في مكانٍ ما من البقاع اللبناني، تعصفُ الريحُ في عرائه كما في كل مسرب جغرافيّ مكشوف منذ الأزل، مع فارقٍ وحيد؛ أنّ خياماً افترشته على عجل منذ بضعة سنين، ثم طال مقامها. لا حصر لأعدادها، ولا أوان يبان في الأفق لارتحالها، ولا مَن يصدّ عنها الريح!

تلك هي خيام اللاجئين السوريين.

تنهض الخيام بمحاذاة فرعٍ هزيلٍ من الليطانيّ، الذي لم يبقَ له من صفات النهر سوى اسمه، هو الذي لم يَعُد يمنح ماءً للشرب ولا للسقاية، ولا يشفقُ على جيرانه اللاجئين من زكم روائحه وأذاها، ولا يكشّ عن نفسه أسراب الذباب الحائم في طيرانٍ لا يهدأ بينه وبين الخيام، ولا يُعفي الأطفال النازحين من الغرق في مساربه الآسنة، ليموت بعضهم هنا، تماماً حيث ظنوا أنفسهم آمنين.

أمام الخيام صفوفٌ من سطولٍ قديمةٍ زَرَعَ اللاجئون فيها نباتات العطرة والحبق والنعنع والبصل. خَضَارُ الزرع بهيٌّ وهجين، كأنه لا ينتمي إلى هذا القفر النائي، كأنه يسبق في النموّ أجساد الأطفال الضئيلة، هائلةِ العدد، بين الخيام.

لطالما كان الماء شحيحاً هنا في برّ الياس، لا يطاله اللاجئون إلا بالعملة الصعبة، ويقتصدون فيه ما استطاعوا ليكفيهم حاجات الشرب والتنظيف وسقي زريّعاتهم، يكرمونها بالماء لتهديهم سرور العين بألوانها، وسرور القلب بإحياء الأمل. ومن هذا الماء الثمين يسقون الدجاج والحمام والأرانب والأغنام التي تعيش في زرائب مُرتجلة بُنيتْ في الفسحات بين الخيام، لتصبح شريكة النازحين في المسكن. لا يتأففون من روائحها البغيضة مقابل أن يهديهم الدجاج بيضه لفطور كل يوم، وأن يصنعوا من الحمام والأرانب احتفاليات الكبّة والملوخية في مناسبات أعيادهم القليلة، بينما يعتمدون طوال العام على سلة الإغاثة المملوءة بالرز والمعكرونة والمعلبات.

يقول اللاجئ (أ): «لكن هذه الأغنام ليست لنا، ليتها كانت لنا، إنها ثروة. ثمن رأس الغنم 200 دولار. كانت الأغنام تسكن هذه الأرض قبلنا، وحين أتينا راكضين لاهثين، قسَّمَ المالكُ أرضه إلى مربعاتٍ صغيرة، وأجّرها مآوٍ للنازحين بخمسين دولاراً في الشهر للمربّع الواحد. لم يمانع في أن تسكن ثلاث عائلات أو أربع في خيمة واحدة، مقابل أن تبقى أغنامه بين خيامنا، محروسةً بوجودنا، بينما يسكن هو في بيته البعيد. يقول إنّ الأرض أرضه، وهو حرٌّ في أن يستثمرها بأجور خيامنا وإيواء أغنامه، وإن لم نحتمل مواشيه بيننا، فلنرحل…!

ولم نرحل، تآلفنا مع ثُغائها وأوساخها، ثم قلنا لأنفسنا: لن يضير الغريق بللٌ صغيرٌ جديد… بدأنا بتربية دواجننا هذه».

*****

نساء المخيم لم ينسينَ عادةً موروثة منذ أزمنة الأوطان، يُرحّبنَ هنا بكل غريبٍ يعبر قرب النهر ولو من بعيد: «تفضلوا ميلوا صوبنا…». الضيف مرغوبٌ لمن يحيا عزلته بصمت، وينقضي الوقت بصحبة الضيف أسرع من سلحفاة الزمن الجاثم على أيامهنَّ المتشابهة، وقد يحمل الضيف في جعبته أخباراً عن الغائبين، أو يأتي بسلّة مساعداتٍ عينيةً أو معنوية، أو وعوداً سيصدّقنها حين لا خيار أمامهنَّ سوى التصديق.

