عشية طرد تنظيم داعش من الرقة وزّعَ المكتب الصحفي لوحدات «حماية الشعب»، الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي والعمود الفقري لقوات سوريا الديمقراطية، مقطعاً مصوراً جاء فيه «إنّ كل الانتصارات والتطورات والمكاسب التي تحققت هنا (في الرقة) كانت نتيجة عظيمة، استندت إلى آراء أوجلان وفلسفته. لو لم تكن قوته الإيديولوجية معنا لما عرفنا ما الذي يتعين علينا عمله في هذا الوضع، ما كان يمكن إنقاذ الرقة من ظلام السنوات الأخيرة أو بقية المدن الأخرى التي احتلها تنظيم الدولة الإسلامية».
ويكتب صحفي من مناصري حزب الإتحاد الديمقراطي (الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني في تركيا) على صفحته في فيسبوك عشية خروج مقاتلي داعش من الرقة: «… إنه يوم تاريخي ومشهود في تاريخ المنطقة»، مُكرّساً بذلك نشاطاً محموماً بدأه قبل أشهر من اليوم التاريخي المشهود، مع عدد غير قليل من الكتاب والصحفيين الكرد الموالين لحزب العمال على صفحات التواصل الاجتماعي وعبر مقالات في الصحف، مشكلين غطاء أخلاقياً وسياسياً للقصف الذي سيطال المدينة ويدمرها: «سننقذ أهل الرقة من الظلاميين، ونتركها لأهلها لإدارة شؤونهم… سنحرركم يا أهل الرقة غصباً عنكم… سنحرركم من السواد… نحن حلفاء الأمم والشعوب الحرّة في مكافحة الإرهاب… لن يستهدف أحد من المدنيين، فالأسلحة المتطورة التي وصلت لقوات سوريا الديمقراطية دقيقة في إصابة أهدافها… عليكم يا أهل الرقة شكر قوات سوريا الديمقراطية والانخراط في صفوفها».
لكن ما حصل عليه أهل الرقة بعد سنة من «تحريرهم» على يد «قوات سوريا الديمقراطية» ومُشغليها هو الآتي: قصة شعر مناسبة للشباب ، وحرية في حلق اللحى أو إطلاقها، والتدخين العلني، وخلع النساء النقاب الذي كان مفروضاً عليهنّ من قبل تنظيم داعش، وانتشار زراعة الحشيش بشكل واسع، مقابل تحريرٍ دمّر 80 % من مدينتهم، وأدى لنزوح كامل السكان تقريباً، ووجود آلاف الجثث لمدنيين لم يتسنى لهم النزوح، أو آثروا البقاء حراساً لحياة لم يعرفوا غيرها تحت ركام بيوت اعتقدوا أنهم يحمونها ببقائهم.
يصفُ القلّة من العائدين لتفقد بيوتهم المدمرة المدينة وصفاً متطابقاً: «الهواء مشبع بروائح الجثث. قطط وكلاب وجرذان سمينة ومتخمة باللحم الآدمي تجوب بين الركام… لا ملامح نعرفها للمدينة، وأحياناً بالكاد نستدل على بيوت نعرفها أو عشنا بين جدرانها… أغلب البيوت المدمرة والمهجورة تم تعفيشها… نزع الألغام داخل المنازل لا يتم إلا عن طريق دفع مبالغ معينة».
أكثر بقليل من 500 شخص سقطوا ضحية الألغام من مجموع العائدين، الذين يُقدّرُ عددهم بأقل من ربع سكان المدينة عشية بدء حصارها وقصفها.
الحال هذه بعد سنةٍ من التحرير ، وهي عكس الصور المبثوثة التي طافت عبر فضاء جهات الأرض الأربع عشية التحرير، والتي تحدثت عن دحر الإرهاب، والقضاء على داعش، والتبشير بقيام الأمّة الديمقراطية: «… لقد وضعنا أول لبنة في بناء الأمة الديمقراطية، وأخوة الشعوب، من خلال اقتراب مشروع روج آفا من الاكتمال…» حسب ألدار خليل، القيادي البارز في حزب الاتحاد الديمقراطي.
