منذ اليوم الأول للثورة السورية، شاركت النساء من جميع الشرائح الاجتماعية، أمهات، طالبات، موظفات، عاملات، معلمات، محاميات، طبيبات، في تنظيم المظاهرات، كما في المظاهرات نفسها. قدمنَ المساعدة للجرحى، وساهمنَ في إخفاء الهاربين من الأجهزة الأمنية، أو من القناصة. كما قمنَ بتنظيم اعتصامات للمطالبة بالإفراج عن أبنائهن وبناتهن وأزواجهن المسجونين ظلماً، وطالبنَ بمعرفة مصير المفقودين والمخطوفين الذين غُيّبوا بشكل قسري ومفاجئ دون معرفة مصيرهم.

أذكرُ إلى اليوم صبيةً في العشرينات، سألتني عندما علمت أنني كنت في سجن عدرا: «هل سمعتِ باسم زوجي؟ كان متلك بالسجن بالشام بصيدنايا، قالولي أغسل أيدي منو، وقال يلي بروح لهنيك ما بيطلع، واللي بيطلع بيكون بعد 40 و50 سنة». منذ بداية الثورة إلى الآن عانت المرأة بشكل خاص، ولا زالت تعاني من وحشية الصراعات والحروب التي تشهدها، سواءَ بشكل مباشر أو غير مباشر، فكانت ضحيةً للاغتصاب والتحرش والاعتقال والتعذيب، في مجتمع محافظ متزمت كان قد حدد دورها، وقوقعَ حياتها، ومنَعها من أبسط حقوقها في التعليم، العمل، اتخاذ القرارات الخاصة بها على أبسط نطاق. حاربها وهزَّ ثقتها بنفسها وهمّشها بحيث تم تحديد قُطرِ دائرتها ومساحة دورها في الحياة عموماً، وفي الثورة خصوصاً.

ثمة نزوعٌ إلى كسر ذاتِ المرأة ومنعها من العمل، لاستمرارِ المحافظة على ركونها وسكونها. ولا زال هذا المجتمع إلى الآن يحاسبها على أنها المسبب في ما تتعرض له من مشاكل ونكسات، ليحاصرها في مشاعر الذنب ولوم الذات، وما ينتجه ذلك من ألمٍ وصراعات داخلية تتفاقم في حال لم تتم معالجتها، «لو لم تفعلي ذلك لما حصل لك هذا، لو لم تخرجي من المنزل لما تعرضتِ للـ…».

لم يخطر في ذهني وأنا في المعتقل، أن إحدى سجينات هذا المكان القبيح –لا ترغب أو تخاف– أن يأتي إخلاء سبيلها، وأن تضطر للبحث عن مكانٍ آخر أو أن تنام في الشارع، أو أن تمارس الدعارة لتأمين الحد الأدنى، حتى لا تضطر للعودة إلى أهلها. تخافُ من مجرد الفكرة، تحاصرها بين حيزين من اللاشعور، تضيع منها فكرة العودة إلى أهلها لأنها تخشى تهمة «الشرف».

كل هذا الظلم والنكران والانتهاك والانتقاص واللامسؤولية، حرّض النساء على العمل والتدريب والنضال للحصول على حقوقٍ متكاملة، ومن أجل إثبات أن لا وجود لفروق بين الجنسين إناثاً وذكوراً، ولا داعي من ثمَ لتنمط دور كل منهما.

«صحيحٌ أن احتياجاتنا مختلفة، لكن لي الحق في فرصٍ تتساوى مع فرصك، لي الحق في أن أختار، وأن أرفض».

سعَت نساءٌ كثيراتٌ لتنفيذ مخططٍ عملي، والتركيز على الموضوع النسوي، لزيادة وعي المرأة بحقوقها وتغيير معتقدات مجتمعها المغلوطة، بما يضمن مشاركتها السياسية في عملية التفاوض والعدالة الانتقالية وعمليات بناء السلام القائم على العدل، وبناء نظامٍ ديمقراطي تعددي حقوقي يحترم جميع أبنائه. وقد انطلقت المرأة من اقتراح حلِّ المعضلة بتدريبات تمكينية متكاملة، لتبدأ طريقها معتمدةً على ذاتها، دون وجود داعمٍ أو محفزٍ لها، لتزيد من ثقتها بقدراتها، ولتتعرف على إمكاناتها. إن النساء اللواتي يتواكلن على الآخرين، «الرجال أو شبكات الدعم الاجتماعي والإنساني وغيره»، ويفتقرن إلى المعرفة الأساسية، غير قادراتٍ على «فعل الاعتقاد» ولو بمحض التصور، وبالتالي فإن مطالبتهن بحقوقهن الأساسية ينبغي أن تُبنى على معرفة ووعيٍ متشعبٍ وملِّم. وعلاوةً على ذلك، هنَّ أكثر عرضةً لجميع أشكال إساءة المعاملة اقتصادياً واجتماعياً وجنسياً، وهذا ما يدفعهن إلى الاعتماد على منهجٍ قائمٍ على أسسٍ موضوعةٍ سلفاً لتحقيق النهوض بحقوق المرأة في سوريا وتدريبها وتوجيهها وتمكينها على مختلف الصُعدِ السياسية والمهنية والاجتماعية، لضمان استقلاليتها وحريتها وتفردها، ولتكون عضواً مشاركاً في إعادة بناء هيكلية المجتمع، والعمل جنباً إلى جنب مع الرجل.

