ربما لا يمكن لك أن تتخيل الحال الذي كنا فيه، سأتركُ ذلك لخيالك، ولكني سأقول أمراً واحداً فقط: حتى عدم إصابة لمى الصغيرة التي كانت في الكارة على ظهر أبيها، ووصولها بخير إلى حضن أمها، لم يكن فيه عزاءٌ لأيٍّ منا.
أول مائتي متر في أراضي المحررين الجدد، في دولتهم الجديدة، نمشيها وأيدينا مرفوعة فوق الرؤوس، مُحاطين بصفين من الجنود المتحفزين، وقد تم تسليط ضوء باهر يعمي العيون علينا. نمشي باتجاه منبع الضوء، والأكيد أن خلفه عشرات فوهات البنادق والقناصات المسلّطة علينا أيضاً. لا نرى شيئاً من طريقنا، الذي هو أصلاً طريقٌ ترابيٌ مليءٌ بالحفر وأكوام التراب، ننكب كل حين فتنخزنا فوهات البنادق الحذرة منا وسط صراخ وشتائم من البعض، وكلمات رقيقة من البعض الآخر.
عزلونا عند الوصول وتحت الأضواء الباهرة إلى مجموعتين، النساء تحت قبة واسعة من القش، والرجال أبعد قليلاً. تنوح أمي بنشيج مكتوم، وهي تتلوى وتنتفض كديك ذبيح. غطاء رأسها مُزاح، وعلى ثيابها التي امتصت حتى آخر قطرة من دم ابنها، امتزجَ التراب بالدم متحولاً إلى ما يشبه الحنة. وكلما حاولت أن تزحف باتجاه جثة ابنها، كانوا يمنعونها.
ألقوا بجثتي حمودي وصلاح في مكانٍ أقرب إلينا من تجمع الرجال، يتحدث المقاتلون فيما بينهم بلغة لم أفهمها، وطبعاً سأفترضُ أنها الكردية، فأنا في الواقع لم أسمعها قبلاً إلا ما ندر. لم أفهم كثيراً مما يقولون، ولكن الواضح أنهم يقولون إن الجثتين لدواعش. كانت إحدى المقاتلات «القديسات» تقلب رأس حمودي من عند الذقن بحذائها بتشفٍّ واضح، وتمشّط لحيته الطويلة بأرضية حذائها وسط قهقهة البقية. أيُ قهر؟؟!
جاء أحدهم يرتدي لباساً عسكرياً مختلفاً، فوقف جميع المقاتلين وقفة عسكرية. كان يرافقه رجل أيضاً بلباس عسكري، يحمل كاميرات، وآخر يحمل صندوقاً. قاموا بتصوير الجثث صوراً كثيرة، ثم أجلسوا الجثتين على كرسي بالتناوب، وأيضاً صوروهما وأخذوا منهما عينات. وجّهَ حديثه لـ «القديسة» ومن معها بالإنكليزية طالباً أن يغطوا الجثث حتى تصله نتائج شيءٍ ما لم أعه تماماً. استجمعتُ ما بقي من قوتي، وكلّمته باللغة الإنكليزية أن هذا أخي وهذا الآخر ابن جيراننا، وأننا مدنيون، وبذلنا كثيراً من الوقت، وفقدنا ثلاثة أشخاص عدا هذين الاثنين، حتى وصلنا إلى هنا، وأننا لا نريد أن نندم أننا خرجنا، وأن أمي مريضة، وهذا الذي مات ويقلبون جثته بأقدامهم هو ابنها: تخيل يا سيدي لو أن أمك أو أم أحدٍ منهم مكانها.
تعاطفَ الرجل مباشرةً، وأمرَ لأمي بطبيب يفحصها في الموقع، وقال: هي ساعتان أو ثلاث، نتأكد وبعدها سنؤمنكم، وطلب مني أن أتبعه بعد أن أُسلِّمَ هاتفي وهويتي وأي جهاز إلكتروني آخر، وأمرَ لمن بقي بماء وسندويشات ودخان، وكان الأطفال بمجملهم لا يزالون متأثرين بمفعول المنوم، حتى «الشنتيرة» لمى التي كانت على ظهر أبيها لحظة وفاته.