كان ضيف المخيم هذه المرة فريق الإغاثة الطبية والتعليم التابع لمنظمةٍ غير حكومية. يحفظ الفريق مهماته المحددة: جدولةُ نزلاء الخيام في قوائم نظامية، وإحصاء عديد أطفالهم وإعادة المتسربين منهم إلى المدارس منذ عام 2012، ومعاينة المرضى صغاراً وكباراً لكشف البثور وحكة الرأس والجسم وإحصاء الإعاقات الجسدية والعقلية، والكشف عن الأمراض المزمنة والطارئة.

وصفَ الفريقُ نتائجَ المسح بالـ(مدهشة)! فالقمل والبقّ نزلاء الخيام كلها تماماً كما البشر. وسوى ذلك سوف تلمح العين البصيرة بلمحةٍ واحدة كم أن الجميع هنا مرضى بالفقر الوقح، ومرضى بالوحشة ومرضى بالحنين، وبما يفيض عن ارتدادات الحوادث الطارئة وسوء التغذية وفقر الدم المزمن والسكري والضغط ووهن القلب وارتجاف الأعصاب ويباس المفاصل…

*****

هائلٌ عدد الأطفال في المخيم، يلعب الأطفال، يركض الصبيان بهزالهم كله، سريعين خفيفين يجوبون محيط الخيام ربما سبعين مرة في اليوم. لا البرد يحبسهم ولا العتمة تُخيفهم. وكما اعتادوا أكل المعكرونة المسلوقة بالماء؛ اعتادوا أيضاً أن يصنعوا فرحاً من ألعاب مسدس الخرز، ولم يعودوا ينتبهون إلى أنهم بلا آباء ينتظرون عودتهم إلى البيت عند المساء حاملين أكياس الخبز والحلوى.

بالفساتين اللامعة تتجمع البنات الصغيرات في حلقاتٍ بين الخيام. لباسهنَّ الموحد أشبه بزيّ كورالٍ عشوائيّ: موديل واحد وألوان موحدة لجميع المقاسات، فساتين بنفسجيةٌ وصفراء برّاقة كملامح العيد. لكنهنَّ لسنَ كورالاً وليس الوقت وقت أعياد، قد مضى العيد منذ زمن وترك لهنَّ ثياب الأعطيات الجماعية من الجمعية الخيرية. شعر البنات كلهنّ طويلٌ ومربوطٌ بغير إتقان. ربما مشّطتْ لهنَّ الأمهات شعورهنَّ على عجل، وربما اعتنينَ بأنفسهنّ وحدهنّ حين الأمهات مشغولاتٌ بإرضاع الصغار الجدد، وبالتفكير: متى تكبر هؤلاء البنات ويزوجنهنّ، وترتمي همومهنَّ على رجالٍ غرباء، وتستريح منهنّ الأمهات.

*****

تعاين الطبيبة الأطفال بالدور، تنظر إلى الصف الطويل الذي لا ينتظم ولا ينضبط، ولا يكفّ الأطفال عن حكّ رؤوسهم بحكم العادة، ولا يكنّ السؤال في رأس الطبيبة: منذ متى لم ترَ القملَ في الرؤوس وعلى الأجساد، أو المخطةَ تسيل على وجوه الأطفال، من الأنف المُجرَّح إلى شفتين شقّقهما القَشَب؟!

ذلك الطفل الذي ابتسم، تتغاوى منمنمات الفقر كلها في بسمته، وتطلع كلمة (مِس)، التي لقّنوه أن يخاطب الطبيبة بها، هجينةً من حلقه، يمضي الطفل في ابتسامته ويستسلم لفحص الطبيبة، تتراءى له الآن ولية نعمةٍ غامضة تهبط عليه حاملة في يديها علكةً أو حبة سكر أو كيس شيبس، فيبذل من أجلها ضحكةً طالعةً من القلب.

