تحتفل الولايات المتحدة الأميركية في الاثنين الثالث من بداية كل عام بذكرى ميلاد زعيم حركة الحقوق المدنية ورجل الدين الأسود مارتن لوثر كينغ جونيور. أصبح هذا اليوم عطلة وطنية تلتزم بها الولايات الخمسون ويتم إحياؤها بإقامة الصلوات وإطعام المشرّدين. لم يكن «يوم مارتن لوثر كينغ» الذي حل في 19 من الشهر الماضي تقليدياً هذا العام، ولم يقتصر على العظات الطوباوية والمراسيم الاحتفالية، بل تحوّل إلى يوم احتجاج وغضب، إذ نظّم فيه الشباب الأميركيون الأفارقة تظاهرات حاشدة، جابوا فيها شوارع عشرات المدن الكبرى وأغلقوا الطرق الرئيسية وطالبوا باسترداد الإرث الجذري الذي خلّفه مارتن لوثر. هذا الإرث الذي دأبت الطبقة البيضاء الحاكمة، بشقّيها المحافظ والليبرالي، مدعومةً بالمنتفعين من السود والملوّنين، ومتّكئة على أركانها السياسية والمالية والإعلامية، على طمسه وتمييعه ضمن سعيها لـ «إعادة تأهيل» مارتن لوثر وتحويله، من ثائر ناضل من أجل انعتاقٍ كامل للسود والفقراء، إلى مجرد داعية لا عنف مهذّب وتمثالٍ محنّط، يسهل على الطغمة التي حاربته أثناء نضاله، التصالح مع رمزيّته بعد وفاته، وحتى تسخيره لإسكات السود والفقراء واحتواء سخطهم.
يحفل التاريخ الحديث بأمثلة على ثوار ومثقّفين لقي إرثهم الجذري المصير ذاته. فكم منّا يعلم، مثلاً، أن نضال الكاتبة والمحاضرة الأميركية هيلين كيلر لم ينحصر في التغلب على الإعاقة؟ فقد كانت، علاوة على ذلك، ناشطةً نسويّة واشتراكية، وعضواً في «منظمة العمال الصناعيين في العالم»، في وقت تعرّض فيه اليساريون في الولايات المتحدة إلى أعتى أشكال القمع والملاحقة. وشاركت كيلر في اعتصامات مناهضة لخوض الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى، بالإضافة إلى دعمها للإضرابات العمالية وإصرارها على ربط مواجهة الإعاقة بتحقيق عدالة اجتماعية شاملة. أدى نشاط كيلر السياسي إلى تخصيص مكتب التحقيقات الفيدرالية ملفّاً لمراقبتها، وزعمت بعض وسائل الإعلام ومعارضو مواقفها السياسية آنذاك أن كيلر خاضعة للتضليل، وأن مواقفها ناتجة عن اطّلاع غير كاف. يتم التغافل عن كل هذه الفصول الهامة من حياة كيلر في معظم الأدبيات والأعمال الفنية المتخصصة بـ «تخليد ذكراها»، فلا تصلنا عنها سوى الصورة النمطية للفتاة البريئة، وأسطورة الإرادة الفردية التي قهرت الصمم والعمى بمساعدة معلمتها الطيبة.
[quotes]شاركت هيلين كيلر في اعتصامات مناهضة لخوض الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى، بالإضافة إلى دعمها للإضرابات العمالية وإصرارها على ربط مواجهة الإعاقة بتحقيق عدالة اجتماعية شاملة.[/quotes]
وما تجاهل سيرة كيلر الجذرية سوى نموذج واحد على منهجٍ تتبعه الطبقات الحاكمة في تطويع الثوريين على هيئة تناسب أجنداتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لكن حالة مارتن لوثر تبقى الأكثر جدلاً واستعصاءً في التاريخ الأميركي الحديث، نظراً إلى أهمية الدور الذي لعبه وإلى تأثيره الممتد عقوداً بعد اغتياله.
تبدأ المفارقة في كون الرجلين الوحيدين الذين حظيا بشرف عطلة وطنية تخلد ذكراهما، قبل مارتن لوثر، هما كريستوفر كولومبوس وجورج واشنطن: أما الأول فقد كان رائد الإبادة الجماعية والتطهير العرقي بحق سكان أميركا الأصليين، وأما الثاني فقد كان مالك عبيد لمعظم سنوات حياته، ودافع عن ضرورة عدم التسامح مع أي تمرّدٍ يقوده العبيد ضد أسيادهم، كما قدم الدعم الاقتصادي والعسكري لملّاكي العبيد الفرنسيين لمساعدتهم في قمع الثورة التي اندلعت في هاييتي في العام 1791.