تم تفتيشي ذاتياً حتى…، قبل أن يدخلوني إلى «الضابط». أنا من افترضتُ أنه ضابط، وافترضتُ أيضاً أنه ومن معه، من خلال لباسهم المختلف وهيئاتهم وأحاديثهم التي تتناهى إلى سمعي، أي الخمسة الموجودين في الخيمة، أمريكان. تحدَّثَ الضابط معي بالعربية باللهجة العراقية، طلبَ مني أن أحكي القصة كلها. وبهدوء سردتُ له سِفرَ خروجنا، من أول لحظة إلى أن وصلناهم.
قال: «لا أريد هذا بل أريد متى انتسبتم لداعش؟ وأين أزواجكم؟ ومتى تزوجتم؟ ومن أي بلد زوجك؟ وأنتِ من أي بلد؟ وأين كنتم تسكنون؟ وهل سافرتم إلى العراق أو إلى خارج الرقة؟ من هم أصدقاء زوجك؟
أنتم من بقيتم في الرقة كلكم دواعش».
كلنا!!!
خارج السياق، ومن ضمنه أيضاً
يجذب الضوء الآلاف من الحشرات والبعوض والفراشات، التي يحترق كثيرٌ منها نتيجة الحرارة الصادرة عن الضوء، فيصدر عن الاحتراق رائحة مقززة، ولكن الفراشات تستمر بالالتصاق به.
وكأنه غير معني بإجاباتي، أو كمن لا ينتظر مني أجوبة، كان يراقب حشرة خضراء ذات أجنحة براقة شفافة تشبه الجرادة، وهي ترتقي على حامل «البرجكتور». يضع إصبعه معترضاً طريقها حتى دبت على يده، ويرفعها أمام وجهي متسائلاً: «أتعرفين اسمها؟».
هززت رأسي أن لا.
قال: «هذه اسمها فرس النبي، تخيلي أن النبي محمد قد عرج إلى السماء بهذه».
وبالعودة
في هذه اللحظة دخلت سيدة شقراء بلباس عسكري، تحمل بين يديها صندوقاً بلاستيكياً، وضعته على طاولة جانب طاولة المحقق، وأخرجت منه هاتفي المحمول من بين كومة تلفونات مجموعتنا، وسألتني بالعربية الفصيحة: «هل هاذيهي لاكي؟»، أجبتها بنعم، فألصقت عليه بطاقة لاصقة وكتبت اسمي عليه. كان في الصندوق مجموعة كتب «الفارة تبعنا»، تناولَ المحقق رزمة الكتب وبدأ يتصفح العناوين: «أوووه القرآن، لا أعرف منذ متى لم أرَ الكتاب المقدس. وهذا موسم الهجرة إلى الشمال، إلى أين ستهاجرون؟ إذن أنت مهاجرة، هل هذه الكتب لك؟».
كان ملصقاً بكل كتاب بطاقةٌ، قلتُ له إن الكتب لأختي من مكتبة بيتنا. «ومن هذا الشيخ؟»، وأشار إلى اسم المؤلف على غلاف الكتاب. قلت له إنه الطيب صالح، وإنه ليس شيخاً بل كاتبٌ سوداني، فقال مصطنعاً خفة دم «يا زول»، وتابع تصفح العناوين: «أوووووه أووووواااوو، ليس لدى الكولونيل من يكاتبه، ماركيييز»، قالها بصيغة التفخيم والتعجب، «يقرؤون لماركيز وليس لابن تيمية، إذا كنتم تقرؤون لماركيز هذا، لماذا تلحقون ابن تيمية؟ أم أن ماركيز صار من داعش؟»، وقهقه بسخافةٍ منتظراً أن يشاركه أحدٌ الضحك على نكتته، لكن الجميع كانوا منشغلين بما بين أيديهم. عادَ يستعرض عناوين الكتب: «الشرنقة، حسيبة عبد الرحمن، أكيد هذه في كتيبة الخنساء، أليس كذلك؟ وهذه… مدن الملح، عبد الرحمن… أهاااا، هذا أعرفه، نجيب محفوظ»، وأرجعَ أولاد حارتنا إلى السلة.
