غالباً ما سيطر الحدث السياسي على كتابة التاريخ في بلداننا. اعتادت مجتمعاتنا على أن تكون السياسة هي المادة التي تملأ فراغ الآلهة. كل الأنشطة الاجتماعية تختفي أمام بريق السياسة الخاطف. كل إنجاز اقتصادي أو رياضي أو ثقافي هو مجرد دليل على إنجاز سياسي. لا غرابة أن يعبر هذا الدين السياسي عن نفسه في سوريا بأن يلقب رئيس الدولة الأبدي (صاحب السياسة) بأنه الرياضي الأول والمعلم الأول والطبيب الأول، وأول كل شيء. وقد عكس هذا ذاته في كتابة التاريخ، فغدا الحدث السياسي خالق كل ما عداه ومصدره. في كتابه فلاحو سوريا، أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأناً وسياساتهم، الصادر في بيروت 2014، عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بترجمة موفقة لعبد الله فاضل ورائد نقشبندي، ومراجعة ثائر ديب، يسعى حنا بطاطو، المؤرخ الأمريكي البارز ذو الأصل الفلسطيني، إلى الاقتراب أكثر من الواقع، والنظر ما وراء السياسة، وجعل كتابة التاريخ فعلاً ميدانياً أيضاً.
يتقاسم العنوان الرئيسي للكتاب فلاحو سوريا والعنوان الفرعي له (أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأناً وسياساتهم)، عدد صفحات الكتاب مناصفة تقريباً. يخصص الباحث ثلاثة أقسام للعنوان الرئيسي هي (ظروف الفلاحين الاجتماعية والاقتصادية) و(أنماط الوعي والتنظيم والسلوك السياسي الفلاحي قبل البعث) و(البعثية في جوانبها الريفية والفلاحية)، فيما يخصص للعنوان الفرعي قسماً واحداً يعادل بالحجم الأقسام الثلاثة الأولى بعنوان (حافظ الأسد أو أول حاكم لسورية من أصول فلاحية).
الحق أن بين نصفي الكتاب انقطاع شبه تام في المعنى، فلا علاقة لما يتضمنه النصف الثاني من الكتاب بقضية الفلاحين بحصر المعنى. في النصف الثاني من الكتاب تجد نفسك أمام تأريخ للحقبة التي سيطر فيها حافظ الأسد على سوريا، يحاكي الكثير من الكتب التاريخية التي تناولت تلك الحقبة. لكن ما يجعل بطاطو يجمع النصفين في كتاب واحد هو الفكرة الأثيرة على نفسه والتي تقول: ما يحدد سياسة رجل السياسة واهتماماته هو البيئة التي نشأ فيها أكثر مما يحددها أي شيء آخر. والحقيقة أن هذه الفكرة تربط نصفي الكتاب كخيط واه لا يمتلك من القوة ما يسوّغ توحيد النصفين في كتاب واحد.
الفلاحون ليسوا جماعة اجتماعية متجانسة
يمعن بطاطو في التمييز بين فئات الفلاحين في سوريا، فهو يرى أنه «ليست هناك فئة عامة تدعى الفلاحون، بل هناك تشكيلة من الفئات الاجتماعية». يميز الباحث الفلاحين البستانيين (نموذجهم الأصلي فلاح الغوطة) المرتبطين بأرضهم، عن الفلاحين الزراعيين الذين لا يرتبطون بأي قطعة أرض محددة، و«ما كانوا يستكرهون مغادرة مسقط رأسهم» هرباً من مضايقات البدو، (نموذجهم الأصلي فلاح سهل حوران وحوض الفرات). الاستقرار يجعل الفلاح يستثمر في الأشجار المثمرة، ويُسمى هؤلاء في إدلب «أهل العود» أو «أصحاب الشجر»، فيما يجعل عدم الاستقرار الفلاح غير واثق من مكوثه في أرضه السنوات الكافية لجني غلال الأشجار إذا غرسها، فهو بالتالي يميل إلى زراعة المحاصيل الموسمية. كما أن استقرار الفلاحين البستانيين يشكل بيئة ملائمة للتدين، فقد وصل التدين بفلاحي الغوطة مثلاً إلى حد التردد في «قبول الأرض المصادرة بموجب قانون الإصلاح الزراعي خشية من مخالفة تعاليم الدين الإسلامي». فلاحو وادي نهر العاصي في حمص وحماه، وفلاحو مناطق إدلب الغنية بالبساتين هم أقرب إلى فلاحي الغوطة.
يكمل بطاطو التمييز بين الفلاحين، فيتكلم عن فلاحين مسالمين (هم غالباً أهل السهول) وآخرين من أصل محارب (أهل الجبال وأبرزهم الدروز وعلويو الجبال). ويتكلم عن الفلاحين «السنة» والفلاحين «أهل البدع»، ويلاحظ الباحث أن الدين كان «عامل شقاق أكثر منه قوة موحدة، ولاسيما بعد تقدم الأصولية»، وأن صعود فكرة القومية والاشتراكية في الماضي جعلت الجهد التوحيدي ممكناً (سنرى ذلك على يد أكرم الحوراني، السياسي الفلاحي البارز في تاريخ سوريا). ثم يميز الفلاحين بلا عشائر عن الفلاحين المرتبطين بالعشائر، فيلاحظ أن فلاحي الغوطة و«أهل العود» في إدلب والبستانيين في حمص وحماه وحلب، وفي ساحل اللاذقية وسهل بانياس هم فلاحون بلا عشائر. أما «في قرى الفرات ورافديه الرئيسيين البليخ والخابور فما زال النظام القبلي حياً»، وكذا الحال في سهول حوران. وهناك تمييز بين الفلاحين حسب الحيازات الصغيرة والمتوسطة، وتمييز بين المحاصصين والعاملين بأجر. في النهاية نحن أمام فئة تختلف في التجربة التاريخية وفي الولاء الديني والأفق الاجتماعي والمصالح الاقتصادية، كما تختلف من حيث طبيعة الاستجابة لمختلف أشكال المصاعب والمتاعب والقمع.
