مدخل
«إجوا قوات النمر. لتكون مقبرتهن عنا».
«ما بيستقووا غير بالطيران عالمدنيين».
«عم نحارب العالم كلو. بس الله معنا».
«جيش الإسلام خاين، انسحب ليكشف ضهرنا».
«أبو النصر ما بيهمه إزا راحت الغوطة. هاد إزا ما طلع عميل للنظام».
«القادات خونة، وين السلاح!».
«الوزويزات [طائرات الاستطلاع] ما عم يهدوا لنقدر نحرك السلاح».
«بدنا نصمد، ما رح نسلم».
«طولوا بالكن. في عمل عسكري ضد النظام عم نجهزله».
«قالولنا بالمفاوضات استسلموا وإلا. قلنالهن خرّوها».
«كأنو خروها مو بمحلها؟».
«معقول ينقال الغوطة سقطت بأقل من شهر وحلب ضلت أكتر!».
«هي فسطاط المسلمين».
«القادات باعوها».
«… يا أخي احسب حالك واحد دانماركي وقالولك الجنرال ألكسندر مدريكوف عم يدير معركة ضد أبو سلمو الغوطاني وأبو عبدو الدوماني، شو رح تتوقع؟».
(1)
تسعى هذه المادة إلى ذكر الوقائع التي عايشتُها ميدانياً في معركة الغوطة الأخيرة، وتفسير أحداثها والمآل الذي انتهت إليه الغوطة، والأحداث التي سبقت هذا المآل ومهدت له، بعيداً عن نظريات المؤامرة والفهم الخاطئ وسوء الظن الذي سرى في معظم تناول هذا الحدث الصادم، الذي لا يضاهيه قبله إلا سقوط حلب.
(2)
لم يفعل الحصار بثوار الغوطة شيئاً أكثر من جعلهم متعلقين بها، بعد أن ظلّوا منقطعين عن التواصل الفيزيائي مع العالم خمس سنين. لا نقول إن الحصار كان أمراً حسناً أفاد الغوطة، لكنّ العزلة شبه الكاملة وَحَّدتْ ثوارها وعسكرييها معها، رغم تفرقهم واقتتالاتهم وتنازعاتهم الدائمة، فاستثنوا من حساباتهم أن يخرجوا منها.
لم يكن السقوط أصلاً خياراً مطروحاً في أي جلسة أو نقاش دار على مدى سنوات تحرير الغوطة ليتم العمل على تلافيه، حتى بعد كل ما وصلت إليه أوضاع الغوطة في عامها الأخير. لقد أصبحت الغوطة بالنسبة لهم العالم الذي لا يزول إلا بالقيامة، العالم الذي أسماه كثيرون: فسطاط المسلمين.
كانت لدى الجميع قناعة أن طاقة تحمّل نفوسهم أصبح قياسها ممكناً بمقياس الصلابة، ولا يمكن أن تتحمّل قوات الأسد وحلفاؤه ثمن كسرها، ذلك رغم اقتناعهم أن «العالم كله» ضدهم وغير آبه بهم، وأن روسيا تستطيع بسلاحها محو الغوطة عن الخارطة.
لم يكن التحمّل مقصوراً على نقص الغذاء أو القصف اليومي أو المعارك الدورية أو صعوبة المعيشة في الحصار فحسب، بل شمل الاقتتال بين الفصائل والتنازعات الدائمة، وتجيير القضاء والشرطة، والانتهاكات المستمرة بحق النشطاء المدنيين وبحق حرية التعبير عن الرأي، وعدم الفهم لعمل المؤسسات العامة التي لا يحكمها قانون واضح أيضاً. وغشا التعوّدُ على التحمل بعدها.
«بالحصار، بيتحمل البني آدم أكتر من الحمار». هذا ما قيل مرة. وكذلك كان انطباع معظم المتابعين الخارجيين من مؤيدي الثورة: من يتحمل هذا الحصار الطويل لا يسهل كسره. كان واضحاً بالنسبة لنا «تقديسنا» و«أسطرتنا» في أذهان كثيرين.
(3)
كانت قوات الأسد قد سيطرت على أنفاق برزة والقابون بعد سقوطهما في أيار 2017، فقطعت بذلك إمداد المحروقات والدواء والغذاء وبقية الاحتياجات. وقامت في شهر آب بإغلاق الطريق التجاري من مخيم الوافدين، الذي كان يمرر الغذاء فقط وبأسعار مضاعفة عدة مرات عن أسعار دمشق المحاذية للغوطة. فعانت الغوطة خلال ستة أشهر من حصار خانق لم تعرف له مثيلاً من قبل، حتى وصلت الأسعار إلى أرقام قياسية جعلت الغوطة أغلى منطقة في أسعار الحاجات الأساسية في العالم. مات كثيرٌ من الأطفال نتيجة سوء التغذية، وجاع معظم سكانها كما لم يسبق أن حدث من قبل.
وكان كثيرٌ من الناس يحمّلون الفصائل سبب حصارهم وجوعهم، متهمينها بتخزين المواد الغذائية وحماية التجار الذين يبيعون بأسعار باهظة، ذلك رغم أن الغوطة كانت تضم حينها 375.000 نسمة، وبحساب بسيط يمكن تقدير أن ما يحتاجه السكان خلال شهر يبلغ آلاف الأطنان من المواد الغذائية، وهو ما لا يمكن أن تستوعبه أي مستودعات لأي فصيل، ورغم أنهم كانوا يرون عناصر الفصائل جوعى مثلهم أيضاً. لكن هذا التحامل على الفصائل نما بعد الاقتتالات المتكررة بينهم للسيطرة على الغوطة، وبعد تضييقهم العيش على المدنيين بقطع الطرقات «وتوعيرها» بين مناطق نفوذهم، وبتدخلهم الفجّ في الشؤون المدنية، حتى غدا الجميع كارهين لهم.
وفي 15 تشرين الثاني 2017، وبعد أن بلغ الحصار والجوع حداً غير مسبوق، أعلنت حركة أحرار الشام عن بدء معركة على إدارة المركبات في حرستا، واستطاعت محاصرتها، وهدفت من ذلك إلى قطع الطريق الدولي بين دمشق وحمص، علاوة على تحطيم أقوى حصون قوات الأسد حول الغوطة. أدركت قوات الأسد أنها أخطأت بإطباق الحصار تماماً، ففتحت الطريق التجاري أثناء حصار إدارة المركبات، لكن بأسعار تصل إلى عشر أضعاف أسعار دمشق، ويضيف عليها جيش الإسلام المتحكم بالمعبر من جهة الغوطة مبلغاً يسيراً، بعد أن نشر في أوساط الناشطين والوجهاء أن دعمه قد توقف منذ فترة ليبرر إضافة مبلغ على الثمن الباهظ أصلاً. وفترتْ همة المعارك بعد أن أعلنت قوات الأسد استعدادها للتفاوض، قبل أن تشن هجمة بمساعدة الطيران الروسي وتستطيع فك الحصار عن إدارة المركبات، وتستمر بترك الطريق التجاري مفتوحاً حتى كانون الثاني 2018، أي قبل شهر من بدء المعركة الأخيرة.
للاطلاع على الخريطة بدقة أعلى، الرابط
(4)
بدأت الحملة ليل الأحد 18 شباط 2018. كان قد سبقها خلال الأسابيع السابقة قصفٌ شديدٌ على مراكز الخوذ البيضاء والمستشفيات والمناطق السكنية، وقُدّرت أعداد الضحايا بين كانون الأول 2017 وحتى تاريخ بدء الحملة بحوالي 900 شخص، ثلثهم من الأطفال والنساء.
كنتُ في الشارع خارجاً من مستوصف سقبا حين هطلت أول صواريخ من الراجمات على منطقتنا نهار الإثنين، كان أحدها عند باب المستوصف بعد ابتعادي عنه بنحو دقيقة. 36 صاروخاً نزلت متتابعة في المدينة والمدن المجاورة. كانت لأصواتها فاعلية في النفوس أكثر من قوتها التدميرية. ركضتُ إلى بيت صديقي القريب، واتصلتُ عبر الهاتف الأرضي إلى منزلي لأطمئن على تهامة وسموّ، زوجتي وطفلتي. كان قد تم تشغيل مقسم الهاتف في المدينة على الطاقة الشمسية والمولدات منذ فترة وجيزة، وقد تبدّى كم كان ضرورياً في ظروف الحملة وانقطاع الإنترنت كثيراً بسبب قصف أبراج استقباله.
لم نكن ندرك بعد أنها ستكون حملة غير مسبوقة. عدتُ إلى المنزل منتظراً أن تهدأ موجة القصف التي كانت معتادة كل فترة. لكننا لم نعد نخرج منه إلا إلى الجيران في الطوابق السفلى أو الأقبية. وبدأت صواريخ الطائرات بإنزال المباني وأقبيتها على رؤوس ساكنيها.
نتابع على المراصد قدوم الطيران نحونا، استقبلنا حوالي 2000 تحذير على المراصد في عدة أيام. لا يمكن أن تمرّ أكثر من خمس دقائق دون سماع أحد أصوات السوخوي أو الطيران الرشاش أو طيران الاستطلاع أو المروحيات، ليلاً ونهاراً. وغالباً ما تمتزج أصواتها سوية. لم يستوعب أحد ما الذي يحدث بادئ الأمر، كانت الصدمة والذهول والخوف تغمر وجوه الناس الذين اعتادوا على المجازر والقصف طويلاً، لكن ليس هكذا!
