حين كانت الكهرباء تُقطع في ليالي شتاء دمشق، كنّا نجلس بجانب بعضنا البعض حول المدفأة التي تعمل على المازوت، نُلصق الخبز على حديد المدفأة ليُسخَّن فنأكله حاراً طيباً. وكانت جدتنا سلطانة تسرد علينا حكايات أطفال قديمة. حكاياتٌ كرديّةٌ قديمة.

كانت كل حكاية تبدأ بمقدمة، ترجمتُها: «كان ياما كان في قديم الزمان، رحم الله أمهات وآباء السامعين. يقال إنه كان هناك، رحمة الله على أمي وأبي وعلى أمهاتكم وآبائكم»، ثم تسرد الحكاية. وفي نهاية كلّ حكاية تقول: «هذه حكايتي لكم، فأعطوني شريحة من البطيخ الأحمر».

والحكايات متنوعة، منها ما يحكي عن البطولة والشجاعة والثورات، ومنها أحداث تاريخيّة ومنها حكايات عن الحيوانات والحشرات. منها حكايات تتشابه مع حكايات الأقوام المجاورة ومنها حكايات كرديّة خالصة معتقة منذ مئات السنين.

يقول إلياس خوري في روايته باب الشمس: «إنّ القصص كالخمر، تتعتق حين تُروى. جرار القصص روايتها»، وهكذا هي الحكايات الكرديّة، حكايات تُروى وتُروى فتصبح خمراً يسكر به شعب الأكراد.

تقول جدتي إن هذه الحكايات، إضافة إلى الأغاني القديمة، هي التي حفظت اللغة الكرديّة من الضياع. ويقول آخرون إن «الكرديّ هو من يجيد الرقص ويستطيع التكلم باللغة الكرديّة»، وما اللغة إن لم تكن حكايات تُروى؟

ما زلنا، نحن الأطفال الذين كبرنا بعيداً عن أهلنا، نحفظ هذه الحكايات عن ظهر قلب. نحفظ مثلاً حكاية محمد ابن العجوزة، وحكاية الخنفساء، والحكاية الطريفة حكاية القملة والقرادة التي تقول:

كان ياما كان في قديم الزمان، رحم الله أمهات وآباء السامعين. يقال إنه كان هناك، رحمة الله على أمي وأبي وعلى أمهاتكم وآبائكم. كان هناك قملة وقرادة. القملة كانت تغسل الثياب والقرادة تنشرها على حبل غسيل على الجانب الآخر من البيت. هطلت بعض الأمطار فماتت القملة بفعل هذه الأمطار. انتظرت القرادة ثياباً جديدة لتنشرها، ولمّا طال انتظارها راحت إلى الجانب الآخر من البيت باحثة عن القملة، وحين رأت القملة ميتة قامت بقص ظفائر شعرها حداداً على موت صديقتها. ثم ذهبت إلى مجرى المياه، فصاح بها الماء: أيتها القرادة ذات الشعر المقصوص. فردّت القرادة نائحة:

أوووه قرادة ذات شعر مقصوص

لقد أتى الخبر… ماتت القملة

ففاض مجرى الماء بمائه واستمر جريانه إلى أن وصل إلى أسفل شجرة خضراء وارفة. فسألت الشجرةُ الماءَ: لماذا تفيض اليوم أيها الماء؟ فناحَ الماء:

أوووه مياه تفيض

قرادة ذات شعر مقصوص

لقد أتى الخبر… ماتت القملة

وهكذا تستمر الحكاية الأطفال هذه، وهي حكاية قديمة تطول أو تقصر حسب الراوي، وفي رواية جدتي لها يمرّ عابر طريق بالشجرة ومن ثم يمضي مارّاً بحقل ذُرة وفي اليوم التالي يأتي المزارع وتأتي ابنته التي تسرد القصة إلى أمها لاحقاً:

أوووه ابنتكِ يغطي اللبن رأسها

والدها بمحراث في مؤخرته

ذُرة معوّجةُ القرون

عابر طريق بعمامة خضراء

شجرة عاريّة

مياه تفيض

قرادة ذات شعر مقصوص

لقد أتى الخبر… ماتت القملة

فتلصق الأم مؤخرتها بالتنور. وتنتهي الحكاية مثل كلّ حكايات جدتي بجملتها المعتادة: «هذه حكايتي لكم، فأعطوني شريحة من البطيخ الأحمر».

