ثمة صورة مدهشة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، تجمعه بالمغنية المتحوّلة الشهيرة بولنت إرسوي وهما يتناولان العشاء معاً، فيما كانت عقيلته أمينة أردوغان ومغنية أخرى هي سيبل جان تتشاركان الطاولة معهما. كان الجميع يبتسمون؛ وبدوا بحق وكأنهم مستمتعون باللحظة. ولأنهم يتشاركون المائدة مع مغنية متحوّلة جنسياً، ولأن أردوغان كان حرفياً يجلس إلى جوار مغنية متحوّلة، يمكن للمرء أن يشتَمَّ رائحة الغرابة من تلك الصورة. ففي تلك اللحظة بالذات تبدو تركيا وكأنها بلد آخر؛ للحظة، بدت جميع معاييرها المتعلقة بالجندر والجنسانية مُعلّقة.

هذه الصورة مثيرة للدهشة، لأنها تُظهّر التعقيد، والتهجين، وحتى النفاق الذي يسم السياسة الجنسانية في تركيا. كأكاديمي تركي مقيم في ألمانيا ويشتغل على السياسة الكويريةتعني كلمة كوير queer بالأصل «غريب» أو «مختلف» لكن اللفظ أخذ منذ الثمانينات يفقد مدلوله السلبي أو التحقيري بعد تبنيه من قبل ناشطي الحراك الجنسي في الولايات المتحدة، ليشكل اليوم مصطلحاً عاماً يشمل جميع الأقليات الجنسية ممن تخالف جنسانيتهم في الحياة اليومية والاجتماعية والعاطفية ما هو سائد من انجذاب الذكور والإناث أو انطباق الجنس البيولوجي على السلوك الجنساني. كما يشير المصطلح للمتمردين على ثنائية الذكورة والأنوثة، والباحثين عن تماهيات أكثر تحرراً وليونة وحتى غموضاً.، كثيراً ما يُوجَّه لي السؤال حول مدى تدهور الأوضاع في تركيا بالنسبة لمجتمع الميميشير مصطلح «مجتمع الميم» إلى الأقليات الجنسية التي يعبر عنها باللغة الإنكليزية بـ LGBT(QI)s، والتي تشمل المثليين والمثلييات والمتحولين والمتحولات ومزدوجي الجنسانية والمتسائلين، بالإضافة إلى الكويريين الذين لا يتعرفون على أنفسهم في أي من هذه الهويات المحددة.. قد يتوقع المرء إجابة بسيطة للغاية: في ظل حكم الرئيس الذي يزداد استبداداً يوماً بعد يوم، وفي ظل نظام ما فتئ ينأى بنفسه عن المبادئ الديمقراطية الأساسية، لا يمكن لحياة كويرية أن تزدهر. لا حاجة للنقاش.

لكن سرعان ما نعثر على هذه الصورة لأردوغان وإرسوي وهما يتناولان العشاء معاً. على اليمين، سياسي مسلم محافظ قادت سياسته المتشددة قومياً وذات النفس الإسلامي إلى جعل تركيا أكثر محافظة من أي وقت مضى، وعلى اليسار، امرأة متحوّلة، خاضت تاريخاً من الكفاح في سبيل حقوقها المرتبطة بنيل الاعتراف العلني والقانوني بها كامرأة. هذه الصورة تستعصي على أية إجابة بسيطة، وتأمُّلُها كفيلٌ بإعطاء لمحة عن تناثر وتعدد أوجه قصص الكويريين في تركيا.

Trans singer Bülent Ersoy (L) sits with Turkish President Recep Tayyip Erdoğan.

كيف يمكن مشاهدة بولنت إرسوي في صورة واحدة مع أردوغان أصلاً؟ ما هي الأرضية المشتركة التي يتقاسمها أردوغان وإرسوي؟ كيف تتقاطع مساراتهما المتنافرة للغاية لتلتقي في مناسبة كهذه؟

من أجل فهم المعاني المتشابكة لهذه الصورة، لا بدَّ العودة إلى الوراء وتذكّر نضال إرسوي ضد الدولة التركية، وبذلك يمكن أن تُسعفنا الصورة كمنطلق لتحليل تاريخ مجتمع الميم في تركيا وفهم أهميتها ضمن هذا السياق.

بدأت إرسوي مسيرتها المهنية عام 1971. وقبيل انقلاب 1980 أعلنت عن نفسها كامرأة متحوّلة. ورغم اعتياد الجماهير التركية على المغنّين والمؤدّين الكويريين، إلا أن العبور الجنسي الذي خاضته وأعلنت عنه إرسوي جذب اهتماماً إعلامياً هائلاً. وقد كان لجسارتها وطريقتها الفذّة في الإخلال، ولكن أيضاً في الامتثال للمعايير السائدة، أن حجزا لها مكاناً بين الأضواء.