استمرّ القصف دون تحقيق تقدم في القتال البري عشرة أيام. كان الهجوم مركزاً على امتداد مناطق سيطرة جيش الإسلام في الزريقية وحوش الضواهرة والريحان، إلى النشابية وحزرما، أي على طول خط الجبهة الشرقية للغوطة. وقد سبقتها محاولات لاقتحام دوما، معقل جيش الإسلام، من ناحية الطريق الدولي دمشق – حمص، لكنها باءت بفشل ذريع وخسائر كبيرة فتمّ إيقاف المحاولة، وكذلك جرت معارك في حرستا حول إدارة المركبات. في تلك الفترة تمّ تدمير نحو نصف الوحدات السكنية في الغوطة. وبدأ أهالي الغوطة خلالها بحفر أنفاق من الأقبية وصولاً إلى النقاط الطبية والإدارات المدنية، من مجالس محلية ودفاع مدني ومراكز إغاثة، وكذلك إلى النقاط الطبية بين المدن المتجاورة. عملٌ انتهى خلال أسبوعين، وزادت سرعته بعد بدء التقدم البري. عملٌ كان يحتاج أشهراً طويلة لإنهائه دون وقوع هذه المعركة.
بدأ التقدم البري بعد قرار مجلس الأمن 2401 بيومين أو ثلاثة، وبعد إعلان النظام الروسي لهدنة مختلفة عمّا تم إقراره في القرار. أعطى عدم تنفيذ قرار مجلس الأمن منذ اللحظة الأولى، وإعلان النظام الروسي لتلك الهدنة المخالفة للقرار، التي لم يلتزم بها حتّى، انطباعاً عاماً لدى جميع المدنيين والمقاتلين في الغوطة، الذين كانوا يعوّلون على القرار لوقف القصف، أن الحقيقة الوحيدة هي استمرار قتلهم وتدمير منازلهم وترويعهم، وأن كل ما يشاهدونه على الإعلام كذبٌ لتمرير تلك الحقيقة. كان التأثير النفسي لذلك كبيراً على الجميع، المعنويات قبله غير التي بعده.
استطاعت قوات الأسد قطع خطوط الدفاع في الجبهة الشرقية من ناحية حوش الضواهرة يوم 27 أو 28 شباط. قطعت الخندق المائي أخيراً بعد عدة محاولات، وبعدها بيومين أو ثلاثة استطاعت السيطرة على النشابية وحزرما وتل فرزات الاستراتيجي. ويصعب تحديد تواريخ دقيقة لعدم وجود إعلاميين مستقلين على تلك الجبهات حينها، وعدم شفافية إعلام الفصائل، وعدم الوثوق بأخبار قوات الأسد التي اعتادت الكذب.
كان مهندسُ الجبهة الشرقية وراسمُ خطوط دفاعها وخططها العسكرية، المهندس أبو عبد الله 200 (رضا عبد القادر الحريري). تعرفتُ عليه قبل الثورة حين كان طالباً في هندسة الميكانيك في جامعة حلب، وتربطنا قرابة بعيدة كوننا من العائلة نفسها، والقرية نفسها التي لم يعش كلانا فيها (وهي قرية علما، لا بصر الحرير كما نَشَرَ جيش الإسلام). كان يعيش في قرية القاسمية في منطقة المرج (المنطقة الشرقية من الغوطة). شخصٌ متزنٌ وهادئٌ وحادّ الذكاء، أثبتَ جدارة عسكرية وشجاعة منذ بداية العمل المسلح الذي التحق به مبكراً. قادَ لواء الإمام الحسين الذي انضمّ إلى ألوية الحبيب المصطفى الصوفية، قبل أن يلتحق بجيش الإسلام في آذار 2015، وكان يكنّ له كرهاً شديداً حدّ التخوين. حين سألتُهُ عن سبب انضمامه أشار إلى توقف الدعم عن الألوية، وأنه اختار جيش الإسلام لتنظيمه العسكري العالي، وتم الاتفاق بينه وبينهم على جميع التفاصيل.
كان يدين له معظم شباب المنطقة الشرقية بالولاء، ويعطونه ثقتهم لعدم قدرة قوات الأسد على التقدم في أي جبهة أدارها طيلة فترة تحرير الغوطة، هو الذي يحفظ المنطقة الشرقية جيداً. وكذلك نال ثقة جيش الإسلام فأصبح نائب قائد أركانه. تحوّلَ أبو عبد الله إلى مؤيد شديد لجيش الإسلام بعد أن وضع بين يديه على الجبهات إمكانات لم تتوفر له من قبل، وشارك في معظم اقتتالاته في الغوطة، بِدءاً من عملية القضاء على جيش الأمة إلى الهجوم على الاتحاد الإسلامي وفيلق الرحمن. أَسَرتْه جبهة النصرة عام 2016، وتدخل محبوه الكُثُر في مختلف الفصائل، برغم عداوتهم مع جيش الإسلام، للإفراج عنه، لما يحفظونه له من شجاعة وانتصارات في الدفاع عن الغوطة، ولأنه كان على خطوط الجبهة الأولى دوماً، وتعرّضَ لسبع إصابات بعضها كان خطيراً.
في آب 2017 تم اغتيال أبو عبد الله 200، وتم تبادل الاتهامات حول اغتياله الذي وقع في مناطق سيطرة جيش الإسلام، بين كلام غير رسمي يتهم جيش الإسلام بالتخلص منه، وبين كلام قيادات جيش الإسلام الذين اتهموا تحالف فيلق الرحمن – جبهة النصرة باغتياله.
كان لفقدانه أثرٌ على الجبهة الشرقية، حتى قبل بدء المعركة، فاستطاعت قوات الأسد التقدم من ناحية الزريقية وحوش الضواهرة بعد اغتياله. ولا أودّ القول إنه لو كان حياً لما استطاعت قوات الأسد اقتحام الغوطة، لكن ربما لم يكن ليحدث هذا الانهيار السريع، الذي زاد من تراجع المعنويات، وجعل كثيراً من المقاتلين يتركون الجبهات إلى الفوضى والتخبط.
في المنطقة الشرقية تنتشر الأراضي الزراعية، وحال تمكّنِ قوات الأسد من السيطرة على تل فرزات، أصبحت مساحات واسعة منها مكشوفة أمامها، فتقدمت خلال يوم أو يومين إلى فوج الشيفونية، وهو ثكنة عسكرية كبيرة كان يشيع بين أهالي الغوطة قبل أشهر من سقوطها أن القوات الأمريكية تريدها قاعدة لها. هكذا سيطرت قوات الأسد على كامل منطقة المرج، وتوقفت عن التقدم في مناطق سيطرة جيش الإسلام متجهةً إلى مناطق سيطرة فيلق الرحمن.
للاطلاع على الخريطة بدقة أعلى، الرابط
بعد انتهاء المعركة، اتهم مناوئون لجيش الإسلام، وأهمهم وائل علوان الناطق باسم فيلق الرحمن، الجيشَ بالانسحاب عمداً من منطقة المرج بهدف كشف ظهر مناطق سيطرة فيلق الرحمن التي لا يوجد بينها وبين مناطق سيطرة جيش الإسلام خطوط دفاعية.
قابلتُ مؤخراً في ريف حلب الشمالي صديقاً لي، كان معنا في كتيبة يوسف العظمة وكان أصغر شبابها، وهو من أبناء الأقليات، وانضمَّ إلى جيش الإسلام منذ سنين ولم أقابله منذ حينها. لم يكن تغيرٌ فكريٌ قد دفعه إلى جيش الإسلام، بل حقده على عصابة الأسد هو ما جعله ينضم إلى الجهة الأكثر تنظيماً وقوة، والتي تضمن له الحد الأدنى من المعيشة. وقد أصبح لاحقاً أكثر شدة وقوة، وغدا قائد سرية في جيش الإسلام. سألتُهُ أين كان في المعركة، فأجابني بأنه كان في النشابية وتل فرزات قبل أن ينسحبوا ويتم نقل سريته إلى كرم الرصاص في مدينة دوما… دفعة واحدة!
سألتُهُ عمّا حدث في النشابية وتل فرزات، وعن سبب انسحابهم منها، فقال لي إنهم كان يبعدون عن قوات الأسد مسافة 200 متر، وإنهم في مثل هذه المسافة القريبة لم يكونوا يتعرضون لقصف الطيران أو المدفعية من قبل، بل كان أكثر ما يحدث هو مهاجمتهم بالدبابات التي يعرفون كيف يتعاملون معها، وكان لديهم مضادات دروع لمواجهتها. لكنّ الطيران هذه المرة فاجأهم. أتت طائرات السوخوي 35 و57 الروسية التي كانوا يشهدون قصفها للمرة الأولى واستهدفت كافة تحصيناتهم بدقة، بما في ذلك حتى «الجُوَر القِمعية» التي يحفرها المقاتل ليختبئ فيها مع سلاحه فقط. تم تدمير خطوطهم الدفاعية بأكملها، فاضطروا للانسحاب إلى الأبنية التي أسقطها الطيران بعد ذلك، لتتقدم إليها الدبابات والمدرعات وعربات الشيلكا، ويضطروا إلى الانسحاب نهائياً من المنطقة بعد أن لم يبقَ خلفهم سوى الأراضي الزراعية غير المحصنة.
أصدّقُ ما قاله، وأستبعدُ أن يكون الأمر «خيانة» من جيش الإسلام لكشف مناطق سيطرة الفيلق وتسهيل سيطرة قوات الأسد عليها، بعد أن استعصت جبهات الفيلق عليها من ناحية دمشق في جوبر وعين ترما وعربين وكفربطنا وزملكا منذ تحرير الغوطة. أستبعدُه ولا أنفيه تماماً، فقد فاجأنا جيش الإسلام دوماً بارتكابه أفعالاً لا تقارب المنطق بسبب ضيق أفقه وتنافسه غير الشريف. إذا كان قد ظنَّ أنه سيبقى مسيطراً على دوما بعد أن يسقط القطاع الأوسط، وإذا كانت هناك صفقة من هذا القبيل فعلاً، ثم خانها الروس والأسد لاحقاً، فإن ذلك مما يدل على خيانته للثورة وغبائه منقطعَي النظير، اللذين لا يحتاجان على أي حال إلى أن يكون ذلك صحيحاً للدلالة عليهما.