افتتحت نساءٌ سورياتٌ أيضاً مراكز نسائية في المناطق المحررة من النظام، والخاضعة لسيطرة فصائل مسلحة، احتوت ورشات عمل وبرامج تدريبية ركزت على: التعليم والتدريس «لغة إنكليزية، كمبيوتر، محو أمية»، التدريب على مهارات الحياة ومشاريع بناء السلام والحماية «التعريف بحقوق المرأة والطفل، الجندر»، إدارة فرق العمل وتقديم الدعم النفسي والاجتماعي للمدربات والمتدربات، برامج توعية حول المشكلات المتأزمة في مناطقهن «الطلاق، الزواج المبكر والإجباري، العسكرة وتجنيد الأطفال». كما اهتمت المراكز بتقديم دورات مهنية  لتمكين النساء على الصعيد الاقتصادي، لمنحهن الاستقلالية المادية وزيادة ثقتهن بأنفسهن، ودفعهن للمبادرة والمشاركة «حياكة وتطريز، خياطة، حلاقة، ورسم».

ركزت جميع الأنشطة السابقة على المعرفة المهنية والتمكين الثقافي، لزيادة وعي المرأة بميولها وتعزيز مهاراتها وتنميتها وتوسيع نطاق دورها ودعمه. هذه المشاريع كانت حلقات لا تتجزأ، ولا يمكن أن تعمل بشكل منفصل، ثم إن العمل على تغيير وإصلاح المفاهيم -خاطئة الجذور- للمجتمع منذ سنوات، لا بد أن يستند إلى عملٍ مشترك مع القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وتغيير وضع المرأة، وهذا يرتبط بالعمل على تحسين وتطوير بنية المجتمع، التي يجب العمل عليها معاً من أجل تكافؤ الفرص بين النساء والرجال على حدٍ سواء، وتحقيق التغيير المطلوب.

اقتصرت هذه الورشات على النساء لاستحالة غير ذلك، وطبعاً أي تغيّرٍ قد يطرأ على البنية المجتمعية سيكون له ردود فعل سلبية وايجابية بين تقبلٍ ورفض كنتيجةٍ حتمية، وهذا حال رجال ونساء هذه المناطق. قسمٌ منهم تقبّل هذا التغيير واعتبره شيئاً طبيعياً، باعتبار أن الظروف تسوء وأن كثيراً من التغيرات قد حدثت، وأن الوضع يصعب والمعيشة قاسية، والقسم الآخر من الرجال حالَ دون مشاركة النساء في هذه المراكز، واعتبر أن قدومهن ومشاركتهن في هكذا أنشطة وموارد يشكل تهديداً لذكوريته، كأن يفقد بعضاً من سلطته بعد أن اعتاد أنه القائد وصاحب السلطة والقرار، أو أن تتدخل النساء في نطاق صلاحياته التي حددها المجتمع له، والمتمثلة بالعمل وتأمين الطعام للأسرة أو الانخراط في نشاطٍ اقتصادي، كونها تعمل على تمكين ذاتها اقتصادياً، وترغب في الحصول استقلاليتها، والمشاركة جنباً إلى جنب مع الرجل في ساحة العمل. هذه الافتراضات الراسخة في العقلية الذكورية الجمعية «كما عبر عنه يونغ، اللاشعور الجمعي» ثابتة وغير قابلة للتعديل، وتدفع إلى كبت محاولات المرأة، واستدامة محافظة الرجل على قمعه لها. نتيجةً لما واجهته النساء من انتهاكات تراوحت بين الاغتصاب أو الشروع فيه، والاستغلال الجنسي والاعتقال والتعذيب، وما تزلنَ تواجهنه أو عرضةً لمواجهته، تم تنظيم حملات تستند لآليات نفسية متخصصة، لتقديم خدمات عملية للنساء ضحايا العنف «الجندري»، والعمل على انتقاء برامج تساعدهن في إعادة الاندماج الأسري والمجتمعي، وتمكينهن وإعادة ثقتهن بأنفسهن ورفع تقديرهن لذاتهن، لمساعدتهن في استذكار واستحضار ما يخشين عيشه مرةً أخرى في ذاكرتهن.

