سقطت، خَرَمَ الهواءُ جسدي المتداعي كورقة يابسة، فجذبتني طبقات الظلمة العفنة ودفعت بي نحو الأسفل. كم عمر السواد المحشو في هذا الفراغ؟ ينمو فيه جسدك الأبيض الرقيق، بارداً ساكناً كأنه دليلةٌ لكنزٍ قديم. كم لزمني لأرتطمَ بالأرض وتتكسر صورتك لآلاف الكائنات الصغيرة الخارجة من فوهة البئر؟ يضيءُ القمرُ حجارته، يلمسُ نوره تعرجات الماء فيشتعل الفضي على الحجارة الصلبة. يتلألأ ضوؤه على نقشٍ بيزنطيٍ لامرأة ترقص على جسد أسد صريع، ويخرج من فمه لهبٌ حار. ترخي المرأة يدها على الفروة المنقوشة بعناية على الحجر الصلب، وترتفع يدها الأخرى فوق راسها متمايلة مع انحناءات خصرها الرفيع. تتلاشى أصابعها بالصدأ النحاسي، وتنغمس ببقعة دم يختال لونها موارباً، فضيٌ كامدٌ يستحيل مع تعرجات الماء إلى بنفسجي.

ينسكب شعرك فوق الماء، يخرج من جبهتك العريضة ويعوم مرخياً مفروداً كأنه جناح طائر. ترتطم يدك اليسرى على الحجارة الصماء فيرتد الصدى، ثم تنعكس جهتها لتعود نحو خصرك المنحني فوق يدي. ها أنا أحملك مرة أخرى، عاجزاً عن قدرتي على الاختيار، مسكوناً بخوفٍ رمى بنا في هذه الظلمة.

هل كان ثمن عودتي باهظاً إلى هذه الدرجة؟

يحتجب القمر خلف الغيوم، وينحسر الضوء كستارة أرخيت على فوهته ليحل الظلام. ما زلتُ أبصر نوره في عينيك السوداوين. أشعر بحرارة جسدك المتكور فوقي كأنه مازال ينبض. ندى العرق الرطب الحار أسفل الأوردة. دهشة الأطراف كلما تلامست مساماتنا. تعبر أرتال الجنود وراء البئر، تخور أفواههم بالشتائم القذرة. يجهزون الشاحنات التي تدك القرية بالصواريخ. يحترق الغيم كالرماد، ويشتعل الأفق بالوهج البرتقالي. يضيء وجهك مرة أخرى، فتلمع النيران في حدقة عينيك فتبدوان كقنديلين مرهقين.

لماذا عدت؟

ما الذي كنت أبحث عنه في كل هذا الخراب؟

أحبك، ها أنا أعترف بها الآن بعد ست سنوات من غياب طويل. هل ينفع هذا الاعتراف البائس؟ هل سأجد المغفرة فيه قبل أن يجفّ الدم في عروقي.

ما الذي عاد بك؟

هالتني عظام وجهك البارزة، وجلدك الناحل الشاحب الذي أخذ بالتآكل كأنه جلدٌ قديم.

ارتخت عضلة لساني، ولم أستطع الإجابة على سؤالك المليء بالفزع عندما رأيتني.

للوهلة الأولى، بدوت لي وجهاً قبيحاً متداعياً فوق عظام هشة مكسوة بغلالة من الأسمال.

ما الذي عاد بك؟

أخذتُ أمعنُ في ملامح وجهك أكثر، وأدركت أنني لم أكن أشاهد وجهك. كنتُ أحدّقُ في صورةٍ ما داخلي. رغبة أن أعود لأجدك شيئاً قبيحاً لا أندم على تركه كل هذا الوقت.

ارتميتُ بين ذراعيك بدل أن أعترف أنني لم أجد ما يملأ الفراغ الذي تركته في روحي بعد سنوات الغياب، وأقول: أحبك. كيف استطعت الرحيل حينها؟ كنتُ أظن أن الهزيمة هي الشيء الوحيد الذي سنمنى به جميعاً. ما زلتُ أذكرُ النظرة المباغتة التي استحالت على وجهك عندما أخبرتك بقرار الرحيل. بكيت عندما غادرت وبكيت عندما رجعت، وكانت الدموع هي الشيء الأكثر دفئاً وبهاءً في كل سنوات البؤس التي مضت. الدموع هي الذكرى الوحيدة التي أحتفظُ بها الآن، وأنا أتنقلُ من مدينة إلى مدينة بحثاً عن ربحٍ ما بعد كل الهزائم التي منيت بها. كانت هزيمتي الأولى عندما لم أستطع أن أتخذ قرار عائلتي بالبقاء حتى النهاية. لم أكن على تلك الدرجة من الشجاعة. لم يكن لدي الجرأة على البقاء. وقفتُ أمامهم جميعاً وقلت: هذه معركة خاسرة، والموت سيكون مصيرنا جميعاً. بصقَ والدي في وجهي أمام أمي التي هرعت إلى مطبخها وهي تذرف الدموع. لم تثنني كلماته الزاجرة المشمئزة عن قرار الرحيل. عانقتُ أخوتي الأربعة في الخفاء، وبكينا كما كنا نبكي فزعاً من والدي عندما كنا صغاراً.

وفيما كنت أحزم حقيبتي الصغيرة، قلت: هذه الفتاة البلهاء ستجد شاباً آخر ثم ستتزوج وتنجب أطفالاً. ربما يموت زوجها في معركة ما، لكن الأطفال سيملؤون حياتها. ثم ستنساني كما سينساني كل أفراد العائلة. لم أعرف كيف ستنتهي هذه المعركة، لكنني لم أكن أتوقع أنها ستطول لتأخذ كل أفراد عائلتي. ما زلت أذكر رسائلك التي كانت تصلني عبر البريد الالكتروني. ابتسمت في المرة الأولى التي وصلتني رسالة موقعة من س.م.

«صباح الخير. حلَّ الربيع رغم الحصار القاسي. زرت اليوم الخربة القبلية. تفتَّحَ فيها زهر الأقحوان والليلك. توفيت جدتك ودفنّاها هنا. جلست بجانب قبرها لساعات. خرجت عمّارة من بين الثقوب السوداء. كنتُ أظن أنّها هربت، لكنها لم تغادر رغم القذائف التي أحرقت الخربة خلال سنوات الحصار. نظرت عمّارة اليَّ، كما كانت جدتك تصف نظرتها إليك عندما كنت صغيراً. لم تؤذني. التفَّت حول القبر ثم حدَّقَت في عينيَّ طويلاً. التَمَعَ جلدها الأسود كأنه مدهونٌ بالزيت، شعرتُ بالرهبة وأنا أحدّقُ في عينيها، أفكر أنّ هذه الافعى تحبك. ابتسمتُ لها فانسلت عائدة بين الحجارة».

عمّارة! ثم قهقهتُ لأنسى هذا الهراء، ظللتُ أقهقه حتى المساء. ولماذا أحزن على عجوز ملأت رأسي بترهات وتخاريف؟ عزمتُ على النسيان. عزمتُ على اكتشاف العالم، الهروب من القمقم الذي كنتُ أحتجزُ نفسي فيه. لم أخبرك حينها كم أن العالم صغير، وكم أن البشر يشبهون بعضهم بعضاً. لم أخبرك عن هزائمي المتوالية التي منيت بها في رحلة هروبي الطويلة.