(5)
بعد سقوط النشابية وحزرما وتل فرزات، وتراجُعِ جيش الإسلام إلى ما بعد فوج الشيفونية، توقفت قوات الأسد عن التقدم باتجاه دوما، وتقدمت في الأراضي الزراعية الخاضعة لسيطرة الفيلق، وهي المحمدية والإفتريس والأشعري وبيت سوى. المحمدية تليها جسرين، والإفتريس تليها سقبا، والأشعري تليها حمورية، وبيت سوى تليها مسرابا ومديرا.
حينها اجتمع أبو النصر، قائد فيلق الرحمن، بجمع من القيادات المدنية والعسكرية والوجهاء، وأبلغهم أن العمل الأفضل الآن هو أن يدافع كل أهل بلدة عن بلدتهم، أي أن يقاتل الجسارنة في المحمدية، والسقابنة في الإفتريس، وهكذا… وتعهد بتقديم كل السلاح المطلوب للجبهات. كان ذلك يعني أن لا جبهة ستتبع له مباشرة إلا في الإفتريس وبيت سوى، فجسرين منها قائد جبهة النصرة، وبالطبع سيطلبون منه أن يأتي بقوته لحماية البلدة (والنصرة لم تكن تتجاوز 300 مقاتل في الغوطة)، وحمورية يتواجد فيها لواء أبو موسى الأشعري الذي انشقّ عن الفيلق عدة مرات. وتقديري أن عدم ربط كامل خط الجبهة بقيادة واحدة كان خطأً حتى لو قُدِّمَ لهم أي سلاح يطلبونه، رغم تذرع قادة جميع الفصائل بعدم قدرتهم على تحريك السلاح الثقيل ومضاد الطيران، لسهولة استهدافه بسبب كثافة الطيران الاستطلاعي والحربي. هذا مسلك «هوشة عرب» وليس مسلكاً عسكرياً أكاديمياً، كما كان يدعي القادة. وربما تمّ اللجوء إلى هذا كي يكون سهلاً أمر إخلاء المسؤولية في حال الفشل، وهو ما حدث لاحقاً فعلاً؛ تهيئةُ أسباب تبرير الفشل كان أول الفشل.
كان التقدم حينها متركزاً على منطقة بيت سوى، وكان واضحاً أن الهدف هو الوصول إلى حرستا وفصل الغوطة إلى قسمين بعد أن كان الطيران منذ بداية الحملة يستهدف الطرق بين قطاعي سيطرة جيش الإسلام وفيلق الرحمن لمنع إرسال مؤازرات بين الطرفين. روى قائد أركان الفيلق، أبو علي الشاغوري، وهو مقاتل مخلص ضد الأسد كان يعمل نجاراً قبل الثورة ولا يجيد القراءة والكتابة جيداً، واستشهد تالياً في المعركة في ظروف غير واضحة، أنه اضطر مع مرافق له في بيت سوى للتظاهر بأنهما ميتان لمدة ساعة ونصف بعد أن لاحقهما طيران الاستطلاع والطيران الرشاش وهما على دراجة نارية.
لم يكن القادةُ مختبئين في الأنفاق والأقبية كما كان يُشاع بين المدنيين، من كانت مهمته ميدانية كان موجوداً ميدانياً، مثل أبي علي وعامر عبيد وأبي عمران خميس وغيرهم. أما من لم تكن مهمتهم ميدانية، فليس من الوجاهة وصفهم بأنه يختبئون في الأقبية كما كان حال جميع أهالي الغوطة، أو أن أقبيتهم كانت أكثر أماناً ومزودة بالكهرباء والإنترنت، أو أنهم لا يشعرون بما يحلّ بالناس من مجازر، وهي الأقوال التي شاعت بين الناشطين والناس الذين لجأوا إلى أقبية غير مجهزة وغير مُخدَّمة، في وضع صحي ونفسي كارثيين.
الخلاف مع قادة الفصائل وأمنييهم على نقض مبادئ الثورة والتنازع مع المدنيين على السلطة، لم يكن ينبغي أن يوصل إلى رفض ترتيب وضع آمن للقيادة العسكرية، بقدر ما كان ينبغي أن يؤدي إلى الاحتجاج على تبديد كثير من جهد العسكر في معارك عبثية، وعلى تفكيرهم بالالتفات إلى السيطرة على الداخل لا إلى تجهيز إمكاناتهم لمواجهة عدونا وعدوهم وجعلها الأولوية في عملهم.
نجحت قوات الأسد بالسيطرة على مديرا ومسرابا بعد عدة أيام من سيطرتها على بيت سوى، ففرضت طوقاً على حرستا التي تسيطر عليها حركة أحرار الشام، وتمّ كذلك فصل القطاعين عن بعضهما ليصبح الفيلق معزولاً عن جيش الإسلام، وكذلك أحرار الشام معزولة في حرستا.
للاطلاع على الخريطة بدقة أعلى، الرابط
حينها تيقنتُ أن الغوطة ستسقط لا محالة، وأنها مسألة وقت وحسب. كنتُ جالساً مع ضابط كبير كان في المجلس العسكري لدمشق وريفها لفترة قبل أن يعتزل العمل العسكري منذ سنين، حين وصلته رسالة من ضابط صديق له في جيش الإسلام، يقول له فيها بعد أن سأله عن الوضع: «للأسف قطاعكم كله سيسيطر عليه النظام والفيلق لن يستطيع الصمود وسينهار، وهذه نتائج أفعال أبو النصر الكلب».
رغم أن خطابَيّ جيش الإسلام وفيلق الرحمن كانا شديديّ التأكيد على التعاون والتنسيق بينهما، لكنّهما أيضاً كانا يتنافسان على ادعاء الكفاءة العسكرية لتبرير اقتتالاتهما، التي لم يكن للكفاءة العسكرية نصيبٌ في مسبباتها. أحدهما يريد أن يقول للآخر أنه لو كان أتيح له القضاء عليه والسيطرة على كامل الغوطة لكان الوضع أفضل. وهذا ما ردده قادات في الفيلق بعد سقوط النشابية، وردده قادة في جيش الإسلام بعد ذلك.
بعد فصل القطاعين، بدأت قوات الأسد بالتقدم في الأراضي الزراعية في المحمدية والإفتريس والأشعري لتصل إلى جسرين وسقبا وحمورية، مدن وبلدات قلب الغوطة. تعرضت حينها حمورية، المتاخمة لبيت سوى والأشعري، إلى حملة قصف غير مسبوقة. دُمِّرَ معظم المدينة، وقُصِفت بالكيماوي عدة مرات، وقضى سكانها ليلة كاملة مع المروحيات التي لا تتوقف عن رمي البراميل كل بضع دقائق. كانت ليلة شنيعة عليهم. وبعدها قررت مجموعة من الوجهاء والناشطين التفاوض مع قوات الأسد، بعضهم أعرفه جيداً وأعرف عمله الثوري، دون قبول لواء الأشعري في البداية، لكنّ حادثة المسيرة المؤيدة التي رفع فيها بعض أهالي المدينة علم قوات الأسد، وهتفوا «للوحدة الوطنية»، جعلتهم يغضون النظر عن خروج لجنة التفاوض إلى دمشق. وحين عادت اللجنة بورقة اتفاق، وهو الاتفاق ذاته الذي تم إقراره في النهاية، رفضته قيادة لواء الأشعري في البداية، لكنها مع ضغط المدنيين أعلنت قبوله لاحقاً، فيما كانت بقية المدن ترفض اتفاق لواء الأشعري لوحده مع قوات الأسد لتسليم حمورية، إما من أجل انضمام بلداتهم ومدنهم إلى الاتفاق، أو رفضاً قاطعاً لأي تسليم أحادي أو جماعي.
وفي صباح تنفيذ الاتفاق اختفى قائد اللواء وكل قياداته. بحثت اللجنة عنهم ولم تجدهم. لم يعودوا يجدون سبيلاً للتهرّب من الاتفاق سوى الاختفاء عن الأعين، فعادت قوات الأسد إلى قصف المدينة.
بدأت تتردد أخبارٌ عن أن قوات الأسد سيطرت على كتيبة الإفتريس ووصلت إلى أراضي جسرين. كانت السيطرة على كتيبة الإفتريس تعني أن قوة عناصر الأسد زادت أكثر من ذي قبل، باعتبار أن القاعدة ستصبح منطلقاً لعملياتهم بالقرب من سقبا وحمورية وجسرين، ومكاناً لتموضعهم.
كان الخبر قد وصل من النساء، كما كانت الأخبار قبلها تصلنا، ويتضح بعد فترة أنها صحيحة. لمدة يومين كنا نتواصل مع القادة الميدانيين حول الخبر وكانوا ينفونه تماماً: «بس دبابة فاتت عالكتيبة وعم نتعامل معها». هذا آخر ما حُرّر من أخبار، قبل أن ألقى صديقاً يقاتل على جبهة الإفتريس ليخبرني أنه تَرَكَ الجبهة أمس ليهتمّ بأمر أسرته وأهله، وأن قوات الأسد منذ يومين تسيطر على كتيبة الإفتريس واقتربت من الدخول إلى أراضي سقبا. صَدَقتْ أخبار النساء دوماً، فيما كانت أخبار قيادات الفيلق تتبع النهج «الصحّافي».