خارج السياق، مسبات بالعامية
«الله لا يوفقك يا فارة الكتب يا ميودة» على اختيار هذه العناوين، وأنا متأكدة يا كلبة يا حقيرة أنك سبقَ أن قرأتِ كل هذه الكتب عندما اشتريتها، ومتأكدة «يا فارة يا جردونة» أنكِ التهمتها مرةً أخرى، كما كل كتب مكتبة البيت خلال السنوات الثلاثة الأخيرة. «تعرفين ليش هالمسبات يا كلبة؟» لأن «الخرا» هذا، المحقق الأمريكي الأحمق، ما لفتَ انتباهه كان العناوين فقط، لم أرَ أسخفَ وأتفه وأكثرَ سطحيةً من هكذا رجل، غير أنتِ يا حقيرة.
وبالعودة
يسألني عشرات الأسئلة: «طيب أنت تتكلمين الانكليزية بطلاقة، من أي دولة انت!؟». «يا سيدي أنا سورية، رقاوية، وأحمل ماجستير بالأدب الانكليزي من جامعة دمشق، ومدرّسةَ للمادة منذ 7 سنوات». يضعُ صورة وجه حمودي على شاشة الكمبيوتر الذي أمامه، ويدير الشاشة باتجاهي، «أي قسوة يملكون!!».
«انظري إليه، لحيته طويلة ويحلق شاربي».
«يا سيدي كل الرجال في الرقة مجبرون على ذلك، وأنت تعرف ذلك، والجميع يعرفون ذلك».
«ولكن أنتِ بلا لحية»، قالها وهو يضع يده على ساعدي الذي سحبته بقوة.
«هههههه… أمزح طبعاً، كان آخر سؤال، إلى أين ستذهبون؟».
قلتُ له: «لنا أقارب في ريف تل أبيض». سألني عن درجة القرابة، والعنوان، وعمل قريبي.
أخرجوني من هناك، كانت أمي تجلس على كرسي جديد بعجلات، تمسك بقبضتها طرف عكازها وتسنده إلى خدها مُقابلةً بجلستها جثة حمودي، وإلى جانب الكرسي، على نقالة عسكرية مليئة ببقع الدم الجاف، تتمدد ريما زوجة حمودي. قالت ميادة: «لقد أعطوهن 3 حقن لكل واحدة».
كان على إحدانا وسط هذا الانهيار أن تكون قويةً وتمسك زمام الأمور، وأن «تكون أخت رجال» كما قال لي العم أبو صلاح الذي هو أحوج مني لهذه النصيحة، فلم يكن أحسن حالاً مني، وطبعاً أنا المقصودة بـ «أخت الرجال» هذه.
جاؤوا بـ «بيكابين» لنقلنا إلى بلدة الرقة السمرا في ريف الرقة الشرقي بعد أن أنهوا التحقيق مع الكل، على أن نبقى أنا والعم أبو صالح حتى الصباح لدفن الجثث، وقالوا إنهم سيسلموننا الهويات والهواتف، إما في الرقة السمرا أو في عين عيسى.
حَفَرَ «الباكر» الأصفر حفرةً واحدةً عميقة، الواضح أنهم أعدوا المكان هذا كمقبرة، فهناك قبورٌ أو حفرٌ كثيرة، وكلٌّ منها يحمل رقماً.
حملَ مقاتلون الجثتين، بعد أن أخذوا معهما صور السلفي بإشارة النصر، وألقوهما في الحفرة. طلبَ منهم العم أبو صالح قليلاً من الوقت والخصوصية مع الجثتين والقبر، وفعلاً وافقوا. بدأ يجهزهما، قَابَلَ وجهيهما، وضمَّ الجسدين إلى بعضهما بعباءتي، التي قال عنها: «أعتقد لم تعد تلزمك»، رغم أنه يعرف أنني وكل أخواتي ما عدا ميادة كنا نلبسها قبلاً طوال عمرنا. خرجَ من الحفرة، لم ينظر إلى سطل «الباكر» وهو يهيل التراب فوقهما، مدَّ له أحدهم سيجارةً فأخذ يمجّها ويبكي، وأبكي بدموع ناشفة. حاولنا أن نحفظ المكان، عسى أن نعود يوما لزيارتهما.
