال تحويل هذه الخيام إلى كرفانات بداية، ثم إلى بيوت اسمنتية، بمساعدة منظمات إنسانية. وكانت وكالة الأونروا السباقة في ذلك، وفي حالة مخيم حندرات قامت باستئجار أرض «مشاع» وتوزيعها على الفلسطينيين لبناء بيوتهم علها، التي سرعان ما أصبحت شبيهة بقرية كبيرة، مقسمة إلى أحياء اختار سكانها أسماء قراهم الأصلية في فلسطين، للدلالة على هوية السكّان والحفاظ على ذاكرة تتعلق باللهجة المحلية لكل قرية وعاداتها وتقاليدها.
نجدُ في حالة المخيمات السورية ما يشبه ذلك، ففي الشمال السوري، وعلى طول الشريط الحدودي مع تركيا، يتوزع 232 مخيماً تختلفُ في بنيتها التكوينية، لكنها تأتلفُ في سكن معظم أبناء كل منطقة في خيام متجاورة، تحوَّلَ بعضها إلى كرفانات، وبقي القسم الأعظم منها على شكل خيام. ثم بدأ أصحاب الخيام بتحسين واقعهم المعاش داخلها، لتشهد بعضُها بناء قواعد إسمنتية أو أسوار من القرميد لمقاومة الظروف المناخية، بينما بدأ قسم آخر بشراء خيام مجاورة بغرض التوسّع، لتبدأ عملية «تطاحُن» على البُقع الجغرافية الصغيرة، والمساحات المعطاة فيها.
إذا كانت مقاومة الظروف المناخية الصعبة التي يعيشها النازحون سبباً رئيسياً في هذه التحسينات، إلّا أن شعوراً آخر بدأ يطرأ على السكان، لاعتبارات واقعية، ولتراجع الأمل بـ «العودة»، الذي يدفع بالضرورة إلى محاولة جدية لـ «الاستقرار» والبحث عن «أوطان بديلة»، بل والدفاع عنها من خلال تحويل الخيمة المؤقتة إلى بناء إسمنتي بحدود معروفة، وبمفاتيح جديدة، ربما ستكون ولفترة طويلة بديلاً عن المفاتيح القديمة التي «تحرق جيوبهم وذاكرتهم».
في الاجتماع الأخير الذي جرى منذ أيام بين أهالي تل رفعت، التي تسيطر عليها قسد، وبين الحكومة التركية، كان المطلب الوحيد هو العودة إلى قريتهم. وفي كل مرّة لا يكفُّ أهالي القرية والقرى المجاورة لها من التذكير بهذا المطلب، الذي هو مطلب جماعي موحد للنازحين من مختلف المناطق السورية باختلاف الظروف والمواقع، غير أن هناك أحلاماً قريبة وأخرى مؤجلة أو صعبة المنال، ولعلّ هذا ما دفع أهالي رتيان إلى بناء قريتهم الجديدة.
قدّمت قرية رتيان القديمة العدد الأكبر من الشهداء بين قرى الريف الشمالي لحلب، سواء بسبب القصف العنيف الذي تعرضت له خلال سنوات الثورة، أو محاولات الاجتياح البري التي شهدت مجازر بحق المدنيين من قبل قوات الأسد والميليشيات الحليفة له. وتؤكد تقارير كثيرة احتلال القرية الآن من قبل الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني، أو على الأقل التواجد الكثيف لهما في القرية منذ شباط 2016، وذلك بسبب وقوعها على الطريق الواصل بين حلب وقريتي نبل وزهراء الشيعيتين، وهو ما دفع جميع أهل القرية لمغادرتها خوفاً من الاعتقال أو القتل، الذي شهدته القرية سابقاً في شباط 2015 أثناء محاولة النظام وحلفائه السيطرة عليها. وقتها تعرَّضَ سكان رتيان للقتل والقنص دون تمييز بين مدني وعسكري أو طفل وامرأة، قبل استعادة فصائل المعارضة السيطرة عليها آنذاك.
أربعة آلاف من أهالي رتيان تركوا منازلهم منذ ما يقارب ثلاث سنوات، وتوجهوا إلى مناطق أخرى تسيطر عليها المعارضة، وسكنوا في بيوت مستأجرة أو لجأوا إلى المخيمات. ونظراً للظروف الاقتصادية السيئة، وصعوبة الحياة في المخيمات وتردي الخدمات في كثير منها، عمد بعض أهالي القرية إلى اجتراح حلّ بالتشاور فيما بينهم، وبمساعدة مجلس القرية المحلي وبعض «أهل الخير» على حدّ قولهم. كان الحلّ شراء قطعة أرض تبلغ مساحتها ألفي متر مربع قرب قرية دير حسان بريف إدلب الشماليـ ليبدأوا ببناء قريتهم الجديدة.