بعد أن تأكد خبر السيطرة على الكتيبة، بدأ القادة يؤكدون أنهم قاموا بتحصين «خط الصرف الصحي» جيداً، وهو الخط الفاصل بين الأراضي الزراعية وبداية الأبنية السكنية في مدن قلب الغوطة، وأن هناك عملاً ضخماً يتم تجهيزه لقلب الدفاع إلى هجوم. لم يمرّ على كلامهم ساعات قبل أن يصلنا من النساء أن قوات النظام قطعت خط الصرف الصحي بين سقبا وحمورية وأصبحت عند الطاحون، وهي المنطقة التي قُصِفت عدة مرات بالكيماوي خلال المعركة. وهذا يعني أنها ستصبح في قلب حمورية وسقبا خلال ساعات. عزمتُ مع عائلتي على النزوح. حاول الأصدقاء منعي معتبرين أنها مجرد شائعات، وأنني سأعرّضُ عائلتي «للشنشطة والبهدلة». فأجبتهم أن أخبار النساء لم تَخِب منذ بدء المعركة، وأن هذه الشنشطة هي البداية فقط والقادم أمَرّ. ذهبتُ وقابلتُ أحد قيادات الفيلق ونصحته بالتسليم حماية لأرواح المدنيين، والاكتفاء بما دُمِّرَ من بيوت السكان التي تهدم أكثر من نصفها في كل الغوطة، وأنه لا مجال للمقاومة بعد هذا الانهيار. كان ردّ فعله عنيفاً ووصفني بالمُخذِّل. نزحتُ قبل هبوط الليل إلى حزّة.
في ظهر اليوم التالي اتضحت الأمور دفعة واحدة. نزح المدنيون من سقبا، خرجوا بثيابهم ولم يحملوا شيئاً سوى أطفالهم. كانت قوات الأسد قد تسللت من منطقة الطاحون وسيطرت على حمورية، ووصلت إلى الصرف الصحي من الناحية الشرقية لسقبا، وأصبحت في بداية الأبنية السكنية في جسرين. قيل إن المدنيين أجبروا المقاتلين على تركهم يخرجون من الغوطة بعد أن رفض لواء الأشعري الاتفاق، فيما كانت قوات الأسد والقوات الروسية تتحدث عن فتح معابر للمدنيين منذ بداية الحملة.
استغلت قوات الأسد هذا المعبر من منطقة الطاحون لتدخل بالدبابات وتسيطر على حمورية. خرج شباب سقبا للدفاع عن مدينتهم، واستطاعوا منعها من التقدم برغم تلاصق حمورية وسقبا، وكانوا يدافعون من ناحية الصرف الصحي أيضاً. قابلتُ شخصاً من قيادات الفيلق في حزّة حينها. قال إنهم لن يستسلموا ولن يعترفوا بالهزيمة حتى لو وصلت قوات الأسد إلى باب بيته. كان واضحاً لي أن قوات الأسد ستتمكن من اجتياح الغوطة كلها، وأن الفيلق متعالٍ على الواقع المرير، خصوصاً بعد خطاب أبو النصر قائد فيلق الرحمن عن الصمود والتصدي، برغم انهيار قدراته الدفاعية وانسحاب كثير من شبابه من خطوط النار وتحوّل القتال من طرفه إلى فوضى دون تنظيم. كان هذا يعني أنها فرصة ذهبية لقوات الأسد لتعتقل الجميع أو تقتلهم أو تسوقهم إلى القتال معها، فلا اتفاق يبدو أن الفيلق سيقبل به كما حدث في داريا أو غيرها.
في صباح اليوم التالي قال لي حميَّ إنه سيخرج مع حماتي من المعبر، تمنيتُ لهما الوصول بالسلامة، فقال لي: وتهامة وسموّ؟ نظرتُ إلى زوجتي فعرفتُ أنها ترفض الخروج، لذلك كلمني حميَّ من أجل إقناعها. في النهاية حملتْ سمو، وخَرجَتا معهما. كانت لحظة الوداع عصيبة، قلت لهم أن لا يبحثوا عني أو ينتظروني في حال استطاعت قوات الأسد اجتياح الغوطة، وودّعتهم وأنا مقتنعٌ أنني لن أراهم بعدها، لأنني سأفعل جهدي أن لا يمسكوني حياً. لحقتهم لأراقبهم من بعيد، كانت سمو سعيدة للخروج من القبو وكأنها ستخرج «مشوار». دخلتُ منزلاً مهجوراً، وبكيت.
قررتُ النزوح إلى زملكا. كنتُ قد بدأتُ أسمع أصوات الرصاص من كفربطنا، ولم أتوقع سوى أن قوات الأسد استطاعت التقدم من ناحية منطقة الزور إلى كفربطنا، ولم أكن قد سمعت بالضفادع قبل وصولي إلى زملكا.
للاطلاع على الخريطة بدقة أعلى، الرابط
(6)
في زملكا ذهبتُ إلى قبو المجلس المحلي وأصبحتُ أنام فيه ليلاً لوحدي غالباً، أو برفقة الحارس الليلي الذي أوكل لي مهمته بعد يومين. في المجلس أُتيحَ لي أن أحتكّ أكثر بقياديين، وحين وصلتُ إليه كان الحديث عن الضفادع الذين تسلحوا ليقاتلوا لصالح قوات الأسد في كفربطنا. أسموهم الضفادع نسبةً إلى الشيخ بسام ضفدع، وهو شيخ كان مؤيداً للأسد في بداية الثورة وقام بتسليم متظاهرين من مسجده. روى لي صديق عن حادثة تسليم الشيخ لأخيه من المسجد إلى الشبيحة أثناء بدء مظاهرة اقتحموا فيها المسجد قبل خروج المتظاهرين إلى الخارج، وما زال معتقلاً إلى اللحظة. ظننتُ أنه أساء فهم الموقف حينها، فالشيخ الذي وجد الشبيحة فوق رأسه في المسجد كان عليه أن يتعاون معهم، وإلاّ! فكيف يمكن لشيخ أن يجعل سمعته تحمل صفة «عوايني» علناً بكل ما لها من تقبيح اجتماعي؟ وكيف يمكن أن يُفسَّر بقاؤه في الغوطة طيلة هذه السنين وخلال كل الأهوال التي عاشتها الغوطة؟!
بقي الشيخ في منزله ومسجده، لم يؤذه أحدٌ على عكس ما حدث للشيخ المؤيد الآخر في كفربطنا، مأمون رحمة، الذي قطعوا له أذنه قبل أن يخرج ويصبح إمام المسجد الأموي في دمشق. وبعد تحرير الغوطة لم يتعرض له أحد، كما أن خطابه أصبح محلياً مركّزاً على مصالح المدينة وأهلها، وتوقف عن تأييد الأسد أو الدعوة له، مقتصراً على الجانب الديني الروحاني في أغلب خطبه.
كان للشيخ مريدون ومحبّون كثر في كفربطنا، يصفونه بغزارة العلم والهدوء والانزان، وقد اتضح هدوؤه وثقته بنفسه في فيديوهاته التي ظهرت مؤخراً. على عكس مأمون رحمة الذي يبدو انفعالياً ومستفزاً حين يظهر في خطب الجمعة في الأموي، وربما هذا ما جعل الاعتداء على الأخير ممكناً في بيئة تجعل للمشايخ حصانة وتحفظ للتركيبة الأهلية قيمتها.
لم يشارك الشيخ في أي عمل ثوري، سوى أنه أصبح أحد المشايخ الذين تضمهم «الهيئة الشرعية في دمشق وريفها»، وهي هيئة صوفية أشعرية شافعية قريبة من «الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام» الذي انضم عام 2016 إلى فيلق الرحمن، وتأخذ إدارتها دور المرشد للاتحاد. وكان يوجد مقابلها «الهيئة الشرعية العامة» ذات التوجه الحنبلي السلفي، التابعة لجيش الإسلام. كما أنه كان يحضر اجتماعات مشايخ وولائم كما يفرض «الجو الاجتماعي».
كانت معيشة المشايخ يسيرة في الحصار، فقد كانت تُقدَّمُ لهم الرواتب والمعونات دورياً، ولم تصل الحال بأحد منهم إلى الجوع، كما أن مكانتهم ظلت محفوظة، بل تعززت مكانة بعضهم حين دخلوا إلى مواقع النفوذ والسلطة. أقول كل ما ذكرته عن الشيخ آنفاً لأشرح الوضع وما أُقدِّرُ أنه سببُ بقائه، بعيداً عن فرضية أنه بقي ست سنوات لأنه يتهيأ لهذه اللحظة كما أُشيِع كثيراً. الرجل بقي في مدينته وبيته ومسجده وبين مريديه وأقاربه وأهله، بعد أن أَمِنَ عدم التعرض له وعدم الجوع وعدم إنقاص مكانته.