كثيراتٌ من الناجيات لا ترغبنَ في تذكر ما حصل معهن، ويعتقدن أن هذا النكران سيساعدهن على النسيان، علماً أنه قد يودي بحسب درجة شدة التجربة، إلى اضطرابات نفسية وصراعات داخلية. ولذلك تم العمل على مساعدة بعض النساء في تقبل ما تعرضن له، والعمل على إعادة ثقتهن بأنفسهن وتمكينهن وتوليّهنَ لأعمالٍ وتدريباتٍ تتناول مواضيع الناجيات، كونهن قد واجهنَ التهديدات والمواقف نفسها، ولديهن الخبرات والتجارب نفسها. هذا النوع من تقديم الدعم، يُعرف بالمقاربة النفسية في التعامل مع الناجيات، وهي طريقةٌ داعمة، تعطي النساء تنبيهاً ذهنياً يركّز على الألم والقوة في المرأة، وكيفية استخدامها كآلية داعمة لها، مع استخدام بعض المهارات كالتحاور والاستماع المُضاعف إلى الألم والحزن والعنف والمعاناة، والإصغاء الفعال والمشاركة.

أثبتَ هذا الأسلوب إيجابيته بتسليط الضوء على نقاط ضعف المرأة التي تم ذكرها سابقاً ونقاط قوتها، وجعلها تُظهر صوتها الداخلي لا صوتَ العنف، وتوازنَ انفعالاتها من خلال سرد ما في داخلها، وتُساهم في تغيير نظرتها لنفسها وتشكيل هويةٍ جديدة لها. وهذا بحدِّ ذاته يمثل دعماً لها، كما يُساعدها في تجاوزِ سلبيات هذه التجربة ضمن جلساتٍ جماعية أو حتى فردية إن اقتضى الأمر، كما سيحفزها لتختار السبل الأفضل للتعامل والتأثير على الناجيات الأخريات، ولا سيما حينما يتعلق الأمر بمجموعة نساءٍ لديهن المعاناة نفسها، الأمر الذي يثير بحد ذاته الراحة والأمن للأخريات اللواتي لا زلنَ في طور الخروج منها حديثاً. تشابكيةٌ تشاركيةٌ فيما بينهن، بحيث تساندنَ وتدعمنَ بعضهن بعضاً.

هذه الحملات التي يتم تنظيمها من أجل الناجيات لا بد منها، ذلك لأن المرأة في لحظة الخروج من الفرع أو المعتقل، تكون ضائعة، فاقدة لذكرياتها، مشتتة، غير قادرة على توجيه ذاتها، يتركز إحساسٌ واحدٌ في بؤرة شعورها، أنها ستستعيد حريتها، وهذا يكفيها لمدة من الزمن. وطبعاً تختلف التأثيرات باختلاف مدة الاعتقال ومكانه وأدواته، ومدى استعداد الشخص لها، ومدى حصانته، غير أن المرأة على كل حالٍ تكون بحاجة للحصول على الدعم النفسي والاجتماعي والقانوني والتأهيل المهني، لمنحها الأمان بحيث تستطيع أن تبدأ حياتها من جديد بقوة. كما أنها تكون بحاجة لإعادة دمجها في المجتمع الذي تنتمي له، وإعادة تقبل أسرتها لعودتها. وطبعاً تختلف معايير تقبل هذه الأسر للناجية حسب درجة الوعي ومدى التحرر والتزمت، ومدى تأثرها بالعادات والتقاليد والأعراف المجتمعية، إضافة للقوانين ذات النظرة التمييزية. هذه الحملات تعمل بالدرجة الأولى والأهم على مساندة الناجية ودعمها وتمكينها، وثانياً التأثير على العقلية المجتمعية والضغط عليها لتغيير أسلوبها في التفكير تجاه الناجية.

منذ أن اتخذت الأزمة في سوريا شكلها المسلح، زادت معاناة النساء ونزوحهن وخسارتهن، كفقدان كثيرٍ من النساء لأعمالهن، واضطرارهن للعمل بأعمال غير لائقة بهن، كنبش النفايات أو فرزها أو العمل ضمن المنازل وغير ذلك. أدى هذا إلى تغيير في الأدوار، وتغيير أنماط العمل التقليدية التي كانت سائدة، الأمر الذي أثر على جميع النساء، سواء كنَّ ربات منازل أم عاملات. فالأزمة تؤثر تأثيراً كبيراً على تغيير الأدوار التي كانت تلعبها المرأة في ظل المجتمع الذكوري، وبانعكاس الأزمة على الاقتصاد فقدت كثيراتٌ وظائفهن، أما من لم تفقد وظيفتها، فهي تتعرض يومياً لمشكلات ومضايقات نتيجة الظروف الأمنية وصعوبات التنقل، الأمر الذي جعل المعاناة اليومية التي كانت النساء العاملات يعشنها سابقاً تتضاعف في ظل الخوف المسيطر من كل شيء. ومن ناحيةٍ أخرى أدت الأزمة الاقتصادية إلى ارتفاع الأسعار، والاستغناء عن العديد من الضرورات المعيشية، ما زادَ الأمر صعوبةً على النساء المُعيلات لأسرهن.