وكانت هناك ثلاثة عناوين تمّ تمريرها عبر الصور، أراد المحررون ومُشغلوهم تكريسها كتعبير عن تخليص السكان من داعش ورسم ملامح المرحلة القادمة: فيديو المرأة التي خلعت نقابها ورمت به أمام الكاميرات، وفيديو آخر لمقاتلات كرديات يوزعن الخبز على أطفال خارجين من تحت ركام بيوتهم، وصور عملاقة للقائد عبد الله أوجلان في كل ساحات المدينة، لم تستطع حجب الدمار والخراب الذي حلّ بها.
بينما بقيت قصصٌ مثل قصة المعتقلين والمخطوفين الذين واجهوا التنظيم في بدايته، وفي أوج قوته، غير مهمة، ولا تستحق معرفة المشبعين بفلسفة القائد أوجلان، ولا بوعود الصحفي المشهور بالتحرير غصباً، ولا بالبشائر التي حملها ألدار خليل، وبقي مصيرهم غير معروف حتى الآن. لم يجر أي تحقيق نعرفه عن أبنائنا المخطوفين والمعتقلين مع أي واحد من آلاف الدواعش الذين عقدوا صفقة مع قوات سوريا الديمقراطية بموافقة أمريكية؛ ففي مقابلة مع وكالة رويترز يقول طلال سلو القائد السابق في قوات سوريا الديمقراطية: «إن عدد المقاتلين الذين سُمِحَ لهم بالمغادرة أعلى بكثير من 3000 مقاتل، وإن ما رُوي عن معركة أخيرة كان محض خيال يهدف لإبعاد الصحفيين لحين إتمام عملية الإخلاء».
وفي الاتجاه نفسه يذهب تقريرٌ لهيئة الإذاعة البريطانية حول حدوث صفقة بين المحررين والمهزومين، وتنقل فيه وصفاً عن أحد السائقين في عملية الإجلاء: «كنا قافلة يمتد طولها إلى سبعة كيلومترات، مكونة من 50 شاحنة و13 حافلة و100 عربة لتنظيم داعش محملة بالمقاتلين والذخائر».
فراس الحاج صالح والدكتور إسماعيل الحامض وعبدا لله خليل وإبراهيم الغازي والأب باولو دالوليو ومحمد نور مطر والأخوين أسامة وحسام الحسن وهيثم الحاج صالح ومهند الفياض ومُدّثر الحسن وأحمد الأصمعي وعيسى الغازي ومحمد السلامة وعبد المجيد العيسى ومحمد علي نويران وعمر عبد القادر البيرم، وكثيرون آخرون (7419 شخصاً حسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان) هم من تصدوا لتنظيمي داعش والنصرة، وهم من فضحوا استيلاء أحرار الشام على البنك المركزي والمتحف والمؤسسات العامة ونهبها، وهم من عارضوا الدولة الأسدية في بداية الثورة، وهم من اعتقلوا من قبل الأجهزة الأمنية في بداية الثورة، حتى أن بعضهم اعتقل مرتين وثلاث، ذلك في الوقت الذي أُنجزَ فيه التفاهم الصامت بين حزب الإتحاد الديمقراطي وبشار الأسد، وتمّ السماح بموجبه للحزب بالتمّدد، إذ عاد صالح مسلم من منفاه إلى سوريا لقيادة الحزب، وقال فور عودته حسب الموقع الإلكتروني كردووتش: «لا أعتبر نظام الأسد عدواً، الحكومة التركية هي العدو».