حين بدأ الشيخ يدعو شباب الفيلق من أهل كفربطنا إلى الدخول في «مصالحة»، استجاب له عشرات الشباب في البداية، فجاؤوا إليه بسلاحهم. كانت قوات الأسد حينها قد سيطرت على حمورية وجسرين ودخلت الجزء الشرقي من سقبا، أي أن دخولها إلى كفربطنا كان مسألة وقت، وكان الشيخ يحاول أن يكسب من الوضع الجديد، وقال للشباب الذين استجابوا له حينها أن يخبروا الناس بأنه لن يتم قصف كفربطنا بعد الآن لأنه «أخذ ضمانات من النظام» ليدخلها الأخير دون قتال. بعد ساعات حدثت مجزرة النابالم في كفربطنا التي راح ضحيتها العشرات حرقاً. وتدخلت جبهة النصرة في اليوم التالي لتقبض على الشيخ، فاشتبكت مع شبابه. تدخل حينها أبو النور حسام نمور، أكبر قيادي عسكري من كفربطنا في فيلق الرحمن، ليحاول وقف القتال ويقوم بحلّ الأمر سلمياً مع الشيخ. وكان عنيفاً في رده على مقاتلي النصرة من أجل عدم التدخل في الشؤون الداخلية لكفربطنا، وأنه سيقوم بحل المشكلة داخلياً دون تدخل. فقتلته جبهة النصرة التي شكّت أن يكون متعاوناً معهم. هنا ثار شباب كفربطنا في الفيلق ضد النصرة وقاموا بالاقتتال معهم، وربما ظنوا أن حسام نمور قد انحاز للشيخ، وهو ما لا يمكن الجزم به، لكنّ ما يمكن تأكيده هو أن العصبية الأهلية و«لحمة البلد» تحركت لديهم ليواجهوا النصرة بعد قُتِلَ قائدهم، وليقفوا في صف الشيخ بعد أن رأوا أن قوات الأسد ستدخل لا محالة وأن هناك فرصة للبقاء دون تعرضهم للأذى، وربما يعاملون معاملة خاصة بعد قيامهم بالانقلاب على الفيلق والتحوّل إلى ميليشات مع قوات الأسد قبل دخول الأخيرة إلى كفربطنا.
أي وباختصار، لم يكن الضفادع سبباً في سقوط الغوطة كما أُشيع، ولم يكن لهم دور هام، وقد تم تضخيم دورهم من الطرفين، من قوات الأسد التي أرادت أن تُظهر أنها تعمل منذ سنين على ميليشيات تابعة لها في الغوطة، ومن العسكر والناشطين الذين حمّلوهم مسؤولية دخول قوات الأسد إلى الغوطة بعد أن «أتونا من بين ظهرانينا».
(7)
في زملكا، حيث قيادة فيلق الرحمن ومعظم مستودعات سلاحه، كان التخبط جلياً أكثر: عناصر يأتون ويشتمون القيادات وجهاً لوجه، والأخيرون يشتمون القيادات الأعلى منهم. وتأخذ بعضهم الحمية فيخرجون إلى الجبهة، ليعودوا بعد ساعات ويشتموا مجدداً. أحدهم قال إنه لو أن قوات الأسد تعرف أن لا شيء أمامها سوى بضع شباب ببواريد، لأصبحت خلال ساعتين في زملكا. شاب آخر بدأ يتواصل ويجمع معارفه من المقاتلين ليتعاهدوا على عدم خيانة الثورة مهما حصل، وأن يقوموا فوراً بقتل أي أحد يدعو إلى «المصالحة» لتجنب ما حدث في كفربطنا وحمورية. فيما كانت تأتي قيادات لتهدّئ الشباب وتعدهم أن العمل قريب، ويعني ذلك معركة باتجاه دمشق.
أحد قيادات الصف الأول في الفيلق جاء إلى المجلس المحلي وقال أمام الجمع، بعد أن أكّدَ على استحالة قدرة قوات الأسد على إكمال هذه المعركة: استراتيجيتنا الآن هي استيعاب الخرق، ثم تثبيت النقاط، والانتقال إلى الهجوم.
ضحكنا كثيراً أنا وأحد الأصدقاء بعد انتهاء اللقاء ونحن نكرر تلك العبارة، رغم انهيارنا النفسي، وقلّدنا حركات يديه حين وسّعهما وهو يقول كلمة «خرق». كانت حركة اليدين واسعة أكثر من «خرق» بعد أن سقط أكثر من نصف الغوطة، وغدا مستحيلاً تثبيتُ النقاط ومترسةُ هذه المساحة بين اليدين اللتين تتحركان كالسكين وهما تثبتان النقاط، ثم تنتقلان إلى الهجوم بعكس الاتجاه، أي إلى دمشق.
مررنا في تلك الفترة بوضع مأساوي أصعب من أن يوصف، الطعام قليل جداً، الإنترنت بطيء ومنقطعٌ معظم الوقت، الكهرباء قليلة، حياتنا بالكامل تحت الأرض، والانتقال بين المجلس والمشفى والأقبية كله تحت الأرض، والقصف متركز على المجلس المحلي والمشفى وقيادة الأركان. لا محالّ مفتوحة، ولا أي شيء يباع غير الدخان بسعر باهظ، وبالسيجارة لا بالعلبة. قوات الأسد تتقدم في طريقها إلى زملكا بعد أن سيطرت على حزّة وكفربطنا. أقسمَ لي أحد المقاتلين أنه كان مع ثلاثة شباب آخرين وبواريدهم حين صدوا تقدم دبابات الأسد ومُشاته إلى زملكا عند مفرق عربين. أخبار كثيرة وشائعاتٌ متناقضة، كالتي قيل فيها إن عبد الناصر شمير قائد الفيلق خرج من الغوطة عبر نفق، بعد أن ظل لأكثر من أسبوع مجهول المكان، وأنه ذهب إلى أخيه الضابط في الحرس الجمهوري؛ وأخرى حول قرار تسليم جميع شباب الغوطة ليذهبوا ويقاتلوا مع الأسد في إدلب، إضافة إلى علمنا ببدء تسليم حرستا وتهجير المقاتلين والناشطين إلى الشمال بعد أن عانوا أياماً عصيبة في بقعة صغيرة محاصرة. علاوة على أن قوات الأسد كانت تتقدم ليلاً، فنستفيق على أنباء متضاربة حول المكان الذي وصلت إليه.
في الساعة الثانية ليلة 23 آذار، كنتُ نائماً في المجلس عندما أيقظني شخصٌ وهو يقول: «وين سلاحك؟؟». أجبته قبل أن أفتح عينيّ: «أنا مدني ما معي سلاح»، فقال لي: «قوم مندبرلك بارودة». حينها فتحتُ عيني ونظرتُ إليه، لم يكن من جنود الأسد كما ظننتُ عند سؤاله الأول، وكان صوت الرصاص وقصف الدبابات قريباً كما لم يكن من قبل. فسألته: «وين صاروا؟». فسألني: «ما بدك تدافع عن أرضك وعرضك؟»، فسألته: «يا أخي وين صاروا؟». فقال بعصبية: «قوم هلأ وتعا معنا. شب بعمرك لازم يكون عالجبهة مو نايم»، فقلت: «يا أخي أنا طبيب ورايح هلأ عالطبية. بس قلي وين صاروا؟»، فقال: «عند المزرعة». لم أعرف أين هي المزرعة، لكنها حكماً في زملكا التي لم يهمّني أن أعرف أسماء مناطقها خلال نزوحي، عرفتُ ذلك لأنه لم يقم بتسمية إحدى البلدات أو المدن. بعدها سألني عن عدة أشخاص يتواجدون عادة في المجلس نهاراً، فقلت له: «بيكونوا نايمين بأقبيتهن»، فشتمهم ومضى معي من النفق نفسه ليبحث في الأقبية عن متطوعين للقتال.
حين وصلتُ إلى المشفى كانت القيامة أمامي، مئات من الناس يحملون أطفالهم وأغراضهم، جرحى وشهداء بالعشرات، وأصوات الاشتباكات والقصف تصمّ الآذان. اقتربت من أحدهم وسألته: «وين المزرعة؟»، فقال لي ببداهة: «هون». ولا يمكن أن أصف كم كنتُ مسروراً بتلك المعلومة!
للاطلاع على الخريطة بدقة أعلى، الرابط
نزح معظم الناس من أقبيتهم التي وصلت إليها قوات الأسد إلى أقرب قبو إليهم، المشفى الميداني. بدأ شبابٌ يصرخون بالناس للتطوع في القتال. خرج معهم عشرون شاباً تقريباً. عاد معظمهم جريحاً أو شهيداً. جاءت مؤازرات جديدة، واستمرّ القتال حتى مطلع الصباح. بدأَت الأصوات تبتعد رويداً رويداً. رأيتُ ذات الشاب الذي أفاقني من نومي فقال لي: «بعدناهن لبعد مفرق عربين».
عدتُ إلى قبو المجلس، وكان الجميع قد تخلى عن اتزانه وبدأ يشتم. وبعد ساعات جاء أحد قادة الفيلق ممتعض الوجه وجلس وهو يدخن دون أن يسلّم، فسأله أحدهم: «شو؟»، فقال: «شو شو؟… انهزمنا. طول الوقت ونحنا عم نقلكن في عمل. بس ما حدا تجاوب معنا. ولا حدا رفع همّة الشباب. كل الوقت عم تحاكونا بشو إمكانياتنا وما حدا بدو يقاتل. كلكن كنتو قاعدين تحبطوا أبو النصر بدل ما تعاونوه. ولا حدا منكن إجا وقلّه بدنا نقاتل. تقعدوا تسألوا عن التفاصيل لتقولوا ما في أمل وخلينا ندور على خروج آمن…». قاطعه أحدهم: «يعني في خروج آمن…؟» فقال: «أي». تركه معظم الموجودين واتجهوا خارج المجلس، وأنا ذهبتُ إلى الأريكة لأنام.
(8)
في المساء أفقتُ على أصوات جمع في الصالة. ذهبتُ إليهم حتى لا أُضيّعَ مجلساً كهذا في لحظة كهذه. كان الإحباط والحزن على الوجوه، رغم عدم تصديقي لكثير منها. كان هناك شيخٌ يسأل عما سيقولونه لتلاميذهم وللناس تبريراً للهزيمة، بعد ما كانوا يقولونه طوال سنين عن الغوطة من أنها فسطاط المسلمين يوم الملحمة الكبرى. قاطعتُه وقلتُ ببداهة: «بسيطة. الحديث ضعيف». ضحكَ الجمع من حيث لم أتوقع، فتابعت: «وفي ناس معتبرينه موضوع». كانت الحوارات مشتتة بين تفاصيل الاتفاق وبين ما وصلنا إليه: جلدٌ للذات. تبرئةٌ للنفس بتوحد كل العالم ضد الغوطة. عفرين التي يقال إننا سنذهب عليها جميعاً. أربعينيٌ يكلّم صديقه في إدلب، ويسأله أمام الشيخ إن كان عندهم ويسكي شيفاز. مسنٌّ لم يستوعب ما يحدث، ويكرر السؤال عما يجب أن نفعله الآن لنبقى في الغوطة.