يا ربَّ الأطفال لو تهديه مرآةً ليرى ضحكته الآسرة من أمام صفيّن من الأسنان المنخورة.

*****

اعتادتْ نساء المخيم أنهنَّ أرامل، أو في عداد الأرامل حين لا أخبار منذ سنين عن زوجٍ مُغيَّب، ولا مَن يخبرهنَّ إن كان عليهنَّ أن ينتظرن بعدُ أم كفى! ولا مرايا في البيوت لترى النساء فيها وجوههنّ التي بلا ملامح، والظلال السود تحت العين، بينما يخفي غطاءُ الرأس بقايا شعر أبيض وضعيف. فقط مقاسات الثياب تحكي، حين تعثر اللاجئة على إبرة وخيط لتضييق الفستان الذي ترتديه منذ حلولها هنا قبل خمس أو ست سنين.

واعتادت النساء الشكوى من المغص المتقطع، ومن آلام المعدة والكولون ومن البرد الآتي من نوافذ الخيام الواطئة، ومن أن النوافذ الواطئة تحجب السماء. لا سماء قريبة في هذا الحيّ الكئيب، ولا شمس تسطع من ذاكرتهنَّ على بيوتٍ كانت لهنّ، وصدّعتها القذائف ثم أناختها الوحشة على الأرض منذ هاجر أصحابها.

*****

ذواكر الشباب في المخيم

ذاكرة (1): «هنا من داخل السور أرقبُ الأفق عند هذي الجبال القريبة، تنسلّ نظرتي خمس سنين إلى الوراء، وترشف عيناي حسرةً قديمة، يوم رحل أهلي عن بيتنا ولم أرحل. لم تكن لحيتي قد نبتت تماماً بعد، بقيتُ مع الشباب لنحرس بيوتنا وأراضينا المزروعة زنّار خضارٍ حول قريتنا. عشتُ في تلك الحقول لا أعرف كم، وفي زيارتي الأولى لأتفقدَ بيتنا رأيت آثار قذيفةٍ كسرت زاوية الشرفة وأهالت التراب على بلاطها الذي كان من رخام. كنا أغنياء، نعم. وقفتُ أتأملُ التراب في مكانه الجديد، أيضاً لا أعرف كم وقفتُ قبل أن أمضي. حين عدتُ في زيارة ثانية كان العشب قد نما على التراب المنفلت على الرخام، احتلَّ التراب الشرفة كلها، سرق التراب مكاني وأنبتَ عشبه حيث كنت أجلسُ قبل الحرب، غادرتُ قبل أن أختنق. يومها عرفتُ أنّ بيتي وتراب بيتي، مثل وطني، يُعِدُّني للغياب…».

ذاكرة (2): «كأنني ما أزال هناك! في ذلك الصباح كان أهلي هناك في بيتنا وكان الشجر أخضر. مساءً عدتُ من نوبة الحراسة وكانوا قد رحلوا. فجأةً اصفرّت الأوراق على أشجارها، تغيّر الشجر، شلح ألوانه وعلقتْ أكياس النايلون في أغصانه كالفزّاعات. هزمت الريح نبات القصعين في مروج قريتنا، ذاك الذي لم يكن يقوى عليه لا صقيعٌ ولا هجير. تحول الهواء إلى غبار. من الصباح إلى المساء لم يعد شيء كما كان. دخلتُ الحيّ وأنا لا أعرف إن بقي فيه أحياء. وحشةٌ عارمة. رأيت خيول مزرعتنا تركض وسط ساحة القرية بلا لجام. الشارع الرئيسيّ فارغ، فواكه ذابلة فوق عرباتها في السوق الخالي من آثار أُنس، تحت العربات وبينها أشلاء كثيرة وجثةٌ وحيدة كاملة ومفتوحة العينين وعناكب تمشي فوقها، ويد الجثة لا تهشّ عنها العناكب السمينة، أغنام غاب رعيانها فهامت تسرح ببلاهةٍ بين البيوت الخالية، دجاجٌ يقفز من بين أسوارٍ لم يعد بينها بيوت. كأنّ المكان لم يأنس بإنسانٍ منذ عهد نوح. أكلَ الخوف قلبي. كنتُ قبل الحرب في الجامعة، تركتُ الجامعة لأحمي حارتي حين اقتحمها الجيش، حملتُ السلاح وأطلقتُ النار، قتلتُ جنوداً وأصابتني جروح، ولم أخف! تذكّرت كيف يأنسُ الرجال بالرجال في المعارك حتى ولو كانوا على ضفتين عدوّتين. أما وقد خلت حارتي كلها من أهلها؛ فقد استسلمتُ لرعبي وانطلقتُ أعدو بلا وعي، ناسياً ما الذي أعادني حقاً إلى هذا الخراب الذي كان بالأمس بيتي…».