ولا تنتهي المفارقة بكون رونالد ريغن الرئيسَ الذي صادق على الاعتراف بـ «يوم مارتن لوثر» كيوم عطلة رسمية، وهو الذي دشّنت إدارته حملات المداهمات والاعتقالات العنصرية التي استهدفت بشكل انتقائي أحياء تسكنها أكثرية سوداء. أطلق ريغن على الحملة التي أعلن عنها في تشرين الأول/أكتوبر من العام 1982 عنوان «الحرب على المخدرات»، حرب لا تزال رحاها تدور في الغيتوهات وأحزمة الفقر السوداء لتطحن مجتمعاتٍ كاملة، ملقيةً بمئات آلاف الشبّان السود والملوّنين تحت عجلة عدالة جنائية لا تتوانى عن سحقهم بقوانين تبدو حيادية، ثم تزجهم خلف قضبان لا يخرجون منها إلا مع وصمة عار ترافقهم مدى الحياة. لم تكن مصادقة قائد «الحرب على المخدرات» على الاعتراف بيوم مارتن لوثر كيوم عطلة إلا إجراءً شكليّاً، بعد موافقة الأغلبية في الكونغرس على سن القانون، ولكن مجرد التقاء الاسمين، أحدهما قاد حرباً على العنصرية والفقر، بينما افتتح الثاني حقبة جديدة من الحرب على الفقراء والسود، مجرد هذا الالتقاء يولد أشد أنواع السخرية مرارةً، تماماً مثل وضع إسم مارتن لوثر في خانة واحدة مع كولومبوس وجورج واشنطن.
[quotes]إعادة إنتاج القمع هي سمة مميزة لمختلف أنظمة السيادة البيضاء في تاريخ الولايات المتحدة.[/quotes]
قد يسارع البعض للقول بأن محاولات السلطة الحاكمة تخليد ذكرى ثوار عظماء وتكريمهم وتحويلهم إلى رموز، لا ينبغي أن تقابل بالريبة وافتراض سوء النية، بل علينا التعامل معها كمحاولة إنصاف لمناضلين ظُلموا في حياتهم، وهاهي السلطة تمنحهم المكانة التي يستحقّونها. ولكن الواقع أن النخبة البرجوازية الحاكمة، خاصة في نظام كالنظام الأميركي، المرتكز على أسسٍ عنصرية ورأسمالية هي في صلب تكوينه، وتقويضها يعني بالضرورة إسقاط هذا النظام برمّته، هذه النخبة أذكى بكثير من أن تسلّم بالهزيمة. فحال شعورها بأزوف انهيار منظومة القوانين العنصرية التي تضمن لها الهيمنة والسيادة، تقوم بالتحضير لإعادة إنتاج هذه المنظومة ولكن بشكل أقل فجاجة وأكثر مرونة من سابقتها، مع أنها لا تقل عنها قمعاً وعسفاً. ومواجهة هذه المنظومة الجديدة تحتِّم شكلاً مختلفاً من المقاومة غير ذلك الذي عهدته النخبة الحاكمة في معركتها السابقة، فنجحت بالتالي بتكييف ذخيرتها وأساليبها لمجابهته. إعادة إنتاج القمع هي سمة مميزة لمختلف أنظمة السيادة البيضاء في تاريخ الولايات المتحدة. فالمستعمِرون البيض الذين وضعوا أول لبنة في صرح أمتهم المتحضرة، على إنقاض السكان الأصليين ودمائهم، انتقلوا إلى مرحلة استعباد الأفارقة الذين حُمِّلت بهم السفن المتجهة إلى «العالم الجديد». وحين أصبحت المحافظة على العبودية عبئاً مكلفاً على الدولة اليافعة، استبدلتها بمنظومة عنصرية أخرى هي قوانين جيم كرو، حزمة من القوانين العنصرية دخلت حيّز التنفيذ عام 1891، بعد نهاية مرحلة إعادة الإعمار التي تلت الحرب الأهلية، وشرّعت الفصل العنصري بين السود والبيض في الجنوب. وعند انهيار قوانين جيم كرو رسمياً في العام 1965، بفضل ثورة الحقوق المدنية التي قادها مارتن لوثر، وبفضل حركات التحرر السوداء الأكثر جذريةً في حينه، كان لا بد للنخب من تبني سياسة أخرى تضمن استمرارية تفوّق البيض، وتتمكن من التعمير أكثر من سابقتيها. تم انتهاج الحبس الجماعي، أو ما يصطلح على معرفته بـ«قوانين جيم كرو الجديدة»، نسبة لكتاب المحامية والباحثة الحقوقية ميشيل ألكساندر. تضم الولايات المتحدة حوالي 5% من سكان العالم وتحتجز في سجونها ربع سجنائه، معظمهم من الرجال السود والملوّنين. وليس السجن إلا أول فصول معاناة هؤلاء، الذين يُعامَلون كمواطنين من درجة ثانية بعد خروجهم من السجن، حتى لو لم تتعدَّ التهم الموجهة إليهم تعاطي الحشيش أو ارتكاب سرقات صغيرة.