في أيلول 1980، على سبيل المثال، قبل سيطرة الجيش التركي على النظام، قامت بإبراز أحد ثدييها في خضّم حفلة موسيقية، وقد كان ذلك تصرفاً راديكالياً ومخططاً ببراعة للفت الانتباه إلى السياسات التركية الرافضة للاعتراف القانوني بهويات المتحوّلين جنسياً. وقد اتخذ مكتب المدعي العام إجراءات بحقها نتيجة استعراضها العلني، حيث رأى في ذلك الفعل تهديداً للقيم الأخلاقية التركية. غير أن تفسيره للفعل كتهديد للقيم الأخلاقية التركية كان ينطوي على اعتراف بها كامرأة. وقد استخدمت إرسوي بالفعل جلسة الاستماع للتأكيد على هويتها كامرأة، مؤكدة للنيابة العامة أن على كل النساء الواثقات بأجسادهن ألا يخشينَ من بروز أثدائهنَّ في الأماكن العامة، ومشيرة إلى أن النساء يفعلنَ ذلك على الشواطئ وداخل النوادي وحتى في الشوارع، فما المشكلة لو قامت هي بإبراز ثديها في حفلة موسيقية؟

وفي الوقت نفسه، مع بدء المحاكمات، وظّفَ محامي إرسوي عدم اعتراف الحكومة بأنوثة إرسوي في الدفاع عنها، مجادلاً بأن إرسوي، بما أنها رسمياً رجل؛ بما أن الدولة ترى أنها رجل، فلا يمكن اعتبار فعلها تهديداً للقيم الأخلاقية التركية. فللرجال الحق في تعرية صدورهم في الأماكن العامة، والقيم الأخلاقية لا يُضيرها ظهور رجال عراة الصدور على مرأى الأشهاد.

عندما قررت إرسوي إجراء جراحة تغيير الجنس في عام 1981، كانت تركيا ما تزال في مرحلة الاضطرابات التالية للانقلاب العسكري. وبما أن العملية لم تكن قانونية في تركيا حتى ذلك الحين، فقد سافرت وقتها إلى لندن، ووقتها قامت الصحف التركية بتغطية رحلتها بشكل يومي. وبدلاً من إثارة الضجيج حول قرارها بالخضوع لجراحة تغيير الجنس، كان الإعلام والجمهور التركي يحتفيان بالقرار. وقد وردت تقارير حول ذهول اللندنيين من جمالها، والمعاملة الحسنة التي لقيتها من الأطباء، والاحتفال الذي أقامته إرسوي بعد نجاح العملية عبر تقاسم زجاجة شمبانيا مع الجرّاحين. بل إن وسائل الإعلام طلبت من الجمهور التركي آراءهم حول العملية التي قامت بها إرسوي، وقد جاءت الآراء مؤيدة لها بوجه عام.

عادت إرسوي إلى تركيا وهي تأمل الحصول على اعتراف قانوني بها كامرأة. غير أن النظام العسكري أصدر قانوناً يحظر على «الرجال تقديم عروض بملابس نسائية»، وقد أعقب هذا القانون نزوح وترحيل الكثير من مجتمعات الميم، حيث تعرضت نساء متحولات كُنَّ يعشنَ ويعملنَ في مدن كبرى مثل اسطنبول وأنقرة وإزمير للطرد من منازلهنّ، والترحيل بالسكك الحديدية نحو المناطق الريفية في الأناضول. لقد أدرك مسؤولو النظام العسكري أن حياة الكويريين تزدهر جيداً في البيئات المدينية المتنوعة والمنفتحة.

علاوة على ذلك، تم استخدام القانون نفسه لمنع إرسوي من الغناء. من وجهة نظر الدولة، كانت إرسوي ببساطة «رجلاً مثلياً يرتدي ملابس نسائية». ولهذا السبب كافحت إرسوي ولا سيما في أوائل الثمانينات من أجل حقوقها في الغناء والاعتراف بها كامرأة. ولم يكن الأمر مجرد نضال شخصي حول خلافات بيروقراطية غامضة، بل كان كذلك قضية عامة رفيعة المستوى: ففي أيار 1981، على سبيل المثال، نظمت وزارة الصحة مؤتمراً خصّصته حصرياً لهذا الشأن، وقد شارك في المؤتمر أطباء ونفسانيون ورجال قانون وصُنّاع سياسات وحتى ممثلون عن مديرية الشؤون الدينية لمناقشة ما إذا كانت إرسوي امرأة أم رجلاً. وحدها إرسوي كانت غائبة. لقد حرموها ليس فقط من حقها في الغناء، بل من حقها في التحدث عن نفسها حول جسدها وهويتها. ولم يكن مستغرباً توصّل الرجال الحاضرين في المؤتمر بالإجماع إلى أنها ليست امرأة، حيث ربطوا حكمهم هذا بعدم قدرتها على الإنجاب، مستنتجين أن الأنوثة لا يمكن «اختزالها في مهبل اصطناعي».