لكن وفي مرات كثيرة كانت تقول لنا الجدّة حكايات أخرى؛ حكايات لا أعاجيب ولا طرائف ولا أساطير، حكايات حقيقيّة عنها وعن زوجها السياسي الهارب من حكومات تمنع الهواء عن الأكراد، حكومات تمنعهم من التحدث بلغتهم. تقول في إحدى الحكايات إنّ الملاحقات الأمنيّة على الأكراد قَلَّت بعد انفصال سوريا عن مصر ورحيل عبد الناصر عن حكم سوريا، فانتقلوا من القرية إلى مدينة القامشلي حيث وُلد ابنها الثالث. وبعد ستة شهور من ولادة الرضيع، سنة ١٩٦٤، عادت الملاحقات الأمنيّة إلى سابق عهدها فهربوا إلى قرية شُوْرِيِ إحدى قرى عشيرة الكيكان الكرديّة. اعتقدوا أن رجالات الأمن لن يعثروا عليهم في ظل الأوضاع الأمنيّة المضطربة والانقلابات وتسلم حزب البعث للسلطة.

لكنهم كانوا على خطأ، فقد داهم رجال الأمن بيتهم الطيني أثناء تناولهم طعام السحور في إحدى الليالي الرمضانيّة. لم يكن زوجها، أي جدي، موجوداً في البيت. كسروا بوابة البيت ودخلوا. بقوا هناك حتى وقت الضحى. ضربوهم وشتموهم. ضربوا الأطفال، أكبرهم أبي وكان في التاسعة من عمره،. ضربوا الأم برشاشاتهم وهي تحمل رضيعها.

كانت القرية الصغيرة فارغة، فبعد أن عرف الأهالي أنّ الأمن داهم أحد البيوت هربوا نحو الحقول والأراضي الزراعيّة المحيطة بالقريّة. هدّدَ رجال الأمن الأم بأخذها مع أطفالها إلى سجن غويران في الحسكة. أوقفوهم أمام السيارة العسكريّة مع ثلاثة حرّاس واتجهوا نحو امرأة كانت تمرّ بالقرب من القرية وتحمل قربة ماء. سألوا المرأة عن جدي إن كانت تعرفه. فأجابتهم المرأة بعربية طلقة وبصوت جهوري بأنّهم عار على الجنديّة، فضربوها بقسوة وحطموا قربة الماء وأدموا وجهها. ركض أحد الفتيان الذي ظهر فجأة ليحمي المرأة من الجنود، صرخ عليهم بالكرديّة، لكنهم أمسكوه وضربوه حتى سال الدم من كُلِّه، طلبوا منه أن يضرب جدتي وأطفالها فرفض. قيّدوه وضربوه بشدّة. حاولت جدتي أن تدافع عن الفتى لكنهم ضربوها، وحطّموا فكَّ الفتى بأقدامهم إلى أن اختلطت دماؤه مع دماء المرأتين. غادر الجنود منظر الدم هذا دون أن يقولوا شيئاً سوى شتائمهم المعتادة.

حكايات مثل هذه لم تكن تنهيها سلطانة بجملة «شريحة البطيخ الأحمر»، بل بتنهيدة تخرج من أعماق قلبها. ويعمّ الصمت بعدها لدقائق حتى يكسره أحدنا بسيرة من أحداث يومه أو بطلب حكاية خياليّة أخرى. حكاية لا ألم فيها بل طرافة وضحك.

لم نكن نشبع من مثل حكايات الطرائف، حتى أنّنا أحياناً كنّا نريد أن تسرد علينا جدتنا حكاية خلال النهار، لكن الجدّة عادة تكون مشغولة بأمور البيت التي لا تنتهي. في النهاية وبسبب ضغطنا عليها كانت تحكي لنا حكاية صغيرة، فتقول بعد مقدمة الحكاية: يقال إنّه كان هناك ثعلب، وهذا الثعلب كان يمشي، ومشى الثعلب ومشى ومشى ومشى… حين يعود الثعلب سأكمل لكم الحكاية.

وكنّا ننتظر الثعلب الذي لم يكن يأتي إلا حين انقطاع التيار الكهربائي في تلك المساءات البعيدة.

*****

هامش: حكاية القملة والقرادة هي حكاية أطفال قديمة، وتختلف من رواية لأخرى، ما ذكرتُهُ هنا هو رواية جدتي للحكاية التي سمعتها منها مؤخراُ. قمتُ بتعريبها مع تغيير بعض الكلمات، لكنني حافظت على السياق العام وعلى الأحداث كما روتها جدتي. حكاية الأمن مع المرأة الكردية هي حقيقةٌ حدثت لجدتي وأبي، وقد سمعتُ القصة عشرات المرات. في هذا النصّ نقلت القصة من تسجيل صوتي لجدتي كنتُ قد سجلته معها عام 2013 في مدينة أضنة في تركيا.