أتى بعدها مقاتلون من جوبر. لم تستطع قوات الأسد التقدم على هؤلاء الأبطال قيد أنملة طوال خمس سنين. أصبحت جوبر خراباً ودُمِّرَت كل أبنيتها، ولم يتراجعوا. كانت صدمة لهم أن يُقال: ستخرجون إلى إدلب. لم يستوعبوا بعد حقيقة أن الغوطة انتهت خلف أظهرهم، رغم نجاحهم طيلة قتالهم في تركيع قوات الأسد. كانوا يتحدثون عن قدرتهم الآن على دخول دمشق. شعرتُ بالمرارة عليهم أكثر من أي أحد. لا يستحقون هذه النهاية، ولا شكّ عندي أنها ليست نهايتهم.
(9)
في دوما كان جيش الإسلام يُشيعُ بين الناس أن أمرنا لن يكون مثل القطاع الأوسط، وأن هناك مفاوضات على البقاء وإيجاد حلّ مع النظام الروسي ليكونوا قوة حكم ذاتي مع إعادة مؤسسات الدولة إلى العمل. وفي اجتماعاتهم مع اللجنة المدنية (التي سنذكرها لاحقاً) ضربوا مثال غزة.
ن أستفيض في شرح تفاصيل ما حدث في دوما خلال المعركة، وأُقدّرُ أن هناك كُتّاباً كانوا في دوما حينها يستطيعون سرد ما جرى بدقة ودراية أكثر مني. لكن سآتي على بعض التفاصيل التي أظنها تستحق الذكر.
في بداية المعركة تشكلت (الكتلة المدنية) من أعضاء في مجلس محافظة ريف دمشق التابع للحكومة المؤقتة، والذي يوجد مكتبٌ له في الغوطة، ومن قيادات مدنية وناشطين، لتعبّر عن الموقف السياسي لهم وتبتعد عن نزاعات الفصائل واختلافاتها في الرؤى، ولتكون صوت الخيار المدني في الغوطة. وكان معظم أعضائها متواجدين في دوما. لكن الفشل في إيجاد حلّ موحد للغوطة جعلها تضمحل، ويتحول أهم أعضائها تالياً إلى (اللجنة المدنية) للتفاوض مع النظام الروسي عن مدينة دوما.
رفض جنرالات الجيش الروسي أن تتدخل اللجنة المدنية في مصير السيطرة على دوما، وأرادوا أن تقتصر «نقاشاتهم» مع اللجنة على النواحي الإنسانية وما سيُتفَق عليه بخصوص المدنيين بعد خروج جيش الإسلام من المدينة، مُصرّين على أنهم لن يناقشوا الأمور العسكرية إلّا مع العسكر.
كان ذلك تحويلاً للتفاوض من الروس إلى جيش الإسلام الرافض للخروج. جرت بعدها نقاشات كثيرة بين قيادة جيش الإسلام وبين اللجنة المدنية، وجرى فيها سرد الثورة من بدايتها و«جرد حسابها». بعد أن عرضت اللجنة المدنية أسبابها التي تراها وجيهة لأخذ خيار الخروج، قال كعكة: «يا إخوان علينا أن ننتبه لأمر هام. حين أمرض أذهب إلى الطبيب ليعالجني ولا أناقشه في علمه. وحين أريد عملاً هندسياً أذهب إلى المهندس. وفي هذه القضية التي هي قضية شرعية يوجد لها مختصّ، وهي من اختصاصي، وأقول لكم يا إخوان أن الذي تقولونه شرعاً لا يجوز… لا يجوز».
وبعد أن ردّ عليه طبيب في الجلسة بأن لهم الحق في المشاركة بالقرار لأنها ثورة شاركوا فيها منذ البداية، وأنهم الأساس قبل أن يأتي العسكر عليها، قال له كعكة: «نحن بالأساس لم نكن موافقين على خروج المظاهرات، كنتُ في سجن صيدنايا حين قمتم بمظاهراتكم، وكان البعض يستفتوني فيما يحدث، فأجيبهم أن المظاهرات حرام ولا يجوز الخروج على الحاكم. لكن عندما أذن الله بجهاد الشام، خرجنا للجهاد، وقد أذن لنا علماؤنا بجوازه، وكلكم هلّلتم لنا حين كنا نُحقّق الانتصارات. والآن لم نعد نعجبكم. الجهاد صولات وجولات وفيه ابتلاء ومحنة، وعلينا بالصبر».
فسأله أحدهم: «وهل سألتم مشايخكم عن رأيهم الآن؟»، فأجاب بصراحة: «بالطبع، وكان رأيهم أن الخروج أسلم، لكن هناك واقعاً على الأرض لا يحيطون به كما نحيط، ونرى أننا قادرون على البقاء في أرضنا». وأردف: «عندما أنهيتُ الصلاة في المسجد جاء إلي طفل وسألني: «أنت كعكة؟» فأجبته نعم أنا أبو عبد الرحمن، فقال لي إن هناك شائعات أنني خرجتُ مع قيادات جيش الإسلام خارج دوما، فقلتُ له أين سأذهب وأترك دوما. أنا سأظل معكم وبينكم»، وبكى وهو يقول: «لمن سنترك هذا الطفل من بعدنا؟!».
وصلت النقاشات إلى طريق مسدود وحدثت انسحابات متكررة من الجلسات التي كانت تستمر لساعات طويلة، إلى أن قال قائد جيش الإسلام، عصام البويضاني: «يبدو أننا لن نلتقي في خياراتنا، ولذا علينا أن نجد حلاً توافقياً. من شاء الخروج فليخرج، ومن شاء البقاء فليبقَ. ونستطيع في التفاوض أن نؤمّن خيار الخروج، أما من يريد أن يبقى فلا يجبره أحد».
لم يترك طرحه مجالاً أمام اللجنة المدنية لترفض ما وصفه أحدهم لاحقاً «بالمقامرة بالمدنيين». وخرجت أول دفعة في أول نيسان. ويبدو أنه تم إيهام القوات الروسية أن المقاتلين سيخرجون تالياً على المدنيين، لكن عندما أعلن جيش الإسلام في 6 نيسان أن الدفعات انتهت، عرفت القوات الروسية أن جيش الإسلام اختار المواجهة، فعادت إلى القصف وارتكاب المجازر. وبدأت قوات الأسد هجومها البري، وكللت نهاية مجازر الغوطة بقصف الكيماوي يوم 8 نيسان، فاختار بعدها جيش الإسلام الانسحاب، و«عادت» الغوطة إلى «حضن الوطن» الذي يقع «سقفه» تحت «البوط العسكري» تماماً.
لكن جيش الإسلام كان يخبئ مفاجأة لمؤيدي الأسد، وللقوات الروسية، ولنا جميعاً. وهو موضوع المختطفين والمعتقلين لديه. كانت القناعة أن هناك آلافاً من المخطوفين لديه، وظلّ يلعب على هذا القناعة حتى آخر لحظة، ويستخدمها كورقة للضغط في التفاوض. وحين أعلن موافقته على الانسحاب، وتسليمهم لقوات الأسد، لم يخرج إلا بضع مئات. كان آلاف الأهالي ممن كانوا يظنون أقاربهم مخطوفين ينتظرون في ملعب الفيحاء بدمشق قدومهم، قبل أن يكتشفوا أن لم يبَق أحدٌ لدى جيش الإسلام. وكان الفيديو الشهير الذي اتهموا فيه وزير المصالحة ببيع أولادهم، وعفّشوا شعاراتنا لينادوا بإسقاطه، كما أسقطوا محافظ حمص مراراً، دون أن ينسوا الهتاف لفداء «صرماية» بشار الأسد.
(10)
ربما يبقى تساؤل أخير بما يخص «الضفادع» والحالات المشابهة التي حدثت في المدن والبلدات التي دخلتها قوات الأسد: أين قضية الثورة لدى هؤلاء المقاتلين الذين كانوا محسوبين عليها؟ أين عداؤهم للأسد الذي ارتكب المجازر المروعة بأهلهم وأطفالهم حتى ساعات قبل دخوله إليهم؟ أين العقيدة؟!
هذا السؤال مُثقَلٌ بما جرى طوال ست سنين، وسأحاول الإجابة عليه في حالة الغوطة بأقصر وأوفى ما أقدرُ عليه.
قبل تحرير الغوطة ومع بدء العمل المسلح، على يد مقاتلين محليين بغالبيتهم خرجوا من أجل تخليص مدنهم وقراهم من إجرام الأسد وعصاباته، واجهت هؤلاء مشكلة التصرّف مع جواسيس الأسد وجنوده والمتعاونين معهم، هل يقتلونهم أم يأسرونهم أم يبادلون عليهم مع معتقلين لدى الأسد؟ لم يكن من السهل حينها، مع عدم التعود على القتل آنذاك، أن يقتلوا أي «عوايني» أو أسير من جنود الأسد، خصوصاً أن كثيراً من الأخيرين قد يكونون ممن يؤدون الخدمة الإجبارية في الجيش، ولأنه «لا يزال المسلم في فسحة من دينه ما لم يُصِبْ نفساً حراماً»، فلجؤوا إلى المشايخ ليفتوا لهم بما يجب فعله مع كل شخص. قلّةٌ من لم ينضبطوا في هذا الطريق و«استحلّوا» لأنفسهم قتل العواينية والأسرى، وهؤلاء كان شعارهم «علينا الدرز وعلى الله الفرز». في بعض الحالات لم يكن من السهل اتخاذ القرار فيها من شيخ لوحده، فكثيرٌ منهم ليس لديه تحصيل أكاديمي أو تخصص في هذه الشؤون، ولذا تم تشكيل «هيئة شرعية» في كل مدينة وقرية من تجمع مشايخها، لتقود «التوجيه الشرعي» في مواجهة الأسد وعصاباته.