هذه المهن غير اللائقة ستزيد من شدة الضغط النفسي، وظهور الاضطرابات النفسية والسلوكية والاجتماعية على النساء، الأمر الذي يتراكم حالياً، وسينفجر في وقتٍ لاحقٍ بشكل أكثر حدة، مما سينعكس سلباً على أسرهن وعلى أطفالهن بالذات. فالمرأة التي تُمارس عملاً غير مُرضٍ بالنسبة لها، ستعاني من ضعف تقدير الذات وتقدير المجتمع، الأمر الذي يخلق فقدان الثقة بالذات وبالآخرين، في وقتٍ تكون النساء فيه غير قادراتٍ على تغيير واقعهن، فيلجأن لاشعورياً إلى آليات دفاعية ستكرس الصور النمطية السلبية الموجهة ضد المرأة.

من خلال تسليط الضوء على كل ما يجري من متغيرات، نجدُ أن معايير صح/غلط ، حلال/حرام، مجرد قيم اجتماعية تختلف بين بيئة وأخرى، وإلى الآن جميعنا نلحظ التغيرات التي اجتاحت مختلف الأصعدة «السلبي منها والإيجابي». بعض هذه التغيرات تم توقع مسارها وتوجهها، وبعضها الآخر كان غير متوقعٍ وغير مفهوم. لكن ما تنبغي الإشارة إليه هنا، هو أن ما يزيد على نصف عدد النساء في بلادنا غير مؤهلات تعليمياً أو مهنياً.

كل ما سبق ذكره أسفر عن شعورٍ عالٍ من الوعي عند المرأة السورية بضرورة الدفاع عن نفسها والمطالبة بحقوقها، وأهمية وجود العمل المنظم على المستويين المحلي والوطني للوصول إلى فرصٍ متكافئة متساوية بين الإناث والذكور. كما أن الوضع غير المستقر وغير واضح المعالم، يستدعي منا إعادة النظر في كل ما يخص حقوق الجنسين، البنية المجتمعية وتصحيح ومسارها ومُتبنياتها الفكرية، والنهوض والبداية من جديد.

إن المرأة السورية هي جزءٌ من المجتمع السوري، وحلُّ أزمتها لا ينفصل عن حلِّ الأزمة السورية بشكل عام، وذلك بالعمل بجميع السبل الممكنة لتحقيق السلم الأهلي، وتأكيد دور المرأة وضرورة مشاركتها الفعلية -لا الرمزية- في جميع النشاطات السياسية والاقتصادية والمجتمعية والثقافية، للنهوض بالمجتمع بشكلٍ واعٍ ومتساوٍ للجميع. ولكن هذا لا يقلل من  ضرورة البدء حالياً بخطوات وإجراءات هامة تحمي النساء، وخصوصاً الناجيات، من أي استغلال.

ثورتنا ليست فقط ضد نظام قتل وقصف وشرد وانتهك، ثورتنا ضد جذورٍ وبنىً فكرية مجتمعية مغلوطة، قمعت واستبدت وهمّشت المرأة أيضاً، حددت دورها وقمعتها، ومنعتها من ممارسة حقوقها ومن فرصها في الحياة. إن إشراكَ المرأة في الأنشطة التي كان الرجال يقومون بها بشكلٍ تقليدي، هو أمرٌ حاسمٌ للنهوض بمجتمعاتنا، فتحقيق المساواة بين الجنسين هي بمثابة خطوة حاسمة وجوهرية تجاه تحقيق تنمية مضمونة الاستمرار.

ثورتنا من إرادتنا، وجمعينا إناثاً وذكوراً، فتيات وفتيان، نناضل  لبناء وطنٍ متكافئ، لنا فيه الحقوق والفرص والموارد نفسها.

– «تجاوز نفسك، إما أن تتجاوزها بالوجود أو بالمفاهيم».

– «كيف أتجاوز نفسي بالوجود؟».

– «عندما تنفجر كطاقةٍ زرقاء في الكون، وتعيدُ الضوء الأزرق عارياً نحو بيته».

– «وكيف أصله بالمفاهيم؟».

– «بكلامٍ يفيض مني عليك ومنكَ عليّ، حتى تتعلم أن تفيضَ من نفسك على نفسك».