كثيراً ما أقفُ عند الفيديوهات التي تَعرِضُ درجةً عاليةً من العنف، تثيرُ الذعر وتحتوي مشاهد مفجعة لقتلى وجرحى. أو عند مشاهد إعدام طفل في العشرينيات بحجة الإساءة الى الدين أو ما شابه، أو إعدام صحفيين بحجة أي تهمة ملفقة، تهمة جاهزة لتنفيذ الحكم بموجبها بمجرد اختيار الضحية.
أو بالأحرى، يبدو أن هناك كثيراً من التهم التي تنتظر من يمكن تحميله إياها فقط، ليتم تطبيق الحدّ عليه.
من أنا حالياً؟ أنا ناجيةٌ من تجربة اعتقال أو اغتصاب، أو من سلسلة تعذيبات جسدية كان احتمال خروجي منها ضئيلاً جداً. كيف نجوت؟ لا أعرف، ربما نجوت أو أنني أدعي نجاتي. ربما أعتقدُ أني نجوت لكنني لم أنجُ في الحقيقة، بل غرقتُ في قارب النجاة على مفترق حارتين وأنا في طريقي إلى الضفة التي كانت ستحميني.
من الآخر؟ من هو هذا الآخر؟ كيف استطاع تعذيبي بهذا الشكل الهمجي غير المبرر؟ كيف لم يستطع أن يتقبل أفكاري المغايرة؟ لماذا لم يفكر أنها أفكاري وحريتي في التعبير طالما أنها لا تحمل أي تهديدٍ أو أذى؟ طالما أعبّر عنها بسلام. ألم تخطر في باله فكرة أنه قد يكون ناجياً مكاني؟ صدفةُ أنني هنا وأنه هناك، صدفةٌ متوقعةٌ كثيراً، وعرضة للانعكاس في ظل هذه الحرب.
يقول ماسلو إن حاجات الفرد تبدأ بتلبية الضرورات الأساسية لاستمرار الحياة، وكلما أشبعنا حيزاً منها نرتقي إلى الخطوة التالية، لنقف عندها ونعمل على إشباعها أو البحث عن طرقٍ لإشباعها.
أريدُ أن أقفَ هنا عند فكرة الإشباع، وعند سُبُلِ تحقيق الرضا.
تلبيةُ الحاجات الأساسية تتمحور أولاً عند الضرورات الفيزيولوجية كالأكل والشرب والمأوى والملبس، تليها حاجة الإحساس بالحب والأمن والطمأنينة كمحفّزٍ يدفعنا في أبسط الأحوال للاستيقاظ صباحاً بمزاجً مريح، بعيداً عن أفكارٍ تصاحب كثيرين حالياً من قبيل: «ماني حاسس حالي عايش، عم آكل وأشرب وأتنفس، ما عاد فكرت متل قبل، ههه حتى دقني ما عاد حلقتو، من أول ما بفيق بدعي وبقول انشالله أتوفق وأمن خبز لعيلتي أو لاقي شي بطريقي بلكي بياكلوا وما بيناموا جوعانين، شو ذنب هالولاد يعيشوا متلن متلنا، شو دخلن لينامو خايفين وجوعانين، حاسس حالي عاجز ومو طالع بإيدي شي».
أما الخطوة التالية فتندرجُ تحت مسمى تلبية الحاجات الاجتماعية، من احترام وتقدير الآخرين، والحاجة للإحساس بالانتماء، ولعل ضرورة تلبية هذه الحاجات جزءٌ من دوافع كثيرٍ من مقاتلي الفصائل والكتائب الإسلامية في سوريا.
على الرغم من أن هذه الدوافع متشابهة عند الأفراد رغم تعدد الفصائل من نصرة وداعش وصقور وغيرها من الأسماء، إلا أنهم يختلفون في طرق إخفاء هذه الدوافع، عبر تبني آراء إسلامية متنوعة تبرر انتهاكاتهم، كما تبرر الأحكام التي أصدروها ويصدرونها بذريعة الشريعة، إضافة لترهيبهم للمدنيين المعايشين لأوضاعهم بشكل مباشر:
«وضعي المادي بهوي وماني عرفان من وين بدي أمن مصروف عيلتي، شوفة عينك ربطة الخبر بهديك الحسبة غير السكر والشاي، ومن شهووور ما عاد جبت زيت لعيلتي، واللحمة عم نحلم فيها حلم، سمعت إذا بنضم لألن وبقاتل تحت رايتن في راتب بيعطوني ياه، بعيش وبعيّش عيلتي، والله صرت خبي وجهي من أهلي وولادي».