وبادله بشار الأسد التحيّة بأحسن منها، عندما أمر بسحب قواته في منتصف عام 2012 من مناطق الكثافة الكردية، ليفسح المجال لقوات حزب الاتحاد الديمقراطي بإقامة حواجز على الطرقات تعتقل الأكراد المناهضين لنظام بشار الأسد. وقد تكون مقدمات هذا التفاهم قد بدأت منذ اغتيال «مشعل التمو» رئيس حزب تيار المستقبل الكردي، وذلك حسب ما راج على ألسنة أعضاء من حزبه، وسُمِحَ بعدها للحزب – الاتحاد الديمقراطي – بالسيطرة على إمدادات الكهرباء والماء وبعض المقرات الأمنية والحزبية التي أخلاها أعضاء حزب البعث، في وقت كان هؤلاء الرفاق يشتكون من المظاهرات التي تستهدف مؤسسات الدولة. كذلك وفي الفترة نفسها، وبالتنسيق مع الحكومة العراقية، واستكمالاً للتفاهم، سمح بشار الأسد بدخول مئات المقاتلين من حزب العمال الكردستاني بكامل تجهيزاتهم القتالية إلى سوريا، لدعم الاتحاد الديمقراطي وجناحه العسكري وحدات حماية الشعب.
وأيضاً وبعد سنة من «تحرير» الرقة، ومن كل التحقيقات والوثائق التي تم الاستيلاء عليها، لم يظهر أي شيء عن جرائم التنظيم، ولم تُجمع الأدلة عن «الهوته» البئر العميق الذي رمى فيه الدواعش عشرات الأحياء، من مناهضيهم، ومئات الجثث مِن مَن اعتبروا صحوات ومرتدين وكفار، وكلّ ما نعرفه، ونعلمه عن جرائم داعش هو ما قدمه التنظيم عن نفسه، وتم نشره من خلال وسائل اتصال يمتلكها ويديرها عبر إصدارات متوالية، وبذلك أرسى قاعدة ذهبية لكل من يشبهونه في الإجرام، أنّ «لا جريمة بدون اعتراف القائم بها، والتباهي بها عبر صور وفديوات عالية التقنية». وللإنصاف، عدا إصدارات داعش، هناك تحقيقٌ وحيدٌ عن الهوتة، وآخر عن الكتائب النسائية وحياة مجتمع نساء داعش (نُشرت في موقع الجمهورية). وهناك أيضاً بعض المعلومات عن إعدامات وقصّ رقاب، وعن حياة الناس داخل المدينة، من قبل مجموعة «الرقة تذبح بصمت»، ذهب ضحيتها شابان من مدينة الرقة تم اغتيالهما في تركيا كانتقام قام به التنظيم، وإعداماتٌ طالت من اشتبه بهم كمصادر للمعلومات. وبذلك تدخل جرائم داعش وصندوقها الأسود سرداب أسرار القوة النافذة وأجهزتها الأمنية كسرٍّ إلهي، شأنه شأن الصناديق السوداء لكل القتلة والمجرمين في المنطقة.
هناك صفقة تمت بين المحررين والمهزومين، لا أحد يعرف كيف ولماذا؟ فهل مصير المخطوفين وإخفاء جرائم داعش من ضمنها؟ هل تم ترحيل المخطوفين والمغيبين مع قوافل مقاتلي داعش التي مرت بحماية قوات المحررين؟ أم استلمتهم القوات المُحرِّرة وتم نقلهم إلى سجن عين العرب -كوباني – والقامشلي كما يُقال، مقابل الحد من تسريب حجم الدمار والخراب الذي حلّ بالمدينة.
بعد دحر النازية في نهاية الحرب العالمية الثانية تم نشر الوثائق وإنشاء محاكم لإنصاف الضحايا ومعاقبة القتلة والمجرمين، وإعادة بناء ما دمرته الحرب ضمن مشروع مارشال، لمنع وجود تربة خصبة للتنظيمات الشمولية (نازية وشيوعية). هذا ليس وارداً في بال القوى المتحالفة على اختلاف أشكالها وتموضعها وأهدافها، هي فقط تدمّر وتمشي، تشاركها القوى المحلية من الأسدية إلى حزب الاتحاد الديمقراطي إلى الكتائب الإسلامية بجميع مسمياتها، متخذين من المنطق الميكافيلي الجانب القاتل منه، فيما يُستخدم كلٌّ من هذه القِوى المحلية من قبل مُشغليها كدمية عرض الأزياء في واجهة المحلات.