تأثيرات الإصلاح الزراعي وصعود البعث
ولكن ما التأثيرات التي تركها الإصلاح الزراعي ووصول حزب اشتراكي (حزب البعث) إلى سدة السلطة في 1963 على الفلاحين وعلى علاقات الملكية والبنية العشائرية؟ يشير الكاتب إلى أن الإصلاح الزراعي أحدث تغيراً كبيراً في علاقات الملكية وفي العلاقات العشائرية في مناطق حوض الفرات نظراً لسيادة الملكيات الكبيرة التي فتتها الإصلاح الزراعي. أما الحال في سهل حوران فلم يتبدل كثيراً نظراً لسيطرة الملكية الصغيرة والمتوسطة ثمة. ومن ناحية أخرى، أتاح وصول حزب اشتراكي إلى سدة السلطة فرصاً جديدة للنفوذ والوجاهة مستمدة من العلاقة مع السلطة المركزية بالاستقلال عن العشيرة وعن حجم المُلكية، فقد وصل إلى مواقع عليا في سوريا شخصيات من أصول فقيرة، مثلاً كان أمين فرع حزب البعث في الرقة بين 1966 و1970 ابن بائع خضار، ووصل في السويداء ابن فلاح صغير إلى عضوية القيادة القطرية، ويمكن سرد أمثلة كثيرة على هذا. ولكن لا بد أن نشير هنا إلى أن هذه الحقائق غالباً ما تكون مضللة إذا أخذت كمقياس على مدى انفتاح الحزب الحاكم على الشعب، ذلك أن السلطة الأمنية التي أسس لها البعث جعلت من مسؤولي الدولة نوعاً جديداً من الأسياد يمارسون التمييز والتسلط على نطاق أوسع وأحياناً أشنع مما كان يمارسه الأسياد العشائريون أو الملاك الإقطاعيون. فإذا كانت سلطة الإقطاعي أو شيخ العشيرة تستمد مما يملك من مال وأزلام، فإن سلطة السيد الجديد تستمد من قوة جهاز الدولة بكامله ومن صلاحياته اللامحدودة.
ومن المهم الإشارة إلى أن المعلومات التي اجتهد الباحث في جمعها تفيد أنه «منذ تراجع سوريا عن الراديكالية بعد 1970، حدث انقلاب في بعض الاتجاهات التي ولدها الإصلاح الزراعي»، فانخفض عدد حائزي الأرض بنسبة 5.3% بين 1970 و1981، وكان هذا النقص أساساً على حساب أصحاب الملكيات الصغيرة الذين اضطروا إلى تأجير أرضهم لمزارعين أكبر أو لمستثمرين، ما أدى إلى بروز ظاهرة غياب مالك الأرض – الفلاح. وهذا ما يؤشر إلى تزايد سطوة المالكين الكبار الذين استفادوا من «الغياب الفعلي لأي سقف للحيازات المستأجرة»، على خلاف ما كان عليه الحال في ظل البعث قبل 1970، حيث كان ثمة حدود عليا قانونية للمساحة التي يحق للشخص أن يستثمرها وحده. وارتبط هذا التحول أيضاً بنشوء علاقة تواطؤ بين العناصر القوية في جهاز الدولة وبين المالكين الكبار، نقصد بالتواطؤ هنا أن نظام الأسد لم يبدل القانون رسمياً (على العكس من ذلك فقد صدرت في 1980 تعديلات على قانون سقف الملكية الزراعية جرى بموجبها خفض السقف الذي حدده قانون 1963)، بل تجاهله لتحقيق مصلحة مشتركة بين أصحاب رؤوس المال وبين رجال الدولة الأقوياء. فضلاً عن أن الدولة لم توزع حتى 1975 سوى 33.3% من مجموع الأراضي المصادرة، وباعت 23.5% منها، وخصصت للتعاونيات ومختلف الوزارات 18.1%، وظل الباقي دون توزيع، يقول الباحث «الظاهر أن الكثير منه قد أُجر»، ولكن عدم عثور الباحث على أي بيانات رسمية عن هذه المساحات، يقول إنها تحولت إلى مادة للفساد والنهب بأنواعه.
يطرح هنا مجدداً السؤال عن مدى فاعلية الإصلاح الزراعي في الجمع بين العدالة الاجتماعية والجدوى الاقتصادية. مهما يكن أمر البحث في هذا السؤال العسير، يبقى مما لا شك فيه أن الفساد السياسي يساهم في إفشال أي حل اقتصادي، وعلى نحو خاص في الشأن الزراعي البالغ التعقيد.