الدوافع التي تدفع الأفراد للانضمام لهذه الفصائل تتباين في درجاتها، لكنها تتمحور حول أمرين: الأول يندرج ضمن الأسباب الاجتماعية والتهميش، الرغبة في الحصول على الاحترام والتقبل والإحساس بالتقدير والاستقلالية والقدرة على تحمل المسؤولية. أما الثاني فيعود لأسباب اقتصادية متعلقة بالبطالة والفقر: «سمعت من فترة أنو في فصايل بدن شباب يقاتلوا، وعم ياخدوا شباب بعمرنا، تعال نروح ننضم ونخلص من وضعنا المعت ومن فقرنا، سمعت أنو بيسمعونا وبيدللونا وبيعطونا كتير مصاري. بس نرجع لعند أهالينا ونعطيهن مصاري رح يحترمونا أكتر ويبطلوا يتفششوا فينا ويفكرونا أنو مو حاسين فيهن، وغير هيك سمعت أنو بالمعسكرات يلي رح يدربونا فيها رح يخصصولنا وقت لنلعب، تعال نروح وإذا ما عجبنا الوضع منترك بس نقبض».
تحرِّكُ دوافعُ الرغبة في تعويض الفشل كثيراً من المقاتلين، عُقَدُ النقص والرغبة في استثارة الانتباه والاهتمام تدفعهم إلى محاولة استبدال الفشل بالأعمال الميدانية التي تثير الخوف والذعر: «صح أنا ما درست، وكنت غبي بالمدرسة، بس ليكني صرت قائد كتيبة وحاسس حالي الله، بقول لهاد يفجر حالو بيروح، بقول لهاد يروح عالجبهة بيروح، انا بأمر وهنن بطيعو، والله صرت شغلة، الله يقدرني لضم كتائب أكتر وأكتر تحت رايتي وصييير رئيس».
يتم استغلال هذه الدوافع، فتتم ممارسة الترهيب من خلال القيام بأعمال القتل وإقامة الحدود كقطع اليد بتهمة السرقة وغيرها من الأعمال العنيفة القذرة، إضافةً إلى استغلال ضياع وضعف الأفراد والجماعات، وخوفهم وخشيتهم من فكرة الدين والله ويوم القيامة، واستغلال فكرة حور العين والجنة وتفاني الروح في نذرها لنشر دين الإسلام والترويج له، وتلقين الأفراد لتنفيذ عمليات إرهابية مختلفة تحت ذريعة الشريعة والجهاد في سبيل الدين والإله.
«أنا ناجية منك، من أفعالك وتصرفاتك وإساءاتك، بس يمكن كنت تكون أنت مكاني، تخيل لو مسكيتك جهة تانية مختلفة عن توجهاتك وأفكارك الدرامية، شو كانوا عملوا فيك؟ أنا نجيت بس يمكن أنت كنت ما نجيت؟ يلي بريحني أنو أنا ما عذبت حدا ولا قتلت بس أنت عذبت وقتلت واغتصبت وقنصت وخطفت وقصفت. يلي عم يصير أنت كل يوم عمتقتل كتير، وفي ناس صح ما ماتت بس عمتموت كتير وكتيير كل يوم. أنا ما سرقت أحلام الولاد بس أنت سلبتن أحلامن وأمانن وألعابن، ويمكن أهلن ورفقاتن وأخواتن. أنت شو رسالتك بالحياة؟ شو غايتك من رسائلك الترهيبية، يلي عم تدفع الناس لترتعب وتتوتر؟
يلي بعرفو أنو كل فرد مرفوض اجتماعياً، أو بيفتقر للإحساس بالتقبل والانتماء، رد الفعل المتوقع منو هو البحث عن جماعة تتقبلو وتعوض مشاعر النقص والفشل المسيطرة عليه. بس هل يا ترى الفرد عندو القدرة ينتمي لجماعة عمتستغل ضعفو وفشلو وإنسانيتو لتصنع منو أداة حرب؟
أنا فرد وأنت فرد وهوي وهيي فرد، ونحنا كلنا مع بعض منشكل جماعة، وهالجماعة بتكبر وبتصير مجتمع. لو كل حدا منا بيبدا بيشتغل عحالو، وبيعتبر معايير الجماعة متوقفة عشغلو، فبرأيي ما كنا وصلنا لهون. في كتير جماعات عم تروّج لفكرة الحرب، ونحنا فينا نشتغل عفكرة السلام ونقاتل الظلم والقهر ونساعد بعضنا لننسج باب يحمينا من الإرهاب، لنحمي بعضنا من أي فكرة متطرفة ممكن تستغل ضعفنا وضياعنا.
أنا الناجية من الآخر، بس يا ترى مين الآخر؟ هل هو أنا أو أنت أو كلنا؟».
من هو هذا الآخر؟؟؟؟