ما نشهده حتى الآن من استمرارية الصراع الداخلي المسلح في سوريا، يجعلُ الواقع النفسي للأفراد عرضةً لمنعكسات سلبية وصراعات داخلية، كردِّ فعلٍ طبيعي ونوعٍ من الحماية في ظل ما يُعانيه هؤلاء الأفراد من ضغوطٍ وتغيرات، سواء المهجرون منهم (داخلياً وخارجياً)، أو الذين يعيشون تحت سماء القصف أو حالات الحصار والتجويع، ويعانون من توترٍ وذعرٍ وترقب، إذ يعيشون كل يوم كما لو أنه اليوم الأخير، لأن لحظة الموت أصبحت مُنتظرةً ومُعاشةً واقعاً، ويتعذر في ظل هذه الظروف تأمينُ الحد الأدنى من متطلبات الدعم والحماية.

تعدُّ جرائم العنف القائم على النوع الاجتماعي، من اغتصابٍ أو الشروع به، والحمل القسري، أو الاعتقال وملحقاتها، من أقسى الجرائم الإنسانية وأكثرها هتكاً وتسبباً بالرضّ النفسي، حيث تعاني الناجية التي تعرضت لإحدى هذه الجرائم من نتائج صحية خطرة، يُحتمل أن تهدد حياتها إذا لم تلقَ الرعاية والمعالجة. كما أن الناجية عرضةٌ لاضطرابات نفسية كالقلق والخوف والغضب، ولوم الذات والانزواء والاكتئاب وفقدان الثقة، وتتغذى هذه الاضطرابات على العلاقة المتبادلة بين شخص الناجية وطريقة تعاملها مع المشكلة من جهة، وبين البيئة المجتمعية وموقفها تجاه المشكلة من جهة أخرى (ردود أفعال الاشخاص المقربين منها، ومستوى الدعم الاجتماعي المقدم). إذ أن لموقف البيئة المجتمعية تأثيرٌ هامٌ أيضاً في تغيير أو تغزيز ردود أفعال الناجية العاطفية، الإدراكية، السلوكية، والاجتماعية.

المشاعر التي تعانيها الناجية عُرضةٌ للتعزيز أو الإزاحة، حيث تُعزّزُ في حال كانت البنية المجتمعية سلبيةً تجاه واقع تجربتها وشريكةً في جريمة العنف المرتكبة، وهو ما يزيد مستوى اللوم الموجه إليها من جانب الأسرة والمجتمع، من خلال رفضها ووصمها بالعار، ما سيدفعها للانعزال، إضافةً إلى صعوبات في التواصل، أو حتى في إقامة علاقات مريحة مع الآخرين.

ستؤدي نظرة مجتمعها ورفضه لها، لاشعورياً، إلى أن ترفضَ ذاتها كنتيجةٍ مفترضة:

«أنا بحسّ حالي دائماً خايفة ومتوترة، وأسخف الأمور يلي بتواجهني بتوترني، بحسّ في صوت مبحوح جواتي ما بعرف شو هوي، ودايماً بسمعو لمن بكون نايمة، بكون صوتي عالي كتير. بحسّ ما ضل إلي مستقبل، وقفت حياتي من لما طلعت من هونيك،  بخاف أهلي يقلعوني من البيت لهيك بضلني ساكتة كل ما قالولي خرسي مالك حق تحكي ولا تعترضي، كل ما بجي لأحكي لجوزي شو صار معي هونيك بتسيطر علي فكرة أنو رح يطلقني وياخد الولاد وما رح يتقبل، أو يمكن يفكرني كذابة أنو ما صار معي شي هونيك»، «بحسّ أنو ماعندي شي قولو، ويمكن حتى ما في داعي أحكي، ما حدا قدران يساعدني لهيك بدي خليهن بقلبي، قدرانة أتحكم بحالي بس أحياناً ما بعرف شو بصرلي، فجأة بصير عصبية وبيجي عبالي كسّر، وبلحظة بكون عادي ما في شي، حاسة حالي مجنونة مو؟ خايفة كون مريضة.. أنا مريضة شي؟».

ويمكن أيضاً أن تُزاح هذه المشاعر السلبية لدى الناجية ويتم تجاوزها، وتتطلب هذه الإزاحة من المجتمع الوعي، لدعم واحتواء وتفهم الحالة النفسية للناجية، والقدرة على التعامل معها لتقديم الدعم الاجتماعي والعاطفي الذي سيساعدها على تقبل ذاتها، وتقبل ما تعرضت له أو شهدته، واستعادة توازنها النفسي، وتحديد منهجيةٍ لمواجهة مخاوفها ومُسبّبات توترها واغترابها، ومساعدتها على البوح والتذكر والتواصل مع نفسها، فكثيراتٌ منهن غير قادرات، أو يرفضن استرجاع الذاكرة الصورية والانفعالات المرتبطة بمعايشتهن القسرية لها:

«بحس أنو ما عندي طاقة لشي، مالي حيل، حاسة حالي كتير متغيرة كأني حدا تاني مو أنا، ماني قدرانة أطلّع عحالي بالمراية، حاسّة حالي خسرت كل شي، وما رح أرجع متل ما كنت من قبل أنا القديمة».