ماذا حقق البعث للفلاحين
يذكر الباحث أن حكومات البعث المتعاقبة قامت بخطوات كثيرة لصالح الفلاحين، منها تحسين وضعهم الائتماني من خلال شبكة المصارف الزراعية التعاونية، وخفض العبء الضريبي الذي كان يدفع الفلاحين في أزمنة سابقة إلى قطع أشجارهم للخلاص من عبئها الضريبي الذي كان يفوق مردودها. وكانت كهربة الريف من المجالات المهمة التي أنجزها البعث، حتى عام 1992 تمت كهربة 95% من القرى السورية وبأسعار مدعومة. الإشارة تجدر هنا إلى أن شبكة الكهرباء في سوريا التي وصلت بالفعل إلى أقاصي القرى غالباً ما كانت أكبر من الطاقة الكهربائية المتوفرة. كما أنجز البعث حتى 1980 شبكة مياه آمنة لـ54% من الريفيين و97% من الحضريين. والتحسن الملحوظ في فترة حكم الأسد الأب يتعلق بالمجال الصحي حيث توسعت الرعاية الصحية عموماً، من حيث عدد الأطباء وعدد المستشفيات والمراكز الصحية وقد انعكس هذا في تراجع معدل الوفيات العام ومعدل وفيات الأطفال. فضلاً عن استئصال بعض الأمراض التي كانت تشكل عبئاً على الأسرة السورية مثل شلل الأطفال والجدري والملاريا والسل، وهي خدمات مجانية. وشمل التحسن مجال النقل والاتصالات، ومجال التعليم.
تحققت في ظل الأسد تطورات مهمة في الزراعة من حيث المكننة الزراعية، ومن حيث التوسع الكبير في عدد الاختصاصيين الزراعيين وتشكيل وحدات الإرشاد الزراعي العاملة في الحقول وليس في المكاتب التي تضم أطباء بيطريين ومرشدين زراعيين. مع ذلك «لم يكن التقدم النوعي على جميع المستويات مثيراً للإعجاب»، كما يذكر الباحث. وقد سبق للاقتصادي السوري رزق الله هيلان أن كشف محدودية «إنجازات البعث» مقارنة مع التجربة البلغارية.
لكن في الوقت الذي ينبغي رؤية هذا التحسن، ينبغي أن نرى أيضاً أن أنظمة البعث المتعاقبة، ولاسيما بعد 1970، كانت تسعى أولاً إلى ترجمة هذه الإنجازات العادية إلى شرعية سياسية، فلا ينظر إلى الإنجازات على أنها وظيفة طبيعية للدولة بل على أنها «عطاءات» من «مالك الدولة» المتمثل في «السيد الرئيس». وثانياً إلى تسييس كل المشاريع غير السياسية أكانت، ثقافية أو اقتصادية أو سوى ذلك، من خلال المعاملات التمييزية واستثمار كل مجال لصالح تكريس الاستئثار وتعظيم الفرد وغرس الفكر البعثي الشوفيني والإقصائي.
الهاجس الأمني السياسي يرهق الزراعة
يلفت النظر في الأرقام التي يثبتها الباحث أن مساحة الأرض المستثمرة في سورية انخفضت من متوسط قدره 6.5 مليون هكتار في النصف الأول من الستينات، إلى متوسط قدره 5.5 مليون هكتار في الثلث الأول من التسعينات. في البحث عن الأسباب سنجد أن السبب الرئيسي هو غياب التخطيط أو عدم الالتزام بالخطط، جراء المحاباة أو الرشاوي أو شراء الولاء وشتى أشكال الفساد الذي يحوز على رضى ومباركة القيادات العليا في دولة البعث، طالما أنه يعزز السيطرة. سحب المياه الجوفية بدون رقابة وبشكل يفوق إعادة امتلاء أحواض المياه الجوفية أدى إلى «ذبح المياه» حسب تعبير فلاح من القلمون. وأدى فرط استعمال نهر بردى للأغراض الصناعية والمنزلية إلى «موت بردى» وتحول مياهه إلى «ماء آسن وملوث يقتل الشجر ويؤدي إلى يباسه» على ما يقول أحد فلاحي الغوطة المسنين.
خرجت أيضاً مساحات واسعة من الأرض الزراعية من الاستخدام نتيجة التسبخ وانتشار الملوحة الناجم عن سوء إدارة مياه الري كما في حوض الفرات ومنطقة الغاب. وضاعت مساحات أخرى نتيجة «الزحف السرطاني للكتل الإسمنتية»، ونتيجة بناء مشاريع صناعية في مناطق زراعية مثل مصفاة بانياس ومعمل اسمنت طرطوس. يُلاحظ هنا أن معظم الأرقام والتحذيرات التي يستند إليها الباحث مأخوذة من الجرائد السورية الرسمية ووثائق مؤتمرات الاتحاد العام للفلاحين، ما يدل على أن التخريب ليس ناجماً عن الجهل بما يجري، بل عن ترتيب الأولويات، وفي هذا الترتيب يحتل الهاجس الأمني السياسي المركز الأول دائماً. وسوف نرى أنه حين استشعر النظام الخطر السياسي الأمني جراء الحصار الأوروبي في النصف الثاني من الثمانينات من القرن الماضي، فإنه تمكن من تحقيق قفزات نوعية وحقق الاكتفاء الذاتي في ما سماه «المحاصيل الاستراتيجية».
الشيوعيون والفلاحون
في شرح علاقة الشيوعيين بالمسألة الفلاحية، يمارس بطاطو هوايته في تفسير السياسات استناداً إلى منشأ السياسي، فيقول: «كان للجذور الريفية لمعظم الشيوعيين البارزين الأوائل أثراً في جعلهم ذوي حساسية تجاه مشكلات الفلاحين»، ولكن لم تخدم هذه «الحساسية» الشيوعيين فهم لم يتقدموا في الريف إلا بين الفلاحين المسيحيين في يبرود، ويمكن تقصي الأسباب في عدم مثابرة الشيوعيين، وفي ضعف المواصلات، وفي سيطرة الصوفية على العدد الأكبر من الفلاحين، إضافة إلى الخلفية الأقلوية لجميع القادة الشيوعيين البارزين، باستثناء (ناصر حدة) الذي كان العربي السني الوحيد في قيادة الحزب.