وطوال ثمانينات القرن الماضي، العقد القمعي الخانق الذي حكمه العسكر، مُنِعت إرسوي من الصعود على خشبات المسارح التركية، لكنها قدمت حفلاتها الموسيقية في الخارج، ما ساعدها على مواصلة حياتها المهنية كمغنية. إلا أن الكثير من الكويريين غيرها لم يحظوا بمثل هذه الفرصة للهروب من توحش وعنف الدولة، فالذين نجحوا في إنشاء مجتمعات كويرية في المدن الكبرى استمروا في التعرض لمداهمات الشرطة، حيث جرى اعتقال الكثيرين وتعريضهم للتعنيف الجسدي والنفسي. كانت الصورة المرسومة إعلامياً لمجتمع الميم طوال عقد الثمانينات مشحونة بالتشهير العام، والذي كان يناقض تماماً الأجواء الاحتفالية التي رافقت رحلة إرسوي إلى لندن من أجل جراحة تغيير الجنس.

رداً على العنف المتكرر الذي مارسته الشرطة على النساء المتحولات على وجه الخصوص، انطلق أول حراك سياسي لمجتمع الميم عبر سلسلة إضرابات عن الطعام عام 1987، حيث بدأوا أولاً في أنقرة، ثم في اسطنبول، بتنظيم مؤتمرات صحفية لرفع أصواتهم أمام الرأي العام.

بعبارة أخرى، رغم أن إرسوي والنشطاء الكويريين عانوا من وحشية النظام العسكري، إلا أن نضالاتهم اتخذت مسارات مختلفة، ولم يسر الجميع على خط واحد – ولا بقوا حتى في صف واحد، بعد أن رفع توركوت أوزال الحظر المفروض على حق إرسوي بالأداء أمام الجمهور. كان أوزال، وهو سياسي يميني نيوليبرالي، أول رئيس منتخب ديمقراطياً بعد انقلاب الثمانينات. رغم المجازفة بالاختزال هنا، يمكن تحديد تلك اللحظة على أنها اللحظة التي توقفت فيها إرسوي عن الكفاح ضد الدولة.

من الناحية السياسية، يرى رجب طيب أردوغان نفسه قريباً من أوزال. فعندما وصل أردوغان إلى السلطة عام 2001، كان كبحُ جماح الجيش التركي أحد أبرز وعوده. وبما أن الجيش كان يلعب دور الأخ الأكبر الذي يراقب الدولة على الدوام، فقد حظي تعهّده بالحد من صلاحيات الجيش بدعم العديد من المفكرين والفنانين الذين عانوا من النظام العسكري. من بين أمور أخرى، شكلت أجندته المعلنة بالحدّ من سلطات الجيش حجر الأساس لتعاطف إرسوي مع أردوغان. ولعلَّ من الأسباب الأخرى للتعاطف المتبادل بين إرسوي وأردوغان تلاقي وجهات نظرهما السياسية دينياً وقومياً.

لذا، بالعودة إلى صورتنا، نرى مغنية متحوّلة محافظة وسياسياً نيوليبرالياً يتشاركان الآراء السياسية ذاتها تقريباً. ثمة تفاصيل أخرى مهمة من الصورة: فقد تم التقاطها خلال شهر رمضان. وكما يفعل في كل عام، قام أردوغان عام 2016 بدعوة الفنانين للاحتفال بشهر رمضان وتناول العشاء في قصره الرئاسي. ما يضيف بُعداً آخر للصورة هو تزامن العشاء مع الهجوم الذي شنته قوات الشرطة على مظاهرة الفخر التي نظّمها مجتمع الميم في اسطنبول. وهكذا فقد ظهرت إرسوي تتناول العشاء وتحتفل بشهر رمضان المبارك هي وأردوغان، في الليلة نفسها التي جوبه فيها نشطاء كويريون ومُنعوا بوحشية من حقهم في الاحتفال بأسبوعهم وتنفيذ مسيرة الفخر في الشوارع.