أغلبهن يشعرن بالاغتراب النفسي أو الانعزال، ولا يجدن الدعم والحماية فيسقطن في متاهة الاغتراب الاجتماعي، نتيجة رفض الثقافة المجتمعية الذي سيؤدي لدى كثيرات منهن إلى رفض الذات كردِّ فعلٍ لا شعوري، نتيجة فقدانهن القيمة الوجودية لذاتهن، إنْ هنَّ لم تتمكنَّ من إطلاع الآخرين على تجربتهن.

أغلب الناجيات تتجنبن الكلام عن تجربتهن، نظراً لأن تذكرهن لما تعرضن له من تعنيف هو أمرٌ مؤلم للغاية، كما قد تخشين من البوح لعدم تفهم الآخرين لما عانينه، عدا عن كثيراتٍ لاتمحى تجاربهن من ذاكراتهن، بمعنى عيش انفعالات التجربة كلما تذكرنها.

جميع المعطيات تؤدي إلى نتيجة أن التكتم عن العنف والاكتفاء بتخيله، يؤديان إلى حالة من الخوف الصامت الذي سيحول دون استئناف الناجية حياتها بشكل طبيعي، ودون إحساسها بالأمان والراحة. لذا لا بدَّ لها من التركيز على ما تواجهه من تغيرات واغترابات نفسية، والإنصات لذاتها والعمل على مشاركة مشاعرها الانفعالية ومخاوفها والعوائق المحطية التي تعزز ما تعانيه، كوجود رفض أو تهديد لها من قبل أسرتها.

اكسري صمتكِ، حطمي قيودكِ لتساعدي نفسك، وتساهمي في تغيير البنى المجتمعية، لوضع حد للعنف والمعاناة التي تطال، أو قد تطال، واقعَ أي امرأة.

إن معاناة الناجية لا تنتهي بالإفراج عنها، ولا تقف عند ما تعانيه جسدياً ونفسياً معاً، ولكونها تعرضت، أو حتى عايشت، حالات تحرشٍ أو اغتصابٍ داخل المعتقل، أو شهدت أفعالاً أخرى غير إنسانية، أو حتى مجرد افتراض وقوعها، فهي عرضةٌ للوقوع في حالات ضغط نفسي شديد، لذلك لا بدَّ من وضع حدٍّ لهذه الإساءات واتخاذ الإجراءات الضرورية اللازمة لحماية الناجية ودعمها وتقديم المساعدة، سواءاً في حال تقبّل واقعها المجتمعي لها أو لا. كما أن قدرة الناجية الفردية هي العامل الأول والأهم للتعامل مع بقايا ورواسب ما عانته، من تقدير عالٍ للذات، والقدرة على فهم انفعالاتها واستيعاب ما يحصل داخلها من تناقضات، والتركيز على مهاراتها الإيجابية لمساعدتها في التعامل مع مشاكلها، أو حتى تشجيعها على طلب المساعدة، ما سيكون له تأثيرٌ إيجابيٌ في المواجهة والتكيّف، ثم التعافي.

من أجل مساعدة الناجية، يجب العمل على توحيد جهود المنظمات والهيئات والجمعيات المهتمة بشؤون المرأة، والمرأة السورية خاصة، لتوفير النفقات الضرورية والجهد. ويجب العمل على توحيد الخطاب الاعلامي المتعلق بتقديم صورةٍ حقيقيةٍ بأوضاع المرأة، هذا الأمر الذي سيساعد على تركيز الجهود وتوحيدها من خلال التنسيق والإنسجام من جهة، وبناء ذات الناجية وإبراز هويتها من خلال بلورة مطالب محددة ومنصفة وقابلة للتحقق، وإحداث تغييرات حقيقية على واقعها المعاش من جهةٍ أخرى.

إن المجتمع السوري الذي تعرض إلى تصدعات غاية في الخطورة، بأمسِّ الحاجة إلى إجراءات تضعُ حداً لظاهرة العنف التي تأخذ أشكالاً مختلفة، تتغذى وتتبلور على الأوضاع النفسية للمدنيين المُعايشين لواقع النزاعات والصراعات المعاشة، كواقعٍ مفروضٍ دون أي أملٍ في الأفق لإنهائه، أو حتى وضع حدِّ له في المدى القريب.