مال الخط السياسي للشيوعيين إلى المهادنة بعد وصول خالد بكداش (غير الفلاحي النشأة) إلى الأمانة العامة للحزب، ما يدعم مؤقتاً فكرة بطاطو الآنفة الذكر. حيث سعى بكداش لكسب ود ملاك الأرض فأكد لهم إنه «لم يطالب، ولن يطالب، بمصادرة أملاكهم .. وكل ما يطلبه هو الرأفة بالفلاح وتخفيف بؤسه». تمكن الشيوعيون رغم هذا التصريح المحبط أن يكسبوا المزيد من الفلاحين، ولكن في أوساط الأقليات الدينية والمذهبية بشكل أساسي. الضربة الأكبر التي مني بها الحزب الشيوعي هي مصادقته على قبول الكرملين قرار تقسيم فلسطين في 1947، وما أعقب ذلك من حظر الحكومة السورية للحزب في 1948. فبينما كان عدد أعضاء الحزب في لبنان 20 ألف عضو، وفي سوريا 15 ألف في 1947، لم يتجاوز عدد أعضائه في البلدين بضع مئات في 1949. أهمية الموضوع الوطني، ولاسيما فلسطين، تطغى على المواضيع الأخرى. جدير بالإشارة أنه لم يعد الأمر على هذه الحال اليوم، تراجعت المسألة الوطنية بوضوح أمام مطلب الحرية والكرامة التي تعني العدل والمساواة أمام القانون.
في 1951 عاد بكداش إلى المطالبة بتوزيع أرض كبار الملاكين، وتمكن الحزب من اختراق البيئة العربية السنية في منطقة كفرتخاريم في إدلب وفي بلدة الموحسن في دير الزور التي راحت تعرف باسم «موسكو الصغرى»، وقادوا نضالات فلاحية ضد الملاكين الكبار والاقطاع، لكن تبين أن كل مكاسب الشيوعيين هذه عابرة، فقد تراجع حضورهم كثيراً نتيجة موقف بكداش من الوحدة المصرية السورية وقانون الإصلاح الزراعي، الأمر الذي جعلهم في انحدار لم ينهضوا منه ثانية.
في بداية السبعينات ارتبط بكداش بالنظام السوري وهذا كان مصدر ضعف له أكثر مما هو مصدر قوة، حتى تحول إلى قوة مهملة على الساحة. وهذا الحال فتح باب الانشقاقات عن الحزب الشيوعي. كان انشقاق المكتب السياسي بقيادة رياض الترك أول انشقاق يتعرض له الحزب، تلته فيما بعد بضعة انشقاقات. ورافق هذا الهزال الشيوعي الرسمي نشوء ظاهرة الحلقات الماركسية «نوع من الحركة الأصولية الماركسية»، التي انتهت إلى تشكيل تنظيم شيوعي جديد باسم رابطة العمل الشيوعي (هذا ما لا يعرفه الكاتب الذي يظن أن رابطة العمل انشقاق آخر عن الحزب الشيوعي). يعرض بطاطو التنظيمات الشيوعية السورية بتسرع وخفة لا تليق بباحث على هذا المستوى، ويستند إلى أقاويل وشائعات تشوه هذه التجارب في الوقت الذي لا يزال أهل التجارب هذه أحياء يمكن مقابلتهم، ولا يزال من الممكن الاطلاع على أدبيات هذه التجارب لعدم الوقوع تحت رحمة «الشائعات». فليست رابطة العمل الشيوعي التي أصبحت حزب العمل الشيوعي بعد مؤتمرها الأول والأخير عام 1981، جناحاً من أجنحة الحزب الشيوعي السوري، كما أنها ليست بقيادة ضباط علويين ولم تتبن الكفاح المسلح، أي إن كل ما أورده حنا بطاطو عن رابطة العمل الشيوعي خاطئ ما عدا الاسم. للأسف، القاعدة في كتابة التاريخ هي التشويه والإهمال والاستخفاف بالتجارب المتعثرة، وبالمقابل التلميع والتعظيم والاهتمام بالتجارب التي تستولي على الحكم، وتفرض نفسها ولو بالقوة والعنف.
أول حزب زراعي في تاريخ سوريا
اسمه الحزب العربي الاشتراكي، والروح المحركة له كانت شخصية أكرم الحوراني الذي «لم يكرس أحد معظم طاقاته لخدمة الفلاحين أو الدفاع عن قضيتهم بحماسة أو تمتع بثقتهم أكثر منه .. حتى أصبح محل عواطف قريبة جداً من تلك التي كانوا يكنونها للأولياء الصالحين».
كانت حماه مهد انطلاق الحزب الذي شمل سوريا، لأنها كانت منقسمة بحدة بين الإقطاع والفلاحين، بين الذوات والشعب. وسنلاحظ على تجربة هذا الحزب ما يلي:
1- كان الحوراني ابن أسرة مدينية دينية (صوفية) ولم يكن من بيئة فلاحية، وقد تعلم في مدرسة دار العلم والتربية مع أبناء الأسر الاقطاعية. وعلى الرغم من أن حركة الحوراني «وجدت أخيراً أكثر مؤيديها حماسة بين الفلاحين، فقد جاءت إلى الحياة على أيدي أشخاص غير زراعيين». هذا أقرب إلى فكرة لينين عن طريقة نقل الوعي إلى الطبقة العاملة، منها إلى فكرة الكاتب. ليست النشأة إذاً بهذا القدر من الأهمية التي يوليها الباحث في تقديم تفسيرات للميول السياسة للأشخاص، مثل تفسير الميل الوحدوي عند ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار ومدحت البيطار بأنهم أبناء تجار حبوب بالجملة (بوايكية) في حي الميدان، ويتطلعون إلى سوق أوسع توفرها الوحدة العربية، والتفسير نفسه يعتمده الكاتب لتفسير الحماس «البعثي» لجلال السيد (العضو الرابع في أول مكتب تنفيذي لحزب البعث) ابن دير الزور. واللافت أن الباحث يذكر في كتابه إن جميع أعضاء المكتب التنفيذي للبعث منذ تأسيسه حتى اندماجه مع الاشتراكيين العرب كانوا من جذور مدنية، كما أن المؤتمر الأول لحزب البعث (حزب العمال والفلاحين) في 1947 لم يضم سوى عامل واحد ومزارع واحد.