بيوت إسمنتية بُنيت على عجل، بلغ عددها حتى الآن حوالي خمسين منزلاً تقطن فيها ثمانون عائلة، أو ما يقارب خمسمئة شخص من الأهالي. أكلت هذه البيوت مدخرات العائلات، فضلاً عن مساعدة من المجلس المحلي وبعض الأشخاص، وذلك بحسب أحمد طحان، رئيس مجلس رتيان المحلي، الذي يرى في القرية الجديدة مكاناً «للم شمل من يرغب من أبناء قريته». وبالرغم من عدم «التشابه بين القريتين» من حيث الخدمات والبناء، إلا أنها تبقى «أفضل حالاً من المخيمات التي يقطنونها»، خاصة مع محاولة المجلس بالتعاون مع الأهالي تمديد شبكة صرف صحي للمنازل، وبناء مسجد للقرية إضافة إلى المدرسة التي تتوسطها.
لم تشارك المنظمات الإنسانية في بناء القرية، التي ما زالت تحتاج لخدمات كثيرة أهمها «مستوصف لتخديم الأهالي، والعناية بالمدرسة وتأمين ما يلزم لاستمرارها».
ألفا متر مربع، هي المساحة نفسها التي بُني عليها مخيم اليرموك في دمشق أول الأمر، والذي تحوَّلَ مع الزمن لأبنية طابقية وسوق تجاري يضم أكثر من 70 ألف نسمة. وهي تعادل تقريباً مساحة مخيم حندرات في حلب، الذي امتدّ فيما بعد إلى أراضٍ مجاورة، لتزداد مساحته إلى ثلاثة أضعاف ما كانت عليه. وفي ظروف مشابهة من حالة التعاون والألفة بين السكان، الذين عملوا معاً لإنشاء بيوتهم في البداية، يزداد عدد سكان رتيان الجديدة ويوماً بعد يوم، فهناك من ينتظر دوره في الدخول إلى القرية، بعد تأمين الأكلاف المادية اللازمة بحسب الناشط محمود القاسم، الذي يرى أن الناس «فقدوا الأمل بالعودة إلى قريتهم، ففي كل يوم نسمع الوعود نفسها من المجتمع الدولي، دون تنفيذ ودون رؤية واضحة»، حتى بات من الضروري «البحث عن الاستقرار هنا»، مشيراً بيده إلى مكان القرية الجديدة.
«حالة من الرضى والاستقرار النفسي يعيشها الأهالي»، يقول محمد عيسى من سكان القرية، الذي ساهم في بناء معظم بيوتها، وهو يعزو السبب في ذلك إلى «المحافظة على النسيج الاجتماعي بين أهالي القرية»، فالأهم بالنسبة له هو «بقاء أصدقائه وجيرانه حوله، بعد التعب الذي عانوه خلال السنوات السابقة». وتؤكد مشاركة الجميع وبشكل مجاني في بناء البيوت وتجهيزها أن ما يقوله محمد عيسى يكاد يكون قاسماً مشتركاً أكبرَ بين أبناء رتيان، ليبقى العائق المادي السببَ الوحيد في عدم انتقال باقي الأهالي من المخيمات إلى القرية الجديدة، إذ تبلغ كلفة بناء وحدة سكنية من غرفتين ما يعادل 2000 دولار.
لا يمكن التقليل من أهمية التجربة، ولا النظر إليها من منظار الإيجاب أو السلب، لكن إذا سقنا التشابه الذي يفرض نفسه بين ما حصل في المخيمات الفلسطينية وما يحصل الآن في المخيمات السوري، من تشابه في التجارب بالتوازي مع ارتهان الحل بقوى خارجية لا بأيدي أصحاب الأرض، فإن ذلك سيدفعنا للتفكير مليّاً في التفريق بين إرادة الحياة وما ينتج عنها من صور مضيئة كبناء قرية رتيان الجديدة، وبين الخوف من المستقبل، الذي قد يكون واحدٌ من حلوله المفروضة تغييرُ البنية الديموغرافية لسكان المناطق، والبحث عن حلول تبدو الآن مؤقتة، لكنها في جوهرها تبدو حلولاً دائمة، لا تتنافى مع الإصرار والعمل على رفضها، دون الحاجة لتوريث مفاتيح البيوت القديمة.