من جهة لم يتمكن النشطاء المتحوّلون من تنفيذ مسيرة الفخر، ومن جهة أخرى كانت المغنية المتحوّلة تتنعم بعشائها مع الرئيس. ما الذي يقوله ذلك عن الجندر والسياسات الجنسية في تركيا؟ هل يمكننا وصف ظهور إرسوي في العشاء الرئاسي كعلامة على التطبيع؟ هل يشير ذلك إلى قبول التنوع الجنسي والجنساني؟ أم أن في الأمر تواطؤاً من جانب إرسوي مع سلطة الدولة التي ترحب بها في قصر الرئاسة؟

لقد مثلت الهويات والقصص واللحظات الكويرية دوماً جزءاً من الثقافة الشعبية في تركيا، وكانت القاعدة العامة أنه لا ينبغي لهذه الهويات والقصص واللحظات أن تُخلّ بالدولة أو تنازعها قيمها. أما حين يتم احترام تلك القيم ولا يتم طرح مواضيع محرمة، فهي موضع ترحيب كجزء لا يتجزأ من المجتمع. زكي موران مثلاً نموذج للمغني الكويري الناجح، وقد كان مواطناً قومياً للغاية، بل وأوصى بكامل تراثه لعهدة الجيش التركي. وبعكس إرسوي، لم يَقُم موران أبداً بالتشكيك في معايير الجندر والجنسانية السائدة بشكل علني، وهو ما عنى عدم تعرضه لأية مشاكل مع الدولة خلال مسيرته المهنية.

أما النشطاء فيسببون المتاعب، وبدلاً من الامتثال لإيديولوجيا الدولة يشككون فيها. ولكن حتى عند الناشطين كان هناك نقطة تحول محورية. حتى عام 2015، كانت منظمات مجتمع الميم قادرة على عقد مسيرة الفخر السنوية في اسطنبول وحشد عشرات آلاف المشاركين. يمكن القول إن الدولة لم تعتبر حشود مجتمع الميم تهديداً خطيراً لها على الإطلاق، وبالتالي قامت ببساطة بالتسامح معهم.

كل شيء تغيّر بعد أن شارك نشطاء مجتمع الميم في احتجاجات منتزه غيزي (غيزي بارك) عام 2013. ولعل بالإمكان القول إن انتفاضة غيزي بارك كانت واحدة من أهم التصدعات في تاريخ الكويريين الأتراك، فقد غيرت هذه الانتفاضة من التصور العام لحراك مجتمع الميم إلى الأبد. فمن جهة بدأت جماعات المعارضة الأخرى تعترف بحراك الميم كحليف مهم لها، غير أن الدولة من جهة أخرى أخذت ترى في هذا الحراك صوتاً معارضاً لا بدَّ من قمعه. وعلى وجه الخصوص، مباشرة بعد احتجاجات غيزي بارك، مع إعلان منظمات الميم دعمها لحزب الشعب الجمهوري العلماني والحزب الشيوعي المؤيد للقضية الكردية، ردَّ أردوغان على هذه التحالفات بتوجيه الشرطة لفضّ مسيرة الفخر بعنف.

يمكن الإتيان على هجوم الشرطة على مسيرة الفخر كمثال على تدهور أحوال الكويريين في تركيا اليوم. من الأمثلة الأخرى على ذلك الحظر الذي يطال الفعاليات التي يقيمها الكويريون في بلديتي اسطنبول وأنقرة. كما أن المقاطعة التي تقودها الحكومة حالياً ضد مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيزيون)، بسبب ظهور مجتمع الميم فيها، دليلٌ إضافي على السياسات الرُهابية التي تنتهجها تركيا بحق المثليين والمتحولين.

ومع ذلك، تبقى صورة أردوغان وإرسوي على العشاء معاً. تشير الصورة إلى أنه حتى المغنية المتحوّلة في تركيا، تلك التي أبرزت صدرها في حفلة موسيقية وخاضت كفاحاً طويلاً ضد القانون إلى أن كسبت حقوقها، بإمكانها في ظل ظروف معينة أن تحترم رئيساً مسلماً محافظاً ومتشدداً قومياً. وهي تشير إلى أنه حتى في ظل الأجواء السياسية الخانقة والقامعة، يمكن لأصوات الكويريين أن تجد طريقها للتواجد – وللغناء. لكن وكما توضح الصورة أيضاً، فإن الكمون الراديكالي لهذا التواجد سيتلاشى حتماً في مرحلة ما.