2- الحوراني ليس إسلامياً بل اشتراكياً، وقد تجاوز بذلك خطوط الانقسام المذهبية وحشد جمهور الفلاحين في مختلف المناطق السورية. ولم يحل فكره الاشتراكي دون اختراقه الأوساط المسلمة السنية.
3- الصلة الوثيقة بين النضال الفلاحي للحوراني ونضاله القومي ولاسيما دخوله فلسطين في 1948 على رأس مجموعة من المتطوعين، غالبيتهم من حزب الشباب الذي كان يترأسه، لمهاجمة المستوطنات الصهيونية.
البعث القديم والانتقالي والجديد
ما قبل الوحدة مع مصر، كانت المُثُل العليا تحفز ما يسميه الباحث «البعث القديم» منذ 1945 حتى 1958. أطباء متفانون من أعضاء الحزب يذهبون سيراً على الأقدام لتقديم علاجات مجانية لفلاحي القرى النائية والمهملة، وناشطون في الحزب يرسلون على حسابهم الشخصي أبناء الفلاحين للدراسة. جرى حل الحزب خلال الوحدة السورية المصرية التي لم تعمر طويلاً، ثم جرى تشكيل ما يعتبره الكاتب «البعث الانتقالي» الذي استمد زخمه من اللجنة العسكرية السرية التي تشكلت في القاهرة في 1959 واستمرت حتى إحلال المكتب العسكري التابع للقيادة القطرية لحزب البعث في محلها في آب 1965. أما بعد 1965 فقد بدأ يتشكل «البعث الجديد» الذي تبلور بعد 1970 حيث بات غالبية أعضائه «يتنافسون على المناصب والعلاوات أكثر من الارتباط بفضيلة التفاني».
ويجهد الباحث في تقصي الأصوال الاجتماعية لأعضاء اللجنة العسكرية التي لم تكن نسبة العلويين غالبة فيها على عكس ما هو شائع. حتى في الجيش ككل «على مستوى الضباط لم يكن العلويون مهمين عددياً بمثل أهمية السنة قبل عام 1963». غير أن الكاتب ينجذب إلى لغة دارجة تنظر إلى الواقع السوري بدلالة الطوائف فيسأل: «ما هي أسباب النفوذ القوي للضباط العلويين؟» ومن الطبيعي إذاً، حين يبحث عن الجواب، أن يتعامل مع الطوائف ككتل متمايزة وهو اعتبار ضعيف. رغم أنه يقول «إن الضباط العلويين لم يتصرفوا دوماً انطلاقاً من وعي أنهم علويون»، فإنه ينظر إلى حركة الكتل العسكرية ومراكز القوى بدلالة طائفية هزيلة المعنى. يفسر بطاطو قوة نفوذ الضباط العلويين بعدم الفاعلية السياسية للكتلة العظمى من السوريين (يقصد المسلمين السنة)، وبأن المنبت القروي للضباط العلويين جعلهم أكثر تجانساً، مقابل اختلاف منابت الضباط السنة ودخولهم بالتالي في صراعات فيما بينهم. غير أن هذا التفسير يهرب من أن الصراعات كانت شديدة أيضاً بين الضباط العلويين، والتي وصلت إلى حد إبعاد ثم اغتيال محمد عمران، والصراع الدائم بين حافظ الأسد وصلاح جديد إلى حد نشوء ازدواجية في السلطة منذ 1968، إلى أن حسمها الأسد بانقلاب تشرين الثاني 1970.
في محلات أخرى، وتحت ضغط معطيات البحث من جهة والنزعة الموضوعية للباحث من جهة أخرى، يخرج الكاتب من ترسيمة التعامل مع الطوائف ككتل سياسية، فيقول مثلاً: «تاريخ البعث في الستينات هو، بمعنى ما، تاريخ شقاقات حزبية. لم تكن النزاعات الحزبية الداخلية قط طائفية صرفاً أو مناطقية صرفاً بطبيعتها. هكذا كان من الممكن العثور على عناصر من المجموعات البعثية الرئيسية في الجيش – مجموعة اللاذقية العلوية، مجموعة جبل العرب الدرزية، ومجموعتا حوران ودير الزور السنيتان – في هذه اللحظة أو تلك في كل فئة سياسية تقريباً. وغالباً ما كانت العوامل أو التطلعات الشخصية إلى السلطة حاضرة. وكان للقرابات العقائدية دور ما، لكن لا يبدو أنه كان حاسماً». يبقى السؤال: ما هي الأسس التي تجعل الكاتب يقسم المجموعات على أساس طائفي ومناطقي في الوقت الذي يقول فيه إن هذه الكتل تتوزع في كل فئة سياسية، وإن القرابات العقائدية لم تكن ذات دور حاسم؟
هناك نزعة للمبالغة في دور المنشأ والروابط الطائفية ربما يجد تفسيره هنا في أنه حين لجأ الأسد الأب إلى ترسيخ سلطته وتأبيدها مستنداً إلى شتى أنواع العصبيات المتاحة ومنها العصبية الطائفية، مال كثير من المحللين إلى إسقاط الحاضر على الماضي، ليبدو الماضي محلاً للخطط والمؤامرات الطائفية، ولتقسر الصراعات على الانضواء تحت بنود طائفية. كان يؤمل من باحث بجدية بطاطو أن يبتعد عن هذا الاستسهال.