ذاكرة (3): «انظري هناك؛ إلى تلك العبارة باللون الأزرق البارد: (الحدود السورية 35 كم). أراها كل يومٍ حين أنعطف في طريقي إلى عملي في مخيمات برّ الياس وقبّ الياس، وتنعطف عيني معها إلى سلسلة الجبال الصغيرة هذه إلى الشرق منا، ها هي هنا على مرمى النظر، لا تبعد في الجغرافيا فعلاً أكثر من 35 كم، تبدو قريبةً كما كان حلم الثورة، وهي في الواقع بعيدة المطال مثلما هو واقع الثورة.

أنا نازحٌ الآن، ولا أريد لنفسي مصير النازحين، أتداوى بالعمل. بعد أن انتهينا اليوم من تدريس الأطفال انقسمنا نحن فريق التعليم لنلعب مباراة وديّة في كرة القدم. ليس لدى الجميع أحذيةٌ رياضية، استعرناها من باقي الشباب وتدبرنا كذلك أربع تيشيرتات من لون واحد لكل فريق. فاجأتنا لياقتنا الباقية بعد تعب النهار الطويل، وبعد طول انقطاع عن كل هواياتنا القديمة. في اللعب كنا نركض باجتهادٍ أكثر منه احترافاً، لكننا كنا كلنا فرساناً نستعيد اللياقة وفرح اللعب. كان لعبنا جديّاً تماماً، وإن كنا نضحك كالأطفال بعد كل هدفٍ في كلا المرميين.

نسيتُ أن أخبرك أنني أدرس أيضاً في الجامعة اللبنانية، وأحلم بالهجرة إلى أوربا…».

*****

رجال المخيم

سجّلَ الرجالُ المحظوظون عائلاتهم في قيود الأمم المتحدة. تعطي ال (يو. إن) مبلغ 260 ألف ليرة لبنانية في الشهر للأسرة الواحدة، فتدفع الأسرة منها 75 ألفاً لقاء استئجار خيمة وتعيش بما تبقى.

لا يشعر الرجال اللاجئون بالكفاية، ولا بالأمان، ولا يشتغلون ولا يرحلون.

ولكن لماذا لا يشتغلون ولا يرحلون وكيف يرتضون البقاء تحت رحمة الأعطيات، ويرتعبون إن سمعوا أنّ ثمة من سيرحّلهم إلى سوريا؟! لماذا يرتعب إنسانٌ يلاقي كل هذا الهوان هنا من فكرة أنّ أحداً ما سيعيده إلى (بلده)؟!

يقول اللاجئ (ب): «لا يأخذنا اللبنانيون لنشتغل في أراضيهم، لأننا لن نرتضي الأجور التي ترتضيها البنات». يخبط كفّيه ببعضهما ويهتف: «يا باطل!»، ويتابع بصدقٍ لا يخفى: ابني هذا الصغير أمامكم صار عمره سنة، وهو لا يعرف بعد طعم الحليب!».