خارج السياق
لا ترفَ للأحياء هنا، فما بالك الأموات، ولكن حقيقةً كان هذا ترفاً لميتينا هذين، قياساً بمعظم من قتلوا في الشهور الأخيرة في الرقة. ترفٌ قياساً بالجثث التي شاهدناها في شوارع الرقة، ترفٌ أن يكون لهما قبر، وقبرٌ غير بعيد عن الفرات، صحيحٌ بلا «أحد» ولا شاهدة، بل برقمٍ بدل ذلك، ولكن تَرَفَ القربِ من الفرات يكفي. ترفٌ أن يُدفنا كاملي الجسد، ترفٌ أن جثتيهما لم تتركا لتأكلهما الكلاب والقطط، ترفٌ أنهما لم يُتركَا تحت الشمس الحارقة، لينتفخا إلى حد الانفجار، وتفوح روائحهما، ترفٌ أنهما لم يُدفنا تحت ركام منزليهما أحياء، وأطفالهما في أحضانهما يصرخون لأيام ولا مجيب، نعم ترفٌ وأي ترف.
ياإاالهي كم يتشابه اليوم الأخير في دولة «الخلافة» باليوم الأول في دولة …، ولكن مهلاً، لنجد الاسم أو لنسمعه من «محررينا» الجدد، ولنعرف أي ترفٍ سنعيش؟!!
وبالعودة
نُقِلتُ والعم أبو صلاح إلى الرقة السمرا، كم تمنيتُ أن يطول الطريق، لا أريد أن أرى لمار ولارا ولمى، 4 سنوات و3 سنوات وسنة ونصف، أكيد عرفتَ من هنّ. وأيضاً لا أريد أن أرى انكسار أمي، أريد أن يطول الطريق حتى أكون أنا نفسي لأطول فترة ممكنة، قبل أن أتحول إلى أخت رجال و«زلمة» البيت. خجلتُ من أنانيتي وطريقة تفكيري عندما رأيتهن يفترشن ظلّ مدرسة اتخذها «محررونا» الجدد مقراً لهم، وكانت مناحة ستة نساء وثلاث طفلات مكلومات إلى حد القهر والكسر والطحن.
خارج السياق
في التاريخ البيولوجي لعائلة أبي ومن جدوده الأبعد، أكثر مواليد العائلة من الإناث، فأبي وحيد على ست بنات، وجدي وحيد على أربع بنات، ويقول أبي إن هذه السلسلة مستمرة حتى سابع جد.
أمي لم تقبل بهذه القاعدة، إذ زارت كل الأطباء المختصين بالأمر في كل سوريا، حتى أنها وأبي زارا الأردن وتركيا، وحتى مقامات الشيوخ لم تنسَها من الزيارة لكي يكون لـ «أحمد» أخ، لكنهم فشلوا.
ها أنا ذي يا أمي أخٌ لأحمد.
داخل السياق
أعطونا هوياتنا فقط من جملة ما أخذوا، على أن يعطونا البقية في عين عيسى. وأيضاً أعطونا ورقة مختومة وموقعة، تسمح لنا بالسفر إلى مخيم عين عيسى فقط. اعترضتُ بأننا لا نريد الذهاب إلى المخيم، لنا أقارب في ريف تل أبيض، وسنذهب إليهم.
يخاطبني المسلح الذي أعطاني الهويات وورقة العبور بصيغة المذكر وبلكنته الكردية: «خيو ما في “تل أبيد”، في “كري سبي” في “روج أفا”، ومشان تدخل روج أفا لازم كفيل ياو… أنت ليش زعلان؟ الخيمات وحق خوديه كويس، بعدين خيو هاي مخيم كلو بدو يروح عليه، مو بس إنتا».
استأجرنا «سرفيس» من جملة «سرافيس» كانت تقفُ أمام المدرسة، وتوجهنا إلى عين عيسى. تهزُّ أمي رأسها مع اهتزاز السيارة وهي تسند ذقنها بقبضتي يديها الممسكتين بالعكاز، و«تنعي» على أحمد، ويردُّ الجميع ببكاءٍ مرير.
«لا هم رهاين ولا غياب تا ارجاهم
حتى ناعم تراب اللحد يا حيف ما غطاهم»
وترد زوجة صلاح النعاوة بنعاوة
«من العام قلبي جفل حلمان بفراقو
والموت ساق الظعن ما مهل وعاقو»
وحدهم الأطفال يتابعون من المقعد الخلفي العجاج الذي تثيره عجلات السرفيس عندما نخرج إلى طريق ترابي غير مهتمين، أو ربما لعلّهم لم يفهموا أو يستوعبوا بعد ما حدث.