بعد تحرير الغوطة من قوات الأسد نهاية عام 2012، أوقف الأسد عمل مؤسسات الدولة فيها، كالبلدية والمنشآت الطبية والمؤسسات الاستهلاكية والسجلات المدنية والعقارية وكل شيء، وقطع الماء والكهرباء وأي خدمات ممكنة، وترافق ذلك مع القصف المستمر يومياً. لم تكن آنذاك قد نشأت مؤسسات سوى الهيئات الشرعية والمكاتب الطبية والمكاتب الإغاثية، فحملت الهيئات الشرعية على عاتقها تنظيم الأمور الخدمية والإدارية، وأنشأت ضمنها مكاتب قضائية وخدمية، قبل أن يتم تشكيل عدة هيئات شرعية موحدة من الهيئات الشرعية في المدن والقرى والتابعة للفصائل العسكرية (وهو ما يحتاج بحثاً منفصلاً فيها)، كان أبرزها الهيئة الشرعية لدمشق وريفها، ذات النفوذ الواسع في نواحي كفربطنا وعربين والمليحة، أي القطاع الأوسط والجنوبي من الغوطة. والهيئة الشرعية العامة ذات التوجه (الحنبلي – السلفي) التي كان نفوذها محصوراً في مؤيدي لواء الإسلام آنذاك، وهي تابعة له. والسلفيون كانوا أقلية لا تتجاوز 5% بين سكان الغوطة، معظمهم في مدينة دوما التي يشكلون فيها أقلية أيضاً، ذلك قبل أن يتوسع نفوذ لواء الإسلام الذي تحوّلَ إلى جيش الإسلام بعدها، ويصبح مهيمناً على قطاعي دوما والنشابية.
بعدها نشأت مجالس محلية في المدن والقرى، تسعى إلى تصدّر العمل المدني وتقديم الخدمات للسكان والتمثيل السياسي. كان هيكل المجالس يضم غالباً، تحت رئاسة المجلس، مكاتب إغاثية وطبية وخدمية وشرعية ومالية وعلاقات عامة، وأحيانا قانونية وأمنية وارتباطاً عسكرياً. ويتم تشكيلها إما عبر التعيين من الوجهاء والقادة العسكريين، أو عبر انتخاب (هيئة عامة، أمانة عامة، لجنة انتخاب… إلخ) مكونة من عدد من الوجهاء والنشطاء والعسكريين. وبرغم هيكلها البدائي حينها، وعدم خبرة معظم كودارها في العمل العام والإداري، إلا أنها كانت بالنسبة لكثيرين فرصة لتأسيس عمل مدني إداري مستقلّ يسعى لتمثيل سياسي يحقق مبادئ الثورة ويكون نواة لعمل سياسي أوسع.
تنازعت بعض المجالس مع الهيئات الشرعية على «الشرعية»، كان أبرزها ما حدث بين مجلس الشورى التابع لجيش الإسلام، الذي يضمّ الهيئة الشرعية العامة، وبين المجلس المحلي في مدينة دوما الذي تشكل حينها من توحد عدة مجالس محلية كانت موجودة في المدينة. لكن الأمر دان مع مرور الوقت للمجالس المحلية، وتطورت تدريجياً، فيما بقيت «القضاءات» تخضع لسلطة العسكر والمشايخ.
ما يهمنا في الحديث عن المجالس المحلية، بعيداً عن تحسن أدائها داخلياً كمؤسسة، هو علاقتها مع السكان، فقد كان الرأي الأعم رافضاً لإجراء انتخابات عامة معظم الوقت، ولم يتغير هذا الحال إلا في الأشهر القليلة التي سبقت سقوط الغوطة، وفي مدن وبلدات قليلة. كما كانت الشفافية مع السكان شبه معدومة، سواء على صعيد خطة عمل المجلس أو وارداته أو رواتب موظفيه أو مشاريع تمويله الذاتي أو احتياطياته من المحروقات والمواد الغذائية، كما أنه لم ينتج قنوات اتصال فاعلة مع السكان لشرح إمكاناته وما يستطيع فعله وما لا يستطيع، وما يمكن أن يصنعه سماع المواطنين من تحسن العلاقة. إضافة إلى التنازعات الدائمة بين التيارات والشخصيات المختلفة حول تشكيل المجلس وطريقته وسبل الهيمنة عليه.
بسبب ما سبق، كانت العبارة الأكثر شيوعاً بين السكان عند ذكر كلمة «مجلس محلي» أو غيرها من المؤسسات العامة: «مين حطهن؟!». إضافة إلى اتهامهم الدائم بالسرقة سواء كانت هناك سرقة فعلاً أم لا، وسهولة تصديق الشائعات عنهم.
وبالعودة إلى القضاء، كانت هناك عدة قضاءات في الغوطة قبل بداية عام 2014، قضاءٌ تابع للهيئة الشرعية لدمشق وريفها، وآخر لجيش الإسلام، وآخر لجبهة النصرة، وآخر للاتحاد الإسلامي لأجناد الشام. وجميع الفصائل لديها سجونٌ لا ينحصر مسجونوها بعناصر قوات الأسد أو أعوانها، ولا تنضبط كل الفصائل بأحد القضاءات الموجودة، وكلها كانت قضاءات شرعية تكفّر العمل بالقانون السوري وترفض إجراء تعديلات عليه، دون وجود نصوص قانونية تعتمد الشريعة الإسلامية ليستندوا عليها. أي أن الاعتماد في الحكم يكون على حسب اجتهاد القاضي أو الشيخ، ويبدأ الحكم الصادر دوماً بجملة «بناء على أحكام الشريعة الإسلامية»، لا برقم مادة من القانون. ولم يكن هناك طعون أو سماح بوجود محامين عن المتهمين، وكان التعذيب أداة للتحقيق، مع اختلاف درجة شدته ونوعيته في القضاءات المختلفة وفي سجون الفصائل المختلفة، وكذلك في المخافر التي كانت تتبع لإحدى تلك الجهات حسب النفوذ.
توحدت كل قضاءات الغوطة مع بداية عام 2014 بقضاء شرعي موحد، باستثناء جيش الإسلام الذي رفض الاندماج لوجود جبهة النصرة فيه، أمّا الإجراءات والآليات والنهج العام له فظلت استمراراً لما كان في تلك القضاءات قبل التوحد. عند تأسيسه، كان القضاء الموحد مُهيمناً عليه من المشايخ المدعومين من الفصائل، ولم يكن هناك وجود لمحاكم مدنية أو جزائية أو أي هيكل من هياكل القضاء المعروفة، وكان عمل خريجي الحقوق فيه مرفوضاً، باستثناء بعض الذين كانوا يتبعون لفصائل إسلامية ويتبنون نهجها.
في إحدى المرات عام 2013 زرتُ مع رزان زيتونة، فكَّ الله أسرها، مخفراً كان قبل أيام قد نفّذ حكماً بالجلد في ساحة عامة على شخص تلفّظ «بكفرية»، عرفنا بعدها أن المخفر يتبع للواء الإسلام آنذاك. كان رئيس المخفر طالباً غير متخرج من كلية الحقوق، وحين سألته رزان عن القانون الذي يعتمدونه، أجاب ليتفادى الردّ بأنهم لا يعتمدون قانوناً، بالقول إنهم يعتمدون القانون العربي الموحد، فأجابته رزان أن القانون العربي الموحد لا يحتوي أحكام جلد، فقال إنهم سيعدلونه ليحتوي أحكام الجلد! وحين طلبت زيارة سجن المخفر، أجاب أنه غير مُهيأ لزيارته.
في اليوم ذاته زُرنا هيئة شرعية، كانت أجوبة الشيخ مريعة، لكنه أدرك أنه أمام حقوقية ليست ذات شأن قليل، وأن مواضع الخلل لديهم تتضح من خلال أسئلتها، فقال لها بعد أن احمرّ وجهه: «بدك تعرفي يا بنتي إنو نحنا هون عم نمشّي أمور الناس على قدر استطاعتنا لأنو ما ضل في قضاء ولا دولة وهربوا المثقفين [يقصد حملة الشهادات الجامعية كما يصطلح تسميتهم في الغوطة] وما فينا نعمل أكتر من هيك». كان تصريحه وقناعته بذلك استثناءً في الوضع العام، وأحبته رزان كثيراً وظلت تكنيه «بالشيخ الأحمر» لشدة احمرار وجهه الأبيض حينها.