لكنّ الرجل اللاجئ (ب) لم يقبل حتى بنقاش موضوع تنظيم الأسرة حتى بعد أن كابدت الطبيبة وهي تشرح له ماذا يعني تنظيم الأسرة هذا: «أبداً لن أفعل… سأظلّ أنجب أبناءً وأبناءً لعلّ المواليد الجدد يملؤون مكان أبنائنا الذين قتلوهم في الحرب عمداً دونما ذنب…». كان يقول ولا يشير إلى قاتلٍ ما في البال، وكأنما لا حيل له على مقاضاة قاتلٍ أقوى منه بما لا يقاس، أو على فتح ملفاتٍ ستخنق رئتيه من جديد.

*****

باستثناء سير الماضي، والشوق لمن ماتوا، والحنين إلى الهواء الأول؛ لا حياة يُحكى عنها في المخيّم. سرى الوقت بهم منذ خمس أو ست سنين، تآلفوا مع ثغاء الأغنام الجارة ومع أمراض العزلة والوحشة والبطالة والفقر والجوع والبرد وهجران الأطفال للمدارس، ومع الوقت صار الحنين صديقاً يطلّ ويمضي بألمٍ أقلّ، ومع الوقت أضاعوا الانتباه.

يكسر الرجال اللاجئون الوقت بالجلوس إلى نوافذ الخيام الواطئة، لا تطال أنظارهم زرقة السماء ولا انفراجها، تحت النوافذ الواطئة يتسامر الرجال ويدخنون بينما تذهب النساء والطفلات إلى العمل. الفتيات هنَّ أكثر من يشتغلن، صبايا صغيرات رشيقات يحتملنَ الشغل من الرابعة صباحاً لتقبض الواحدة منهن ثمانية آلاف ليرة لبنانية (5,3 دولاراً) كأجرٍ لنصف يومٍ من قطف الخضار أو نكش الأرض أو التعشيب في المزارع. لو تابعت عملها حتى الرابعة ظهراً سيعطيها المالك ضعف المبلغ. لكن المالك يعرف أنها لن تستطيع بسبب الشمس والتعب ونقص الغذاء ودوار الرأس، وترضى البنت أن تشتغل ثلثي النهار وتقبض نصف أجر، وتنقدَ أباها الأجر كاملاً، لينفقه الأب في شراء سجائره، ولا يريد أن يسألها عن مطبات عملها ولا عن شقوق يديها، ولا يبقي لها من دخلها ولو ثمن الفازلين المرمّم ليدين شاختا قبل أوانهما بكثير.

يتابع اللاجئ (أ): «قال لنا المؤجر إن لم نحتمل مواشيه بيننا فلنرحل. لكن إلى أين؟! لا طريق أمامنا، لا إلى أمام ولا إلى وراء. نحن هنا من أكثر من قرية سورية. لم تحترق بيوتنا كلها. ما احترق هو قلوبنا جميعاً. كل خيمةٍ هنا تركت جزءاً من أفرادها موتى. أغلبهم لا يعرف بنيران من قُتلوا، وأغلبهم يرتعب من فكرة العودة لأنه يعرف أن مصيره محتوم، فقط يقلّب في رأسه أشكال موته الأكيد».

*****

في بلدهم العتيق كانوا منسيين واعتادوا هنا أنهم غير مرئيين. لم يدهشهم نسيان الآخرين لهم حين أصبحوا في المخيمات. ربما كان لمأساة النزوح أن تُكفّر عن بعض فظاعاتها بإيجابية وحيدة، لو أنها أدخلت النازحين إلى مجتمعهم الجديد ليكتسبوا منه حسناته. لكنهم زُرِبوا وحيدين في المخيمات وعلى حواف المدن والحواضر، وعلى حافة الحياة، فكسبوا امتيازاً وحيداً، أنّ احتمال موتهم هنا أقلّ قليلاً.

يقول اللاجئ (ج): «قبل الحرب في سوريا كان المختار يطلب منا بطاقات الهوية صباح يوم (الانتخابات)، ويعود بها في المساء ليهنّئنا ويهنّئ نفسه أنه انتخب السيد الرئيس بأسمائنا جميعاً.

بعد الحرب أصبحت الخانة في بطاقات هوياتنا تهمةً وتنكيلاً،

نبقى هنا، لأن احتمال قتلنا هنا أقلّ قليلاً…».