البعث ما بعد 1970
في أول مؤتمر قطري للبعث، بعد استيلائه على السلطة في تشرين الثاني 1970، اعتبر حافظ الأسد في تقارير ومقررات المؤتمر القطري الخامس الذي انعقد في أيار 1971 «قائد المسيرة»، مع إضافة أن «التفاف الجماهير حول القائد لا ينقص القيادة دورها، فالرفيق حافظ الأسد حزبي ملتزم بقرارات القيادة ومتفاعل معها». غير أن هذه الإضافة تقادمت مع الوقت واختفت أي قيادة ما خلا قيادته التي ينبغي أن «يلتزم» بها الجميع، فسوف نقرأ في تقارير ومقررات المؤتمر القطري الثامن 1985، الذي عقد تحت شعار (قائدنا إلى الأبد، الأمين حافظ الأسد)، إن «الولاء له (للأسد) ولاء للحزب وللشعب وللقضية». جاء هذا بعد انتصارين حققهما الأسد، الأول في صراعه مع الإخوان المسلمين، والثاني في «صراع الخلافة» مع أخيه رفعت الأسد.
أبرز ما يلفت الانتباه بعد 1970 هو النمو السريع لحزب البعث، من حوالي 65 ألف في 1971 إلى 374 ألف في 1981إلى ما يزيد على المليون في 1992، أي 14.5% من عدد السكان البالغين، وللمقارنة فإن الحزب الشيوعي السوفييتي لم يضم في ذروة قوته أكثر من 9% من السكان البالغين. يذكّر هذا التوسع السريع في العضوية بالتوسع الذي شهده الحزب الشيوعي السوفييتي عقب وفاة لينين جراء إقدام ستالين على قبول نوعية انتهازية من الأعضاء في الحزب تحت اسم «فوج لينين».
كان الغرض من توسيع عضوية حزب البعث هو استخدام الحزب لبسط النفوذ والسيطرة، حيث تحول الانتساب إلى الحزب شرطاً ضرورياً لكل سوري للحصول على وظيفة أو الارتقاء بالوظيفة أو الحصول على بعثة للدراسة أو تسهيل المعاملات في مؤسسات الدولة ..الخ.. «تمتع أعضاء النخبة الحزبية بعد 1970، على عكس نظرائهم في الخمسينات والستينات الذين كانوا غالباً مناضلين أو متحمسين، بصفات الموظفين».
صار البعث مجرد شاهد على مبدأ اشتغال النظام بعد 1970، الذي يمكن تلخيصه بعبارة: «بايعْ، ثم افعل ما شئت»، حتى بلغ الأمر حداً جعل الأسد في 1977 يستشعر الخطر ويوصي بتشكيل لجنة للتحقيق في الكسب غير المشروع. بعد ذلك صار مبدأ النظام أكثر تعقيداً «بايعْ، ثم تعلم كيف تفعل ما شئت». مع ذلك كان النظام ينقضّ، بين فترة وأخرى، على بعض رجالاته كنوع من تبييض صورته أمام الناس، ولكن الأهم كنوع من لجم الآخرين حين يغدو اقتصاد البلد في وضع يهدد معه السلطة.
الأسد: فك ارتباط الفعل عن القول
من بين هتافات المتظاهرين في بداية الثورة السورية: «يا بثينة يا شعبان الشعب السوري مو جوعان». كان هذا رداً على تصريح لبثينة شعبان، مستشارة بشار الأسد، بزيادة الرواتب كاستجابة على مظاهرات أهل درعا. وكان في هذا الهتاف الواضح البسيط إدانة، وليس فقط رفض، للفكرة التي دأب الأسدان، الأب والابن، على تكرارها وهي إن الحاجات المادية أولى من الحريات، بما يوحي أنه لا يمكن الجمع بين الجانبين.
في الواقع ينظر الأسد إلى الناس العاديين «الشعب» على أنهم كائنات اقتصادية ولم يخلقوا للسياسة، أي إنهم مادة سلبية لفعل السلطة الديكتاتورية، أما في الخطاب فإنه يمجد الشعب ويعظمه باعتباره «مصدر كل السلطات». في الواقع يمارس القمع المعمم وفي الخطاب يقول إن نظامه أولى «حرية المواطن .. وتوفير الحرية في أوسع أشكالها» ما تستحقه من قيمة. في الواقع يفرض قيادة حزب البعث فعلياً ودستورياً للدولة والمجتمع، وفي الخطاب يتكلم عن «التعددية السياسية التي مارسناها في مختلف جوانب حياتنا». في الواقع يقدم على اغتيال الخصوم السياسيين، من محمد عمران إلى كمال جنبلاط إلى صلاح الدين البيطار، وفي الخطاب يقول في كلمة له أمام المؤتمر القومي الثاني عشر لحزب البعث: «تصوروا أن نقوم، نحن بسورية، باغتيال مواطن لأنه ضدنا سياسياً .. هذا أمر شاذ في هذا العصر، وفي كل عصر».