تتجلى مرونة المنظومة الجديدة وذكاؤها باستنادها إلى قوانين تبدو حيادية، إلا أن التمييز العنصري الموثَّق والمتجذّر في جهاز العدالة الجنائية الأميركي، يعني بالضرورة أن معظم الضحايا ينتمون إلى الشرائح الأكثر تهميشاً وحرماناً، أي السود، والملونين إلى حد أقل. ضحايا يصعب على «المواطن الصالح» التماهي معهم لأنهم يصدَّرون كجناة ومجرمين، إلى حد يدفع بعض قيادات حركة الحقوق المدنية والنخبة السوداء إلى التنصل من الدفاع عنهم، كونهم يروّجون لصورة سلبية للشاب الأسود في أعين المجتمع الأبيض.
وتمهيداً للعبور من نظام تفوّق أبيض شرّعته القوانين العنصرية الفظّة إلى نظام سيادة بيضاء يدّعي عمى الألوان ويطلي مخالبه بالشفافية، كان لا بد للنخبة الحاكمة من الاستعانة برمزية مارتن لوثر أثناء المرحلة الانتقالية، لمجابهة المد الأكثر ثوريّةً والمتمثل بمالكوم إكس، وحزب الفهود السود، وحركة «القوة السوداء». ومن ثم تم تحوير عباراته وصياغة تعاليمه في قالب جديد يلائم مشاريعها.
فنرى جل التركيز منصبّاً على خطاب «لدي حلم» الاحتفالي والمغرق في ورديّته، فيما يتم التعتيم على خطابات أخرى ألقاها كينغ مثل خطابه المناهض للحرب على فييتنام الذي ألقاه في نيسان/أبريل 1967، وأدان فيه المسوّغات المستخدمة للحرب، وأكد أن النضال من أجل المساواة في الداخل لا ينفصل عن النضال ضد حروب السيطرة والتوسّع التي تشنها الولايات المتحدة خارج حدودها.
حتى خطاب «لدي حلم» الذي حمل رسالة تصالحية ومعتدلة، وهي صفات تميز بها مارتن لوثر الشاب، قبل أن يتطوّر نضجه السياسي ووعيه الجذري في منتصف ستّينات القرن الماضي، تم اقتطاع أجزاء عديدة منه من سياقها العام وتحويلها إلى شعارات وإعلانات تسوّقها الدولة واليمين. فجملته الشهيرة «أحلم أن يأتي يوم يعيش فيه أطفالي الأربعة وسط أمة لا تحكم عليهم من خلال لون بشرتهم وإنما بأفعالهم»، يتم استغلالها من قبل اليمين الأميركي لرفض التفضيل المصحح باعتباره يتّخذ من لون البشرة معياراً، بتجاهل تام لسياق الفصل العنصري الذي وُلدت من رحمه هذه الأمنية.
[quotes]مارتن لوثر توصل إلى الوعي بأن النضال الطبقي لا ينفصل عن نضال السود من أجل حقوقهم المدنية، ولم يعتبر الفقر مشكلة فردية بل نتيجة سياسات الطبقة الحاكمة.[/quotes]
يمنح الطابع السلامي الطاغي على الكثير من تصريحات مارتن لوثر الشهيرة فرصة لاستخدامها في حملات ترويجية لثورات «ملونة» مفرغة من أي بعد جماهيري واقتصادي واجتماعي، أو في حملات التنمية البشرية التي يطلقها أصحاب رؤوس الأموال لـ«مكافحة» الفقر والجهل، وغالباً ما يُزج باسم مارتن لوثر وغاندي في الجملة نفسها في مديح اللاعنف. ما يغفله هؤلاء هو أن مارتن لوثر توصل إلى الوعي بأن النضال الطبقي لا ينفصل عن نضال السود من أجل حقوقهم المدنية، وأنه لم يعتبر الفقر مشكلة فردية بل نتيجة سياسات الطبقة الحاكمة. هذا ما دعاه لدعم تمرد واتس الذي تفجر في ضواحي لوس أنجلوس السوداء في آب/أغسطس في العام 1965، رغم الطابع العنيف للاحتجاجات، مؤكداً حينها أن جوهر الاحتجاجات طبقي. وهذا ما حدا به إلى تنظيم مسيرة الفقراء التي سعت لخلق وحدة نضالية بين الفقراء من السود والبيض والملوّنين على أساس طبقي. وجاء اغتيال كينغ حين كان في أوج تحضيره لمسيرة الفقراء في العام 1968.