تقول أمي نعاوةً أخرى والسرفيس يتمهل للوقوف عند حاجز عسكري على الطريق:
«يا شايلين النعش ياهل المروة وجاي
خلوني أودع الولف بريح المسج ونعاي»
خارج السياق
النعاوة عند أهل الرقة طقسٌ قديمٌ يُستخدم في العزاء، تقومُ امرأةٌ مختصة بالنعي، بتعداد مناقب الميت بما يشبه غناء «السويحلي»، وعلى الأغلب يكون مؤلفاً من مقطعين، لتردَّ عليها النسوة بالبكاء، أو تردَّ إحدى نساء الميت بنعاوة أخرى، وأعتقدُ أن كلمة نعاوة من الكلمة الفصيحة «نعي».
وبالعودة إلى السياق
أوقفنا حاجزٌ عسكريٌ تحت رايتين مثلثتي الشكل، إحداهما صفراء والأخرى خضراء، على كلٍّ منهما ثلاثة حروف باللاتينية. تم إنزالنا جميعاً حتى الأطفال والحقائب. كلّمهم السائق، ولكن طلبوا منه أن يبتعد بسيارته إلى آخر الحاجز وينتظر هناك.
«كل واحد هويته بيده وحقيبته معه واصطفوا واحد واحد»، هكذا ترجمَ لنا أحد المقاتلين ما قالته مقاتلةٌ بدا أنها رئيسة الحاجز. «افتحي الشنطة، شو فيها؟»، قال لي المقاتل الذي يضع على كمه الأيسر رمزاً يشبه العلم المثلث الذي يرفرف فوقهم، وكنتُ الأولى في صفِّ النساء، أما الرجال فكانوا في صفٍّ لوحدهم.
«شوية لباس»، قلتُ له.
أخرجَ اللباس قطعة قطعة بين إبهامه وسبابته، إلى أن وصل لباسي الداخلي، الذي فرده بين يديه كراية، وسألني: «أنتم بداعش تلبسون هالشغلات؟»، يرميه ويرفع قطعة أخرى، يغمز لرفاقه ويكلمني: «طيب هذا شفاف، واللي أعرفوا ممنوع وحرام عندكم بداعش الشفاف».
«يا أخ، أولاً نحن لسنا دواعش، وثانياً ما تقوم به عيب وحرام، وثالثاً الشفاف اللي تقصده أنت هو ما يغطي الوجه، وتحت اللباس ليس لأحد علاقة، الله يوفقك يا أخي، انظر إلى الأطفال، درجة الحرارة تذوب حتى الإسفلت».
ردّ علي: «المهم ما هو تحت الثياب»، وتابعَ تمثّلَ ثيابي وعرضها لزملائه، الذين لم يعترض أحدٌ منهم بل كانوا جميعاً مستمتعين بالعرض، وحتى علبة «الحفوظات» النسائية بَعثَرَها، وأمسك بواحدة ومسحَ بها وجهه الذي حمّصته الشمس إلى أقصى درجات التحميص، وأعادها إلى الحقيبة، وألقى بقنينة العطر وعلبة مزيل العرق باتجاه إحدى الفتيات المقاتلات: «اشتمي رائحة الدواعش، والله رائحة عرقك دوختنا». وأعاد تقريباً السيناريو نفسه مع الجميع، قبل أن يسمح لنا بالمتابعة.
خارج السياق
طبعاً خجلت، خجلتُ جداً وهم يستعرضون لباسي الداخلي، إلى درجةٍ أحسستُ معها أنني عارية. ولكن تغاضيت عن التحرش والمضايقة، كما قلتُ لك سابقاً قررتُ أن أكون أخت رجال، فورائي وبرقبتي «كوم لحم»، بانتظار أن تستعيد أمي المحطمة توازنها. كم أتمناها أن تكون بقربي.
وبالعودة إلى السياق
يتهادى السرفيس على الطريق الإسفلتي المتهالك، الذي يتلوى كأفعى كواها القيظ، ويلوح سرابٌ في الأفق كموج بحر مبتلعاً كل القرى التي مررنا بها، وهي كلها تقريباً خاوية على عروشها.
