«العرض العسكري في القصير هو رسالة واضحة وصريحة للجميع، ولا تحتاج لتوضيحات وتفسيرات، لأن أي تفسير سيؤدي إلى إنهاء دلالاتها، وعلى كل جهة أن تقرأها كما هي». هذا ما قاله نعيم قاسم نائب الأمين العام لحزب الله، تعليقاً على العرض العسكري الذي نفّذه الحزب في مدينة القصير السوريّة مؤخراً. ولعله مصيبٌ تماماً في قوله هذا، لأن البحث عن تفسيرات أشياء تفسّر نفسها بنفسها، يؤدي إلى طمس دلالاتها في كثيرٍ من الأحيان.
ومع ذلك، فقد بالَغَت صحافة محور الممانعة في التوضيحات والتفسيرات والتحليلات، وكانت جميعها تقول شيئاً واحداً في نهاية المطاف، وهو أن العرض كان في المقام الأول «رسالةً قويةً لإسرائيل»، ثم لـ «التكفيريين» في سوريا أيضاً. ورغم أن اختيار القصير تحديداً جاء «لأنها تحمل رمزية تتعلق بكونها أولى المناطق التي انطلق منها «حزب الله» للانخراط الواسع في المعركة على أرض سوريا في عام 2013» وفق تعبير «المحرر السياسي» في صحيفة السفير، فإن المُستهدَفَ الأساسي من العرض العسكري يبقى قوة الردع الإسرائيلية وفق تحليله.
لم يعد ثمة معنىً عميقٌ للسجّال مع منظري الممانعة حول مسائل كهذه، خاصةً عندما يأتي السجال على قاعدة القول إن حزب الله لا يشكل تهديداً لإسرائيل أصلاً، لأن السجال سيكون عندها مجرد مناكفة، أو ممانعة معكوسة في عمقها. واقع الحال أن حزب الله يشكل تهديداً لقوة الردع الإسرائيلية، ولهذا استهدفت طائراتُها الحربية مواقعه وأرتاله في سوريا مراراً، ولهذا أيضاً كان من بين أوراق إيران في مفاوضاتها النووية.
ما أعتقدُ أنه يسترعي الاهتمام في تلك «المشهدية»، هو تجديدُها طرحَ أسئلةٍ تتعلق بالهوية والكيانات السياسية في هذه المنطقة من العالم، ولعل هذا من الأشياء القليلة التي قد يكون لمساجلة كُتّاب ومنظري الممانعة فيها فائدةٌ ما، فائدةٌ على صعيد محاولة تصويب النقاش بعيداً عن الشعارات، وفائدةٌ في نقاش الجميع مع الجميع، بين المحاور المختلفة، وفي داخل كل محور.
لندع التفسير والتوضيح جانباً عملاً بنصيحة نعيم قاسم، ولنذهب إلى الدلالات فوراً. عرضٌ عسكريٌ ينفذه حزبٌ لبنانيٌ على أرض سوريّة بعد إفراغها من سكانها، والحزب شيعيٌ بتحالفاته وشعاراته وجميع مقاتليه، والسكان المطرودون سنّيون. وهو العرض العسكري الأضخم في تاريخ هذا الحزب الذي يقاتل منذ نحو 33 عاماً، قضى أغلبَها في قتال إسرائيل، لكن معاركه الأشرس كانت في سوريا، ضد سوريين، ومعهم مقاتلون غير سوريين، جهاديون جاؤوا لنصرة من يصفونهم بـ «أهل السنّة في بلاد الشام».
الدلالة واضحة بصرف النظر عن أي تفسيرات تتعلق بالزمان والمكان والأهداف البعيدة والقريبة، يعرفها منظّرو محور الممانعة كما يعرفها غيرهم، فاستعراض حزب الله الأكبر في تاريخه جاء في وسط سوريا، خارج لبنان وبعيداً عن إسرائيل ومجالها الحيوي، في سياق حربٍ أغلبُ شعاراتها مذهبية، والاصطفافُ الأساسي فيها بات طائفياً ويزداد عمقاً يوماً بعد يوم، تتخللها أعمال تهجير مستمرة، ويحتل فيها الصراع مع إسرائيل موقعاً هامشيّاً جداً، بصرف النظر عن توصيفات «المشهدية المرعبة لإسرائيل»، التي يتم تحميلها للاستعراض العسكري إياه.