هذا، إذن، هو الإرث الجذري المغيَّب الذي دعا المتظاهرون والمتظاهرات في 19 كانون الأول/يناير الماضي إلى استعادته، مستفيدين من الزخم الذي أنتجه الحراك الاجتماعي الجديد الذي بدأ في التبلور في أوساط الشباب الأميركيين الأفارقة خلال الأشهر الستة الأخيرة.
لقد ساهمت جريمة قتل المراهق الأعزل الأسود مايك براون في ضاحية فيرغسن في ولاية ميزوري على يد شرطي أبيض في آب/أغسطس من العام الماضي في إشعال حراك شبابي اتّخذ من عنوان «أرواح السود مهمة» شعاراً له.
تجاوز الحراك ضاحية فيرغسن ليشمل مدناً عديدة في الولايات المتحدة، وليخلق أطر تنظيمٍ جديدة تحررت من وصاية قادة حركة الحقوق المدنية القدامى الذين أصبحوا جزءاً من النخبة الحاكمة، ورفع الحراك مطالب جذرية تتعلق بإنهاء الحبس الجماعي والاستغلال والإفقار. تعاظم زخم هذه الحركة بعد قرار هيئة المحلّفين في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي بعدم إدانة دارين ويلسون، الشرطي الأبيض الذي قتل مايك براون، تبعه بعد أيام قليلة قرار هيئة المحلّفين بعدم إدانة رجال شرطة مدينة نيويورك الذين خنقوا حتى الموت الشاب الأسود إريك غارنر، بينما كان يصرخ «لا أستطيع التنفس».
يدرك الشبان المنغمسون في هذا الحراك أن عصر قوانين جيم كرو العنصرية لم ينتهِ، بل أعاد إنتاج نفسه بشكل مختلف وبوسائل قمع أحدث، كما ويدركون أن من يدينون مظاهراتهم أو أعمال الشغب التي يمارسونها، تحت مشجب اللا عنف الذي التزم به مارتن لوثر كينغ، هم أبعد ما يكون عن تعاليمه. وهذا ما دفعهم لرفع شعار استعادة مارتن لوثر.
[quotes]إن تسليط الضوء على إرث مارتن لوثر كينغ الجذري ومحاولة استعادته ليس نبشاً لقبور الموتى أو مجرد صراع رمزي على ما للرمزية من قوة وتأثير[/quotes]
ليس الاختلاف بين الشباب السود الذين يلقون الزجاجات الحارقة باتجاه رجال الشرطة، وبين رجال دين وسياسيين سود مقرّبين من الحزب الديمقراطي، كآل شاربتون وجيسي جاكسون الذين يدينون رد فعل الشباب أكثر من إدانتهم لمسببات هذا الرد، ليس الاختلاف بين الفريقين حول أساليب النضال فحسب، كما إنه ليس نابعاً من فرق العمر. إنه اختلاف بين من يرى أن المنظومة بأسرها فاسدة وينبغي الإطاحة بها، وبين جيلٍ يعتبر جرائم الشرطة أخطاءً فردية، ويمارس وصايته الأبوية على المحتجّين، مستغلّاً شرعية التحدث باسم مارتن لوثر كينغ.
لذلك فإن تسليط الضوء على إرث مارتن لوثر كينغ الجذري ومحاولة استعادته ليس نبشاً لقبور الموتى أو مجرد صراع رمزي على ما للرمزية من قوة وتأثير. يتركّز الصراع ضد تدجين ثورة لم يكن الحصول على الحقوق المدنية إلا جزءاً منها، وكان مارتن لوثر كينغ نفسه هو الذي قال أن قانون الحقوق المدنية ليس إلا البداية.
إن إعادة إحياء إرث مارتن لوثر الجذري تمثل خطوة في استعادة التاريخ الذي تحرص النخبة على تشويهه، وتنصيب نفسها وكيلة حصريّةً له، حتى عندما نعتقد أنها هُزمت في إحدى معاركها.