والحقيقة أن الالتفاف والازدواجية في الخطاب من السمات البعثية البارزة، مثلاً في مقابلة للأسد مع باتريك سيل يستشهد بها الباحث يقول الأسد: «إن الأولوية الأولى للجنة العسكرية كانت الدفاع عن الوحدة التي بدت مهددة بين عامي 1960 و1961»، مع أن ما مارسته اللجنة بعد توليها الحكم في سوريا كان فيه الكثير مما يشير إلى غير ذلك، فضلاً عما يقوله سامي الجندي في عام 1969 من أن أحد أهداف اللجنة العسكرية كان وقف التعاون مع كل من تعاون مع نظام الوحدة. وتشكل طريقة تعامل الأسد مع ما سمي «انتفاضة فتح» بقيادة أبو موسى في 1983، حيث كان يمارس دور الوسيط في العلن، ويمد جماعة أبي موسى بالدعم ويسهل استيلاءهم على مستودعات إمداد فتح الخاضعة لحراسة السوريين بالقرب من دمشق.
مركب سلطة الأسد
يحدد الباحث أربعة مستويات لبنية سلطة الأسد، المستوى الأول هو الأسد شخصياً الذي يتمتع بسلطة فردية لا ينازعه فيها أحد، يليه رؤساء شبكات الاستخبارات والأمن الذين يبقون في الظل، وهذه أجهزة تعمل باستقلال عن بعضها البعض، ولا حدود لصلاحياتها. يضاف إلى هذا المستوى قادة التشكيلات المسلحة المنتخبة لحماية النظام مثل الحرس الجمهوري والقوات الخاصة والفرقة الثالثة المدرعة وسرايا الدفاع. غير أن الباحث يظن أن بقية القطع العسكرية كانت تتمتع بالحياد السياسي فيقول إن الأسد راح يكد «ليبعد عن السياسة بقية القوات العسكرية النظامية». أما الواقع فهو أن فكرة الجيش العقائدي حولت الجيش إلى أداة بيد النظام، حين ماهت هذه الفكرة بين النظام وبين الوطن.
تأتي قيادة حزب البعث على المستوى الثالث، وعلى المستوى الرابع يأتي الوزراء وكبار موظفي الدولة والمحافظين والمجالس التنفيذية والمجالس المحلية وقادة المنظمات الجماهيرية التابعة للحزب.
غير أن أهم ما يميز سلطة الأسد هو أشكال السلطة البعيدة عن الرؤية، أي الأفراد والمجموعات خارج حلقة السلطة الرسمية الذين يمارسون التأثير في السياسات العامة بوسائل ملتوية أو سرية أو عبر صلات شخصية أو علاقات غير رسمية. كمثال على ذلك، يورد الباحث تجار سوق الحميدية الذين مارسوا لعبة مزدوجة في فترة الصراع بين الإخوان المسلمين ونظام الأسد. بعضهم ساعد الإخوان سراً، فيما «ضَمِنَ سواهم امتيازات الطبقة ككل من خلال مبادرات دعم النظام عبر غرفة تجارة دمشق». وكان للتجار سلطة غير مرئية يمارسونها دون أن يرتبطوا بحزب أو ينافسوا على مناصب. ومما يدل على قوة هذه الطبقة أن شخصاً بسلطة ورعونة رفعت الأسد يشتكي منها بما يؤشر على ضعفه أمامها. ينقل الباحث عن صالح عضيمة، صديق رفعت الأسد، قوله: «من المثير للاهتمام أن رفعت كان في أوج قوته يشك كثيراً في أن أصحاب الأعمال والتجار هم وراء الخلافات في قيادة الحزب… وإنهم يكرهون حزب البعث… وإنهم تعودوا أن يضعوا أيديهم على ما في البلاد، وإذا لم يكن لهم ذلك، فلا يرضون بأقل من أن يقسموا البلاد بينهم وبين السلطة: تنفرد السلطة بالحكم وآلة التنفيذ، وينفردون هم بالمال وبوسائل التصريف والتدبير».
واضح من الأرقام مدى ثقل طبقة التجار وتأثيرها، فقد سيطرت على 65.3% من تجارة الاستيراد في 1995، مقارنة مع قيم متذبذة من قبل أدناها 8.3% في 1984 وأعلاها 42.6% في 1989. فضلاً عن سيطرة القطاع الخاص على 93% من تجارة التجزئة.
القوة الخفية الثانية هي الاقتصاد غير النظامي «التهريب» الذي بات يسمى «الفرع الرابع من التجارة»، (الفروع الثلاثة الأخرى هي التجارة الداخلية والخارجية والترانزيت). ينقل الباحث من تقرير أعده د. نبيل سكر مع عدد من الخبراء الاقتصادين ما مفاده إنه ليست هناك تقديرات لحجم الاقتصاد غير المنظم لكن هناك قناعة بأنه يتجاوز 30% من الناتج المحلي الإجمالي، وربما أكثر بكثير. أي هناك دولة خفية لها نفوذها واقتصادها أيضاً. معروف إن التهريب هو نشاط رجال الدولة الرسميين «المسؤولين»، وغير الرسميين «الشبيحة». وأمام تعاظم هذه الظاهرة إلى حد الخوف من العجز عن ضبطها، شن باسل الأسد في مطلع التسعينات حملة واسعة على «المهربين»، وما كان لأحد أقل من ابن الأسد المرسوم لخلافته (لولا أن خطفه الموت في كانون الثاني 1994) أن يقوم بمهمة كهذه.
ومن الأرقام المخيفة التي نقلتها وكالة الأنباء الفرنسية في 1988، أنه كانت تنساب كتلة مالية تقدر بين 1.4-2.6 مليون دولار يومياً عبر الحدود مع لبنان، وينتهي قسم كبير منها في القسم الشرقي من بيروت حيث لم يكن للجيش السوري أي وجود.