ما تقدّمَ ليس تفسيراً ولا تحليلاً، بل هو سردٌ لوقائع لا يملك أحدٌ إنكارها. لم يعد حزب الله حزباً لبنانياً بأي معنىً من المعاني، ولا يستطيع أحدٌ أن يطرح عودته إلى لبنان على طاولة البحث، وهو قادرٌ، عبر فائض قوته داخل لبنان وخارجه -وخارجه قبل داخله- على فرض إرادته على المعادلات السياسية اللبنانية. بل إنه يفرضها دون أن يحوز على أي موقعٍ مميزٍ في المؤسسات الرسميّة اللبنانية، أي أنه يفرض هيمنته على مؤسسات الدولة من خارجها إذا صحَّ القول.
لقد باتت الدول الثلاثة، العراق وسوريا ولبنان، مجرد هياكل فارغةٍ تماماً، لا تستوفي أيٌ منها شروط الدولة. لا تحوز أيٌ منها سيادة كاملةً على رقعة أرضٍ معلومة، والجماعات الفاعلة فيها لا تنحصر فعاليتها على ما يُفترَضُ أنها أرضها فقط، ولا تحتكر أيٌّ منها السلاح والحق الشرعي في ممارسة العنف، وليس لأيٍ منها دستورٌ معتبرٌ نافذٌ على جميع ما يُفترض أنها أراضيها ومن يُفترض أنهم سكانها.
ما سبقَ نتاجُ تطبيق الوقائع على تعريف الدولة، وليس فيه أي تحليلٍ مبنيٍ على رؤية إيديولوجية. هو من الدلالات المباشرة لواقعة الاستعراض العسكري إياه، ولغيرِها من الوقائع المشابهة على امتداد أرض العراق والشام أيضاً، التي يمكن القول إن هذه «المشهدية» تكثيفٌ لها، يحاكي تكثيفاً سابقاً قامت به داعش في العراق وسوريا، وتشاء «الصدفة» أن في «المشهديتين» بعضٌ من عتاد «الشيطان الأكبر».
لكن الدولَ الثلاثة إياها راسخةٌ بهياكلها حتى اللحظة، وهي ستبقى كذلك، ألعوبةً بيد الدلالات «الخفيّة» التي لا يعلنها حزب الله وأشباهه، حتى تتبلور بدائل وطروحاتٌ تُبنى عليها دولٌ جديدة، أو بدائل وطروحاتٌ تبعث الحياة في الهياكل المتداعية. وإذ يبدو أن الخياران بعيدان بسبب الرفض العنيد للاعتراف بـ «الوقائع ودلالاتها» والتوازنات الدولية المتوافقة مع هذا الرفض، فإنه يبقى خيارٌ ثالثٌ فقط على المدى المنظور، وهو خيار أصحاب «الجهاد حتى قيام الساعة».
منذ رفعَ حزب الله رايات أبي عبد الله الحسين على مآذن القصير قبل نحو ثلاثة أعوام، أوقدَ نار حربٍ لا يمكن إطفاؤها بسهولة، وهي غير حرب النظام السوري على خصومه، وإن تقاطعت معها إلى حدٍّ يقترب من التطابق. ثم يعود اليوم لينكأ أحد أعمق جراحها عامداً باستعراضه العسكري في القصير، مؤكداً أنه ليس بصدد إنهائها مطلقاً، وأنه ذاهبٌ فيها إلى نهاياتها، النهايات التي تعتقد إيران أنها قادرةٌ على التحكم بها.
ولكن خلافاً لما يقول به أصحاب «الجهاد حتى القيام الساعة»، فإنه ليس ثمة حرب تستمر إلى الأبد. وخلافاً لما يظنه الناس في عهود السلم، فإنه ليس ثمة سلم يستمر إلى الأبد. والحال هذه، فإن الحرب ستنتهي ذات يوم، وستثقلُ جراحُ القصير وأخواتُها كاهل السلم الذي سيليها، وتزرعُ فيه بذور حروبٍ جديدة. وإذا كان حزب الله وأشباهه على الضفة الأخرى يعرفون هذا جيداً، ولا يهتمون بتجنبه لأن «الجهاد ماضٍ حتى قيام الساعة»، فما الذي يفكّر به أولئك «الوطنيون» الذين لا يهتمون بالدلالات الواضحة التي لا تحتاج تفسيراً، ويقفزون فوقها إلى القول إن إسرائيل ترتعد خوفاً من مدرعات حزب الله، التي لم تدهس جنازيرُها شيئاً سوى تراب القصير، وقلوب أبنائها المبعثرين في جهات الأرض.