في كل المراحل التي مرّت فيها تجربة القضاء في الغوطة، وبعد خطف رزان التي كانت تعمل على تأسيس قضاء مدني مستقل، وبعد أن انضمّ جيش الإسلام إلى القضاء وخرجت جبهة النصرة، كان المشايخ هم أصحاب الهيمنة، ذلك رغم تطوير الهيكلية ليشابه القضاء المعروف تقريباً، وبرغم ضمّ بعض الحقوقيين والقضاة المنشقين إليه والسماح بوجود محامين في المحكمة المدنية فقط، وبرغم اتباع القانون السوري في العام الأخير ضمن المحكمة المدنية في فرع قضاء القطاع الأوسط الذي كان يخضع لسلطة فيلق الرحمن، لكنه مع ذلك لم يتم إعلان اعتماد أي قانون أبداً. ظلت الأحكام تصدر باسم «الشريعة الإسلامية»، الكلمة الفضفاضة وسهلة الليّ. وكان القاضي العام دوماً، أو رئيس مجلس القضاء الأعلى، شيخاً يتبع لإحدى الفصائل، وكان البتّ في القضايا يحدث بحسب القضية إن كانت تهمّ فصيلاً ما، وبحسب التوازنات فيها، وهو ما لا يمكن التكهّن بنتائجه سلفاً. وفي حال التنازع بين مدني وعسكري، «فالمجاهدون» لهم حصانة بنسب متفاوتة بحسب القضية، ولا يحق لشيخ تابع لفصيل أن يتدخل في محاكمة «مجاهد» من فصيل آخر، قبل أن يحدث اقتتال عام 2016 ويصبح لكل فصيل قضاؤه، ويضاف إلى الانفصال في المضمون انفصالٌ في الشكل أيضاً.
أما الفصائل التي سنختصر بشأنها كثيراً، فقد التفتت إلى الداخل أكثر تدريجياً بعد تحرير الغوطة، أو بالأحرى استطاعت توضيح توجهاتها للسيطرة على المجتمع ومؤسساته، والعمل والحركة أكثر في هذا الشأن رويداً رويداً. وقد بلغت ذروة نفور الناس منها في الاقتتال الأخير عام 2017 بعد سلسلة اقتتالات وحملات لسحق فصائل أخرى، غير تلك التي تمت للقضاء على داعش. ووصلت الحال مع جيش الإسلام في رفض وجود أي تيار مدني مستقل أو معارض له في مناطق سيطرته، وبدأ فيلق الرحمن بالسير على النهج نفسه، بشكل مخفف وأقل حدة، لكنه يبتغي الوصول إلى النتائج نفسها، لولا بدء المعركة الأخيرة.
مع هذا الحال التي تم التركيز فيها على العيوب أكثر من كثير من الإيجابيات والأمور المشرفة والقيمية التي عرفتها الغوطة، وبهدف الجواب على السؤال المطروح، ومع إضافة عامل الزمن، وعامل المعركة الأخيرة المهولة، كل هذا أدى بكثيرين إلى تغيّر تقديرهم وفهمهم للأمور.
بدأ كثيرون يجرون المقارنات بين «النظام» وبين «البديل» الذي تكوّنَ أمامهم. مقارنات لم تكن منصفة، لكنها نتاج وضع كارثي نما في الحصار المديد المرير وتحت القصف وبين «بنى ثورية» لم تجعل للمواطن أولوية في حساباتها.
«كان عنا بشار، طلع عنا ألف بشار»
«عالقليلة النظام منعرف شو بده، هدول ما منعرف شو بدهن»
«النظام بيطعمينا وبيجبلنا الكهربا والمي وبيوقف القصف علينا، هدول ما بيطعمونا ومخبين الأكل بمستودعاتهن وفوقها راكبينا»
«طلعنا بالثورة على أساس كرامة وحرية، انذلينا وجعنا وما عاد الواحد فيو يحكي كلمة».
بالنسبة لكثيرين في هذا الوضع أصبح «للنظام» التفضيل، بسبب تقديمه للخدمات التي حرمهم منها في الحصار، ولسبب لم يُذكَر مباشرة، لكنه كان واضحاً في مقاصدهم: إنهم يعرفونه. يعرفون كيف «يمشّوا أمورهن» معه. طبيعة علاقات السلطة والواسطة والرشوة، وما هو ممكن وما هو غير ممكن، مفهومة لهم بعدما خبروه لعقود. كان النظام بعبارة أخرى: واضحاً.
لكن «البديل» لم يكن كذلك. لم يكن مفهوماً كيف تجري الأمور في القضاء، ولا كيف توزَّع سلل الإغاثة القليلة، ولا كيف تعمل المنظمات التي لم يكن لدى معظمها شفافية مع الناس أيضاً، ولا كيف يعمل المجلس، وهل حقاً تصله مبالغ طائلة لا نرى منها شيئاً ونحن جوعى؟
كان سكّان الغوطة بمعظمهم قد فقدوا كل أمل قبل بدء المعركة، وحين بدأت المعركة التي لم يشهدوا مثيلاً لها من قبل، فقدوا صوابهم تماماً. كان الجميع يشعرون، ومنهم أنا، أنهم لن ينجوا من القصف خلال الساعات القادمة، وربما الدقائق! حدّثني صديقٌ أنه رأى هادي المنجد، مراسل قناة أورينت سابقاً، وهو متجه إلى المعبر للخروج من الغوطة، فقال له: «هنا موت حتمي، لكنني إن خرجت فلديّ فرصة لأحيا». ونكصوا إلى المثل: «الإيد اللي ما بتقدر عليها، بوسها وادعي عليها بالكسر».
قناعتي أن هؤلاء الناس الذين عرفتُهم وعشتُ معهم طويلاً، يعلمون أن الأسد هو سبب بلائهم بقطعه الخدمات عنهم وبقصفه وحصاره وتجويعه لهم، وتركهم دون دواء كاف وبخدمات طبية ومعيشية سيئة. لكنّ التمسك بتلك الحقائق لم يعد يعنيهم، يريدون الخلاص، وما قالوه وقاموا به أخيراً هو أواليات دفاعية من أجل ذلك. لم يكن مضمراً، وإنما ناتجاً عن قدرة عصابة الأسد، المديدة ومهولة العنف، في التأثير.
(11)
كخاتمة، لم أتطرق إلى ما يمكن أن يكون قد تمّ ترتيبه من اتفاقات دولية في سقوط الغوطة، لأن تقديري هو أن هذا لم يكن عامل تأثير في أخذ الفصائل خيار المقاومة وفي مجريات الأمور ميدانياً من طرف الفصائل. وأستبعدُ، بحسب ما شهدت، أن يكون قادة الفصائل اختاروا تسليم الغوطة منذ حدوث أي اتفاق دولي. ليس فقط لأنني لا أظنهم عملاء وشركاء في الصفقة كما أُشيعَ خلال المعركة، بل لأنه ليس من السهل على من بنى جيشاً وسلطة ولديه القوة والنفوذ أن يُقال له إن كل هذا سينتهي، وربما يكون هذا سبب التعنت بعد أن اتضحت مآلات المعركة.
كذلك حتى لو أدرك قائد فيلق الرحمن، مثلاً، أن سقوط الغوطة غدا مسألة وقت، وتقديري أنه أدركه بعد سقوط حمورية وسقبا وجسرين، فإنه ليس سهلاً أن يقنع قادته والمقاتلين بالتسليم، خصوصاً أنه كان يُنظَر إليه دوماً بعين الريبة باعتباره ضابطاً حمصياً، ويُقال إن أخاه ضابط في الحرس الجمهوري، وهو أصبح قائد ثاني أكبر فصيل في الغوطة التي تكوّنت لدى أهلها في الحصار نزعة رفض الخضوع لحكم أحد من خارجها. ولطالما سمعتُ في الغوطة كلاماً عن أنه عميل وخائن، وأنهم لا يعرفون من أين أتاهم، ولذلك جرى أبو النصر مع الأمور حتى نهايتها، برغم ما كلَّف ذلك الغوطة من شهداء وجرحى ودمار، وما عاناه الأطفال نفسياً وصحياً، وعاناه أهلهم معهم.
ومن ناحية أخرى، فإن هذا الماضي القريب، الذي تعرّضَ بفعل الصدمة النفسية والتراكمات التي سبقته إلى تشويه من قبل كثير من الناشطين، وتركيز على أوهام تجذرت وتفاصيل هامشية لم تؤثر في مسار الأمور، أصبح «مجعلكاً» وتم الدوس عليه، دون أن تتم مراجعته بلا انفعالية ليكون سبيلاً للاستفادة والتجاوز الإيجابي، كما تطرح رواية السمان والخريف التي كانت أحد آخر الكتب التي قرأتُها في الغوطة لحسن الحظ.
وقد تكون بعض المقاربات وقراءة الأحداث وطريقة سردها متأثرة بالتجربة الذاتية، رغم محاولتي عدم البدء بكتابتها قبل مرور شهرين على انتهاء المعركة لأبتعد عن الانفعال والصدمة، وقد تختلف تقديراتي بعد زمن من الآن، بسبب ما يمكن أن أحيط به من معلومات جديدة، وربما بفعل الزمن نفسه. غير أن الغوطة وقصتها الثورية لا يمكن أن تقتصر على هذه المادة وما ذُكِرَ فيها، بسبب تعلقها بأسباب المعركة ونتائجها، فمظاهرات الغوطة الأولى، وشجاعة شبابها ونضالهم السلمي وتضحياتهم، مروراً باختيار الدفاع عن النفس، إلى معارك تحرير الغوطة، والعمل المدني المستقل فيها، وتفاعلها الاجتماعي – السياسي، والتحولات التي نتجت عنه، والتجارب الإنسانية العميقة، تستحق أن يكون لها شأنٌ في الكتابة لم يُنجَز بعد، لا لأنها تؤرخ لما قد يكون له امتداداته العامة في سوريا وحسب، أو وفاءً لمكان نَحَتَ فينا وغيّرنا وأعطانا أكثر مما ضحينا به من أجله ومن أجل الثورة، بل أيضاً لأن الكتابة عنه ستكون إضافة معرفية لنا قبل غيرنا، وللعالم كله أيضاً، بحدّته ومفارقاته وتطوراته… واعتلاله.