يشعر الأسد بخطر الفساد على نظامه، ويدرك أن «التهريب مشكلة» ولكنه إن حارب الفساد بجدية، فإنه إنما يقطع الغصن الذي يستند إليه. ومما له مغزى مزحة السيدة البعثية في المؤتمر القطري لحزب البعث في 1985، تعقيباً على توصية بمنع السوق السوداء اللبنانية، حين قالت: «كيف يمكن منعها في حين يعيش جميع الحاضرين عليها»، مستجرة ضحكة من الأسد.
هل نظام الأسد طائفي؟
هذا أحد الأسئلة التي يطرحها الكاتب على نفسه ويبحث له عن إجابة على ضوء ما يتوفر له من معطيات، ويكتسب هذا السؤال أهميته اليوم من طغيان اللغة الحشدية والتعبوية على اللغة التحليلية في فهم تركيبة النظام السوري.
يستعرض الباحث أسماء الأشخاص الذين شغلوا المواقع الرئيسية في القوات المسلحة وأجهزة الأمن والمخابرات، بين 1970 و1997. ويستخلص النسب الطائفية منها، حيث تبين له إن 61.3% من بين الضباط الـ31 الذين انتقتهم يد الأسد بين هذه التاريخين ليحتلوا هذه المواقع الرئيسية هم من العلويين. كان سبعة منهم من أقارب الأسد بالدم أو بالزواج. ولكن «هل نستنتج من هذا أن نظام الأسد طائفي في صميمه؟» يسأل الكاتب. ويجيب إنه «لا يوجد سوى القليل من الأدلة على أن الأسد أعطى في سياساته الاقتصادية تفضيلاً ملحوظاً للطائفة العلوية، أو أن أغلبية العلويين تتمتع بأسباب الراحة في الحياة أكثر من أغلبية الشعب السوري». يميز الباحث بحق بين البنية الصلبة للنظام التي تقوم على عصبية السلطة، وبين النهج العام للسلطة فيما يخص المجتمع. يندرج اعتماد النظام على أشخاص موثوقين (سواء جاءت هذه الثقة من روابط عائلية أو عشائرية أو طائفية أو حزبية أو… الخ) ضمن ممارسات النظام الديكتاتوري المهووس بأمن السلطة، والذي يبقى هاجسه الدائم تعزيز تماسك وولاء مؤسسات العنف التابعة له. وقد زاد هذا الميل لدى الأسد في الاعتماد على المقربين خلال وبعد المواجهة مع الإخوان المسلمين الذين ساعدوا النظام بطرحهم الطائفي على حشد أبناء الأديان الأخرى والمذاهب الأخرى ورافضي المنطق الطائفي من المذهب السني نفسه، دون أن يلزم النظام نفسه تجاه هؤلاء بأي امتيازات، أي كان من شأن طائفية الإخوان تقديم دعم مجاني للنظام لمجرد وقوفه ضد الإخوان المسلمين. يضيف الكاتب: «من الجدير بالملاحظة أن مناوئي النظام في كل الطوائف يعترفون إن أغلبية العلويين لا تتمتع بمعاملة مميزة، وأنهم مهمشون سياسياً مثل باقي الشعب»، ويستشهد بأقوال لحمود الشوفي وصلاح الدين البيطار وعدنان سعد الدين، تنصرف إلى المعنى ذاته.
الكاتب يميز بين آليات ضمان تماسك اللب الصلب للسلطة، وبين نهج السلطة السياسي في المجتمع. لا شك أن النهجين متكاملان، فسياسة النظام في المجتمع تعزز أو تضعف السلطة، كما أن قوة تماسك النواة الصلبة للسلطة تنعكس ميلاً عاماً للاستسلام لها، والعكس بالعكس.
خاتمة
يتناول الكتاب أيضاً قضايا كثر الحديث عنها في مراجع عديدة، مثل الصراع مع الإخوان المسلمين، وما سمي «صراع الخلافة» مع أخيه رفعت الأسد خلال فترة مرضه في أواخر 1983 وأوائل 1984. كما يتناول تحليل موقف الأسد من الحرب العراقية الإيرانية، وأخيراً يفرد فصلاً كاملاً للحديث عن علاقة الأسد بحركة فتح بين 1966 و1997. قليلة هي المعلومات الجديدة التي يأتي بها الباحث، ويتركز محور اهتمام الباحث فيها جميعاً على مواصفات شخصية الأسد وطريقته في التعامل مع خصومه.
يبقى أن أشير إلى نقطتين: الأولى هي غياب التوازن البحثي في مواضيع الكتاب، ففي حين يجهد الباحث نفسه في مواضيع معينة ويتجشم عناء السفر والزيارات الميدانية والبحث في الأرشيف ولقاء شخصيات معنية في فصول، فإنه يتعامل بحدود دنيا من الجدية في تناول فصول أخرى، مثل فصل (الشيوعيون والفلاحون)، حيث يُظهر الباحث عدم دراية صريحة في بعض جوانب الشأن الذي يكتب فيه.
النقطة الثانية هي أن القارئ لا يفهم قيمة أو معنى التركيز والإلحاح الذي يبديه الباحث على «الوجهاء الريفيين الأقل شأناً»، أو الفئة المتوسطة من وجهاء الريف، باعتبارهم الفئة التي ينحدر منها الضباط الذين سيطروا على سوريا بعد 1963. في العنوان الفرعي وعلى مدى الكتاب يذكر الكاتب بهذه الفئة، دون أن يكتشف القارئ أي قيمة سياسية أو غير سياسية لهذا الإلحاح.
بعد كل شيء، يبقى فلاحو سوريا مرجعاً ضرورياً لمن يريد معرفة أوثق عن سوريا، ولا سيما بعد 1970.