«جهزوا أنفسكم، بعد قليل نصل حاجزاً، سأحاولُ أن لا ينزلوكم، وإن نجحت سوف أزيد 10 دولار على الأجرة، موافقون؟»، قال لنا السائق. نظرَ إلي أبو صلاح فهززتُ رأسي أن نعم. قال له: «موافقين أخي».
رايةٌ مربعة الشكل صفراء اللون ممزقة الأطراف، بدت كأنها مجموعة أشرطة ترفرف، ترتفع فوق الحاجز الذي نجح السائق في «تمزيطنا» منه بعد أن وضع ما فيه النصيب بيد أحدهم، وأيضاً بعد أن استعرَضَنَا بشراهة مجموعةٌ من المحمّصين.
قال السائق إنه كان قد بقي أمامنا حاجزٌ واحد هو حاجز الاستخبارات، وهو الحاجر «الأنجس» على حدّ تعبيره والأصعب، وهناك يجب أن يكون بالنا طويلاً جداً.
فعلاً هنا الوجوه تختلف، الجميع بلباس مدني، وعلى جانب الطريق غرفتان، واحدة للنساء وواحدة للرجال. طُلِبَ منا إفراغ جيوبنا، وحقائبنا، وبدأت أيدي فتيات خشنات تتلمس أجسادنا إلى أعمق أعماقها بحثاً عن أي شيء قد نكون أخفيناه. أعترضُ أنهم فتشونا قبل قليل، ولكن نهرتني إحداهن: «مو شغلك، رح نفتشك مية مرة، عندك مانع… دواعش ولسانهم طويل؟»، قالتها بتحدٍ.
أقولُ لنفسي إنها لا تختلف عن «أم سارية» التي كانت تخدم في كتيبة الخنساء الداعشية، والتي كانت تداهمنا أحيانا بالتفتيش في السوق.
من هناك مشينا دون هويات، قالوا إننا سنأخذها في المخيم، ورافَقَنَا مسلحون من الحاجز لإيصالنا إليه.
خارج السياق أيضاً
عند التدقيق في الهويات نظرَ إلي المحقق وقال: «أاههه، في الهوية مذكور أن خانتكم أكراد، فهل أنتم أكراد؟». طبعاً تعرفُ أنه حسب تقسيمات مديرية السجل المدني في الرقة، هناك خانة اسمها «أكراد». في لحظتها تذكرتُ أحد أبناء خالتي قبل سنوات، وهو يحكي لنا كيف يقلب لسانه، ويحكي بلهجة أهل الساحل، وكانت هذه الطريقة تفتح له كثيراً من الأبواب كما يقول: «من دور الفرن إلى دور المازوت أو الغاز، إلى تسهيل عمله في دوائر الدولة»، بل كان يُقسِمُ أن الأمر يمشي حتى على عساكر الجيش النظامي، وأنا في لحظة سؤال المحقق عن الخانة، أحببتُ أن أجرّبَ طريقة ابن خالتي، ولكني تراجعت، وقلتُ بنفسي: «يا بنت لا تجيبي لحالك وجعة راس».
وأيضاً خارج السياق، جداً
عند التفتيش وإفراغ الجيوب، وكوني أنا من يدفع كرسي أمي المتحرك، لم يظهر عندها سوى 200 دولار و35 ألف ليرة وعكازها، تساءلتُ عن موضوعٍ لم أكن قد اهتممتُ به قبلاً، فعلاً أين مصارينا، أين أخفتهم أمي؟ أم أنها أضاعتهم؟
عبرنا مدينة عين عيسى، واتجهنا شمالاً. وبانَ لنا المخيم الذي يتربع على منحدر خفيف، انحداره باتجاه البلدة. تراه من هناك كبحرٍ أبيض من الخيم وسط كلحة وصفرة الأراضي القاحلة المحيطة به. يتوقف السرفيس، ويمدّ أحد العناصر الذين رافقونا بورقةٍ للعناصر الواقفين بالباب، الذي يشكل المدخل الرئيس للمخيم من الجهة الغربية، فيقوم أحد المسلحين بتكاسل ليفتح الباب الحديدي الأسود.